شمس الله تشرق على الغرب

أصل الأرقام العربية

عادل صديق

ماذا نعرف عن أرقامنا وأصلها ونشأتها؟ وكيفية تعريب النظام الرقمي وتطويره، ورحلة الأرقام إلى أوروبا، هذه الأسئلة وغيرها كانت مثار بحث للكثيرين حديثا،  كما أثارت الأرقام الكثير من الجدل قديما حول أصلها، والتطوير الذي حدث فيها حتى انتقال إرثها الحضاري إلى الغرب عقب تطوير جوهري أدخله العرب عليها. كانت الأرقام في تراثنا لها منزلة هي ذات المنزلة التي كانت للرياضيات التي عني بها المسلمون وأبدعوا فيها بعد نقلها إلى اللغة العربية لتنتقل الحضارة إلى الدولة الإسلامية وتصبغ عليها إبداعات جديدة، وينتقل ذلك كله إلى الغرب إبان شروق وغروب شمس حضارتنا التي وجدت مكانا جديدا مؤهلا بحملها وتطويرها .

الكثير من البحوث الأوروبية تحاول تغييبا متعمدا لدور المسلمين الحضاري، وأن الغرب الحديث حمل إرث الغرب القديم ” اليوناني ـ الروماني “، وإن حوصروا بأسئلة حول الحلقات المفقودة في مسيرة الحضارة ذكروا على استحياء أن العرب قاموا بنقل العلوم اليونانية إلى الغرب ـ فحسب ـ ولكن نجد منهم المنصفين الذين شهدوا بالحق وأن “شمس الله تشرق على الغرب” ، وأن ما لدى الغربيين الآن إنما هو إرث إسلامي جاء مع الفتوح الإسلامية التي أنارت العصور المظلمة ولولا معركة شارل مارتل ما توقف المد الإسلامي عند حدود أوروبا الشمالية .

والرياضيات ـ والأرقام جزء منها ـ إرث حضاري إنساني ساهمت فيه حضارات عديدة مثل الفرعونية، البابلية ، الهندية، الصينية، اليونانية ، الرومانية ، الإسلامية ، الأوروبية وكلها ساهمت في علوم الرياضيات بنصيب قلّ أو كثر.

أصل الأرقام العربية

كتاب”أصل الأرقام العربية”، لمؤلفه : لطفي محمود عبد الحليم،  ليتبنى رأيا يؤيده الكثيرون أن التجار العرب قد ابتكروا الأرقام التسعة، وأنها انتقلت إلى الهند عن طريقهم قبل الإسلام بكثير نتاج للصلة التجارية البحرية بين العرب وشبه القارة الهندية عبر بحر العرب والخليج العربي . وبالطبع أثار هذا الرأي العديد من التساؤلات المنطقية حيث الطرح  كان مدويا مما يجعل الكتاب ” أصل الأرقام العربية ” يشكل أهمية خاصة ، لعل أبحاثا رصينة تتمكن من الإمساك بخيوط القضية لتطرح لها حلا.

لم يكن المؤلف هو صاحب الرأي الأخير في القضية، ولكن يورد نقولاً في غاية الأهمية تسهم في التعريف بالأثر الفعال للتواجد العربي الإسلامي في كثير من الأقطار، بينما يحاول البعض طمس الهوية الإسلامية وأثرها على الشعوب التي كان لها احتكاك بالعرب، سواء دخلت الإسلام أم ظلت على معتقدها مع تأثرها التام بالثقافة التي كان يحملها المسلمون.

يمهد المؤلف لكتابه باستنكار لمقولة أن الأرقام الشائعة في البلدان المشرقية أصلها يعود إلى الهندية، وأننا هجرنا أرقامنا العربية التي نقلها الغرب عنا، بل وجد هذا الرأي دعما من الهند، ويشاع أن دور العرب لم يكن إلا النقل !!

ولكن ينفي المؤلف صلة النسب بين الهندية والأوروبية، وينسب الأرقام الأوروبية شرعيا إلى اللغة العربية !! بل العربية المغربية ثم انتقلت لأوروبا، وتعود بدورها إلى اللغة العربية وأن الصفر عربي أصيل تعلمه الهنود من العرب وليس العكس، وكان ذلك قبل الإسلام من خلال رحلات التجارة البحرية عبر بحر العرب والخليج العربي، حيث لعبت التجارة البرية أيضا عبر الجزيرة العربية ـ رحلة الشتاء والصيف ـ دورا في توصيل الأرقام والصفر  العربيين شمالا .

وكان البابليون يستعملون الرياضيات ” حساب المثلثات” في التنبؤ بمواعيد الكسوف للشمس والخسوف للقمر. وهذه المواعيد كانت مرتبطة بعباداتهم.

أما قدماء المصريون فكانوا يستخدمونه في بناء المعابد وتحديد زوايا الأهرامات. وكانوا يستخدمون الكسور وتحديد مساحة الدائرة بالتقريب. 

ويذكر المؤلف أن تاريخ الأرقام العربية وأصلها أدلى فيه عدد من المجتهدين بدلوهم دون أن يخرج الكثيرون بالنبأ اليقين على الوجه الأكمل فالكتابة العربية لا تعرف الانكسار بينما الحروف اللاتينية بها هذه الخاصية. ويذكر المؤلف أنه يعتمد فيما توصل إليه على عدة براهين منطقية،و تحليلية تاريخية، أو جغرافية، مخطوطية.

و يؤكد أن التجارة العربية كانت ترتبط بعلاقات مع  التجار الهندوس، وحملوا معهم الحروف عن طريق البحر العربي، ففي الوقت التي كانت الجزيرة تعاني من الفقر وشظف العيش كانت الهند دولة متقدمة، والتجارة أدت انتقال الكثير من الكلمات العربية إلى اللغات الهندية، وكذلك لغات الملايو. لقد عرفت روابط تاريخية بين جنوب، وجنوب شرق آسيا و الجنوب العربي، بل كان العرب الجنوبيون لهم خبرات ملاحية لم تكن متوفرة في العصور الوسطى لدى الأوروبيين مثل “ابن ماجد” الذي اتخذ دليلا مع رحلات “فاسكو داجاما” إلى الهند .

عرب العراق

 كان للعرب بالعراق صلات ساهمت لحد كبير في التأثير غير المباشر على الهند مما يدل على عمق الصلات وتبادل النفع والثقافة تأثيرا تأثرا في آن واحد، وكذلك الحال مع الإمارات القديمة المطلة على الخليج العربي، ويلاحظ انتشار مفردات العربية أكبر كثيرا من انتشار الأرقام التي كانت تلائم العاملين بالتجارة والعمل الحسابي فبقيت الأرقام العربية محدودة الانتشار في الأماكن التي كانت مرافئ للعرب في آسيا الهند ، سريلانكا وجنوب شرق آسيا ، حيث شكلت اللغة العربية رافدا هاما في لغات هذه البلدان كان له كبير الأثر عليها استخداما يوميا أو في المجال الثقافي والميراث العقلي .

ويضرب الكاتب مثلا بمسلمي سيلان ” فمسلمو سيلان هم من أصل عربي، فعلى الرغم من أن العرب كانوا يقصدون الجزيرة للتجارة فإن الهجرات الاستيطانية العربية في الجزيرة جاءت من كيريلا الساحل الغربي لجنوب الهند والذي يتحدث أهله لغة الملايالام ، ويذكر أن أول أسطول إسلامي أبحر في المحيط الهندي كان في العام 636 ميلادية في خلافة عمر بن الخطاب وحينها بدأ الاستقرار على ساحل كيريلا حيث استقر العرب القدماء قبل الإسلام، ومال العرب للاستيطان في مناطق أخرى مثل تاميل نادو وانتشروا على الساحل الشرقي ، شكل المسلمون في سريلانكا أغلبية حتى وصول البرتغاليين في العام 1505 م الذين كان لهم أثر مدمر على المسلمين حيث كانوا الغريم القوي فاستخدموا القوة المفرطة للقضاء عليهم أو تقليص عددهم رغم أن العرب لم يكونوا أهل حرب .

ويذكر المؤلف أن الأرقام المشرقية عربية، ولم تكن منقولة من الهند، فلم يكن البيروني 362 ـ 440 هـ ناقلا للأرقام الهندية ولم يصح قول منسوب إلى البيروني: ” نحن العرب نستخدم الأحرف الحسابية وفقا لقيمتها العددية بينما الهنود لا يستخدمونها في الكتابة في المناطق المختلفة من بلادهم بل ترجمه المستشرقون ترجمة خاطئة “.

نشأة الأرقام العربية

يذكر الكاتب أن العرب سبقوا في استخدام رموز اللغة العربة في العد وهو المعروف بحساب الجمّل مع تفاوت ترتيبه بين المشرق والمغرب، ويذكر أن استخدام الأرقام الإغريقية لترقيم البرديات العربية عادة وليس لعدم وجود الرقم العربي، كما استخدموا ألأسلوب الديواني في الترقيم في الشرق في كتابة التواريخ وغيرها من الأعداد في المخطوطات الديوانية .

 ثم يورد المؤلف قولا لـ ” ابن النديم” توفي 1000 م في كتابه الفهرست إن الهنود كانوا يستخدمون الأرقام التسعة العربية ويكتبون بها في مكاتباتهم الديوانية 1 ، 2 ، 3، 000 أي يتبعون النظام العربي ، ويذكر المؤلف أن الأرقام السالفة الذكر استخدمها الخوارزمي ، والفزاري قبل ابن النديم بـ 200 عام، ويأتي الرقم المغربي وله أيضا أصوله المعتمدة.

الكتابات الهندية

 يذكر المؤلف أن في الهند 18 لغة في كافة ولايات الهند بعضها يستخدم في الدول المجاورة، وتكتب اللغات الهندية بـ 11 خطا إضافة للغة الأوردو التي يكتب بها المسلمون، ويتحدثون بها حيث تكون من عدد من اللغات التي احتكت بها وهي لغة المعسكرات للمرابطين من المسلمين في تلك المناطق، ويخص المؤلف إلى أن كثيرا من اللغات تكتب بالخط الديفنجاري الأقدم عمرا، وأن سدس الخطوط تكتب بها اللغات الآرية ARYAN تليها المجموعة الرباعية الثانية التي تكتب بـ الدرافيدية DRAVIDIAN، وأن الكثير من اللغات تكتب الأرقام فيها باختلاف بسيط كدوران الحرف يمينا أو يسارا، ويخلص إلى وجود تشابه في الشكل غالبا بين الأرقام العربية ” المشرقية والمغربية ـ الغابرة “وبين الأرقام في الخط الديفاناجاري DEVANAGARI ، والخطوط الرئيسة في الكتابة هي التي كانت تستخدم في كتابة لغات باكستان قبل دخولها الإسلام، وغرب ووسط الهند أي الجزء المجاور لبحر العرب المطل على الخليج العربي ، وبلاد فارس ، والجنوب العربي .

 العلاقات العربية الأوروبية

 ثم يتجه المؤلف إلى الأرقام العربية التي انتقلت إلى أوروبا ويستخدمها الأوروبيون الآن ، فيسجل التاريخ أن العالم الإسلامي عقب الفتوح عاش ازدهارا كبيرا بخلاف ما كان في أوروبا، ونشطت التجارة بين العالم الإسلامي والأوروبي عبر البحر المتوسط من خلال الموانئ الإيطالية،  فسادت الكثير من الألفاظ العربية في المجالات المختلفة. مثلا المواد الغذائية:  بالفرنسية مثلا السكرSUCRE ، الأرز RIZ، أصابع الموز بنان BANANE، الملابس القماش الشفاف CHIFFON، المخزن MAGZIN ، وغيرها، ونقل الغربيون علوم العرب حيث قام فلافيو بصناعة البوصلة، وترك الإيطاليون رسما وافيا للبوصلة لها في مؤلفاتهم به حروف عربية وأرقام الزوايا العربية .

ويذكر المؤلف أن الباحثة المستشرقة الألمانية سيجريد هونكه Sigrid Hunke في كتابها “شمس الله تشرق على الغرب” أنه في عام 973 م  توجه وفدا إلى المملكة الجرمانية بحرا موفدا من الخليفة الأموي الأندلسي المستنصر بالله الحكم الثاني بهدية إلى قيصر المملكة الجرمانية أوفاخ الكبير في مدينة ماينز الألمانية على نهر الراين، فناول تاجرٌ ألماني رئيس الوفد “سيدي إبراهيم بن أحمد الطرطوسي” قطعا من النقود العربية جلبت من سمرقند “أوزبكستان ” وتحمل اسما عربيا بالخط الكوفي وسكّت بتاريخ 301 هـ 913 م .

تعاون قديم له جذور

وإن دلّ ذلك على شيء فإنه يدل على العلاقات القوية والتي كانت مزدهرة في هذا العصر المبكر حيث تقول هونكه في كتابها عن رحلة الأرقام العربية منذ نشأتها إلى أن عمت أوروبا، وكلامها مبني على حقائق موثقة . ومما قالته هونكة :” رغم أن معظم الغربيين يقرءون الأعداد من اليسار إلى اليمين شأن اللغات الغربية، إلا أن الألمان لا يزالون متأثرين بالاتجاه اليميني العربي في قراءة الأعداد فهم يقرءون الآحاد قبل العشرات .

وكذلك الحال لدى الهنود فهم يفصلون بين الرقم والآخر بحرف أبجدي يعبر عن الرقم العشري، وتوصّل الهنود لمعرفة الصفر لأول مرة في شكل دائرة أو نقطة ليضعوها في الموضع الخالي من أي قيمة، ولم يكن الصفر معروفا لدى سويروس السوري ولا ندري كيف استطاع أن يتلافى هذا النقص، وفي العام 628م ألف الفلكي الهندي براهماجوبتا كتابه في الفلك مستخدما الأرقام العشرة، وهذا التقدير يدل على معرفة المسلمين بالصفر. والفزاري ترجم الكتاب كانكاه kankah بما فيه من الصفر مما يناقض الزعم بنقل العرب للأرقام عن الهنود .

ويكثر المؤلف النقل عن المستشرقة هونكه ليثبت أن الأرقام العربية وصلت كاملة غير منقوصة من العرب إلى أوروبا والغرب والشرق على حد سواء . ثم يعرج المؤلف إلى الهند ليدلل على عروبة أرقامها كما ورد في مقال الكاتب موناسينج  كيف ابتكرت الأرقام السنهالية القديمة ويورد الكاتب الأرقام 2 : 9 من اليسار كأقدم نقش حجري معروف وهو محفوظ في ناناجات ، وكثيرة هي النقوش التي تم اكتشافها وكلها تثبت أصالة الرقم العربي رغم جفاء وقسوة البيئة العربية الصحراوية .

ويخلص الكاتب إلى أن :

ـ البيئة العربية لم تكن تكتب ولكن تميل للحفظ، وأن خطأ الترجمة أو التزييف، وكراهة الإسلام أسباب عدم عزو الحق إلى أصحابه ، وأن كتابة الأعداد بالخط العربي أقرب إلى اللغة العربية عنها إلى الحروف الهجائية الهندية، يضاف إلى ذلك تبعثر صور الأرقام بين الكتابات الهندية يبعد الهند عن مصدرية الأرقام.

ـ عندما نقل العرب الأسماء في الترجمة نقلوها كما هي، ولكن الصفر في اللغة العربية حافظ على وحدويته لدى العرب في حين عدده في اللغات الهندية. يؤكد كل ذلك ابتكار العرب للأرقام في الكتابات المشرقية والمغربية بما فيها الصفر وتضعف النسبة للغات الهندية.

وأخيرا فان كتاب “أصل الأرقام العربية “يستحق القراءة من الجميع .

.