أمريكا والصين .. جولات من الصراع

عاطف عبد العظيم

قال مسؤولون كبار بصندوق النقد الدولي إن توترات التجارة بين الولايات المتحدة والصين تعد مصدراً كبيراً للمخاطر التي تهدد الاقتصاد العالمي، مع “تأثيرات حقيقية” على الأسواق الناشئة.

وقال مدير إدارة أسواق النقد والمال لدى صندوق النقد إن حرب التجارة بين واشنطن وبكين أثرت بشكل كبير على الأسواق المالية على مدى العامين الأخيرين، وإن تأثير النزاع ربما يمتد إلى الاقتصادات الأصغر.

وتابع “نحث صناع السياسات في أنحاء العالم على مواصلة العمل معاً لإزالة تلك التوترات التجارية لأنها مصدر كبير للضبابية والمخاطر.. هناك تأثيرات حقيقية على الأسواق الناشئة”.

وقال إن الناتج المحلي الإجمالي العالمي سينخفض 0.8% إذا فرضت واشنطن وبكين الرسوم التجارية الإضافية في وديسمبر ـ كانون الأول، لكنه سيتراجع 0.6% فقط إذا تخلت الدولتان عن الزيادات الجديدة.

هذا وحذر وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر من مواجهة، ما زال يمكن تفاديها، بين الولايات المتحدة والصين، مضيفاً أنهما “على أعتاب حرب باردة”، قد يكون فيها الصراع بين البلدين أسوأ من الحرب العالمية الأولى إذا تم ترك الأمور تمضي دون سيطرة، لدولتين كبيرتين كونهما أكبر اقتصادين في العالم.

وأضاف كيسنجر، أنه خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، كان وضع خطة لخفض القدرات النووية للقوتين على رأس الأولويات. وتابع، أنه إذا واصل الطرفان النظر إلى “كل قضية في العالم على أنها نزاع بينهما”، فقد يكون ذلك “خطيراً على البشرية”. لكن وبما أن النزاعات بين الولايات المتحدة والصين كانت دائماً “غير فعلية”، حذر كيسنجر من أن واشنطن لا تملك إطاراً للتعامل مع بكين “كقوة عسكرية”.

وقال في كلمة له أمام جلسة منتدى الاقتصاد الجديد” المعني بموضوعات الحوكمة العالمية، وأسواق المال، والتجارة، والتكنولوجيا، والتغير المناخي “عليهما مراقبة تأثير تحركاتهما ضد بعضهما بعضاً في كل أنحاء العالم، مع الاهتمام بأهداف الطرف الآخر”.

وقال كيسنجر «من وجهة نظري، فإن هذه الحقيقة تجعل من المهم بذل جهد حقيقي لفهم الأسباب السياسية لفترة التوتر الحالية، وأهمية التزام الطرفين بمحاولة التغلب على هذه الأسباب… والوقت لم يتأخر تماماً لكي نقوم بهذا الجهد؛ لأننا ما زلنا على أعتاب حرب باردة».

وعبّر كيسنجر (96 عاماً)، في مؤتمر نظمته مجموعة وسائل الإعلام «بلومبرغ» في بكين، عن قلقه من المواجهة التجارية الجارية بين واشنطن وبكين منذ العام الماضي، والتي تتمثل بتبادل فرض رسوم تجارية على واردتهما.

وقال محذراً «إذا تركنا النزاع يتصاعد، فقد تكون النتيجة أسوأ مما حدث في أوروبا» في القرن العشرين. وأضاف، أن «الحرب العالمية الأولى اندلعت نتيجة أزمة صغيرة نسبياً (…) بينما الأسلحة أقوى بكثير اليوم… إذا سمحنا للصراع بالخروج عن السيطرة، فإن النتيجة قد تكون أسوأ مما حدث في أوروبا. فقد تفجرت الحرب العالمية الأولى بسبب أزمة بسيطة نسبياً فشلت أطرافها في إدارتها»، مضيفاً أنه يتمنى أن تؤدي المفاوضات التجارية بين واشنطن وبكين إلى فتح باب أمام محادثات سياسية بين البلدين.

وقال كيسنجر، الذي تولى وزارة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون في النصف الأول من سبعينات القرن العشرين: «الكل يعرف أن المفاوضات التجارية ستكون ناجحة من وجهة نظري في حالة واحدة فقط، وهي أن تفتح الباب أمام مناقشة سياسية أتمنى حدوثها».

وأشارت وكالة «بلومبرغ» للأنباء إلى أن حديث كيسنجر جاء بعد ساعات من حديث نائب الرئيس الصيني وانج كيشان أمام «منتدى نيكست أينشتاين» (منتدى أينشتاين القادم) الذي قال فيه، إن بلاده ملتزمة بالسلام وستسعى إليه من خلال تغيير السياسات، رغم أنها تواجه تحديات في الداخل والخارج. وقال نائب الرئيس الصيني «عندما يكون الاختيار بين الحرب والسلام، اختار الشعب الصيني السلام بقوة. الإنسانية تعتز بالسلام… علينا التخلي عن التفكير بطريقة المعادلة الصفرية وعقلية الحرب الباردة».

ويقول كيسنجر، إنه يعتقد أنه يمكن حل أزمة الاحتجاجات في هونغ كونغ، ويأمل في تحقيق ذلك عبر المفاوضات.

ورداً على سؤال عما إذا كانت الاضطرابات في هونغ كونغ يمكن أن تشكل «الشرارة» لحرب باردة جديدة، قال كيسنجر، إنه يأمل أن تتم تسوية هذه القضية «بالمفاوضات».

وكان كيسنجر سافر في 1971 سراً إلى بكين لبدء محادثات حول العلاقات بين الولايات المتحدة والصين الشيوعية. وهو يلقى إلى اليوم تقديراً في الصين التي تستقبله بحفاوة عندما يزورها، والتقى الرئيس شي جينبينغ عندما زار بكين في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي.

يذكر أن الحلقة النقاشية التي عقدها منتدى الاقتصاد الجديد ضمت بيل جيتس مؤسس إمبراطورية البرمجيات الأميركية «مايكروسوفت» ووزير الخزانة الأميركي الأسبق هانك بولسون. وإلى جانب خلافهما التجاري، يتواجه البلدان استراتيجياً، خصوصاً بشأن تايوان وبحر الصين الجنوبي اللذين تؤكد الصين سيادتها عليهما.

ما تعنيه الحرب التجارية بالنسبة للمستهلكين

لذلك، على الرغم من أن المشاهدين الغربيين قد يهتمون فقط بمطالب الولايات المتحدة باعتبارها العامل الرئيسي الذي يدفع الصين لتقديم تنازلات في الحرب التجارية، فمن المهم أن نتذكر أنه على الحزب الشيوعي التعامل مع ديناميكيات داخلية محتملة محفوفة بالمخاطر في وطنه الخاص.

تشير السياسة الداخلية في كل من الولايات المتحدة والصين إلى أن الضغوط التي ستواجهها  الصين لمواصلة تحرير السوق في السنوات القادمة، لن تخفت. ومع ذلك، ونظراً إلى غموض عملية اتخاذ القرار في الحزب الشيوعي الصيني، فإنه ليس من المؤكد استمرار الصين في اتباع مسارها الذاتي “للوصول إلى اقتصاد عالمي مفتوح”.

وفي الوقت نفسه، سوف تثني الأجواء المسرحية لتلك الحرب التجارية المستمرة بكين عن تقديم تنازلات علنية. إذ أن شي لا يستطيع التراجع، خوفاً من أن يتناقض مع دعواته الخاصة من أجل تحقيق “تجديد عظيم للأمة الصينية”، والذي يتعارض كلياً مع قرن المذلة. لكن خوف الحزب الشيوعي الصيني من السخرية العامة واقتناع إدارة ترامب بأن الحروب التجارية “جيدة وسهلة الفوز” كلاهما لا يؤدي تلقائيًا إلى فك الارتباط الاقتصادي. وفي الواقع، فإن تقدم الصين في سلسلة قيمة التصنيع، وهو اتجاه بدأ قبل أن يتولى ترامب الرئاسة، يمكنه أن يساعد على الاستقرار الاستراتيجي من خلال تشجيع التنويع التدريجي للروابط الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين.

في الوقت الحاضر، تظل الشركات الأمريكية عرضة للتدابير الاقتصادية القسرية للصين، التي استهدفت في السابق حلفاء للولايات المتحدة بما في ذلك كوريا الجنوبية واليابان. إن الحد من قدرة الصين على إضعاف الرفاهية الاقتصادية للولايات المتحدة يمكن أن يحد من فرص التوتر المستقبلي في العلاقات الثنائية. ومن المؤكد أن كبار المفكرين الصينيين يدعون إلى العكس. بعد أن قررت إدارة ترامب فرض حظر على التصدير لشركة زد تي إي ZTE – بطل الصين الوطني في شراء المكونات الأساسية اللازمة لتصنيع منتجاتها الراقية إلى أن عكس ترامب القرار في نهاية المطاف – أصدر شي دعوة واضحة للشركات الصينية لتسريع الجهود لتحقيق إنتاج شرائح محلية، مما يحد من فعالية الحظر على الصادرات من الولايات المتحدة في المستقبل.

وفي النهاية، ستخلق الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، والتي من الواضح أنها تصل إلى نهايتها – والتي شكّلها معارضو كل من ترامب وشي- شيئًا مختلفًا بشكل واضح عن العلاقات الاقتصادية الثنائية السابقة. لكن هذا لا يعني أن الفصل الاقتصادي، والمقارنات الخطيرة المرتبطة بالحرب الباردة، هي النتيجة المنطقية للحرب التجارية. ما هو أكثر احتمالًا بكثير هو أن كلاً من الولايات المتحدة والصين ستحميان التكنولوجيا عالية القيمة المهمة لمصالحهما القومية، كما ستقومان بتنمية فائض سلسلة الإمداد، ومواصلة الارتباط الاقتصادي مع القوى المتوسطة الناشئة في جنوب شرق آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وعلى المدى الطويل، لا يزال من الممكن للولايات المتحدة والصين تحقيق تنوع أكثر صحة للروابط الاقتصادية التي من شأنها تشكيل طريق نحو نظام اقتصادي جديد.

زوال القوة

في خضم النقاش حول زوال التعددية وظهور عالم G2 الذي تهيمن عليه أمريكا والصين، من السهل أن ننسى أن نظامًا مشابهًا – يضم الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي – كان قائما منذ عقود بعد الحرب العالمية الثانية. في أواخر السبعينيات والثمانينيات فقط أصبح من الواضح أن النظام السوفيتي لم يستطع التنافس مع رأسمالية السوق. بعد سقوط حائط برلين في عام 1989 والانهيار السوفيتي الذي تلا ذلك، تخلّى ذلك العالم عن هذا النظام وأصبح عالما أحادياً، حيث لم تتمكن جميع البلدان الأخرى من منافسة أمريكا كقوة عظمى عالمية.

كان ربع القرن الذي تلا ذلك عبارة عن فترة من التعددية الليبرالية القائمة على القواعد. يبدو أن الديمقراطية والرأسمالية القائمة على السوق قد نجحت فيما أطلق عليه فرانسيس فوكوياما “نهاية التاريخ”. وقد دافعت الولايات المتحدة على نطاق واسع عن هذا النظام ومثل معظم البلدان، استفادت بشكل كبير من العولمة وظهور سلاسل قيمة معقدة جديدة.

لكن الصعود المُفاجئ للصين خلال هذه الفترة قد وضع حداً لهذا النظام الأحادي. على الرغم من أن أمريكا لا تزال القوة الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية الرائدة في العالم، إلا أنها يجب عليها مشاركة هذا الوضع مع الصين.

يُجادل البعض بأننا نعيش الآن في عالم متعدد الأقطاب، حيث تتمتع البلدان المتوسطة المهمة بقدرة كافية للتأثير في الشؤون العالمية. من وجهة النظر هذه، رغم أن العالم ليس مُسطحا، إلا أنه يحتوي على العديد من المحاور في مجالات مثل التدفقات المالية والتجارة وإدارة البيانات الكبيرة والإنترنت. يبرز هذا الهيكل المحوري بدوره العديد من الأشكال المختلفة للتعاون والمنافسة المحتملة بين الحكومات.

يقدم هذا النموذج وصفًا منطقيا لدور بعض الدول مثل الهند وألمانيا وروسيا والبرازيل واليابان في النظام العالمي الحالي. كما يُبين كيف تعتمد القوى والفرص لتشكيل تحالفات فعالة للعمل الجماعي على القضية المعنية وعلى انقسام أو تركيز المصالح المرتبطة بها.

مستقبل غير واضح

يمكن لبعض التطورات تغيير الوضع الحالي. أولاً، يمكن أن تتطور كل من الصين والولايات المتحدة بطريقة تُقربهما أيديولوجيًا. يمكن لإدارة أمريكية جديدة بعد انتخابات عام 2020 الرئاسية أن تقود مسارًا دوليا، في حين أن التقدم الاقتصادي الملحوظ في الصين قد يؤدي إلى التحرير السياسي التدريجي، ولكن من غير المرجح أن يتحقق هذا الاحتمال اليوم. إذا أحرزت هذه الحركات أي تقدم، فيمكن أن تُعزز بعضها البعض. 

ثانياً، يمكن أن يصبح الاتحاد الأوروبي الأكثر تكاملاً القوة العظمى الثالثة ويلعب دورًا رئيسيًا في تحقيق التوازن بين الولايات المتحدة والصين. تتمتع أوروبا بالموارد الاقتصادية والمالية والتكنولوجية والبشرية اللازمة، كما أن التعددية مهمة للغاية بالنسبة للاتحاد الأوروبي.

من الناحية المثالية، ستجري تلك التطورات في وقت واحد. إذا سعت أوروبا إلى تحقيق تكامل أكثر وتطلعت أمريكا للخارج لتعزيز روابطها فسيتم دعم تعددية الأطراف مرة أخرى باعتبارها أفضل طريقة للحفاظ على السلام وتقديم المنافع العامة العالمية مثل حماية المناخ، وسيكون من الأصعب والمكلف أن تبقى الصين جانبا.

لكن على المدى الطويل، من المرجح أن تُنافس القوة الصينية القوة الأمريكية والأوروبية مجتمعة.وعلى الرغم من أنه يجب التعامل بحذر مع التوقعات الاقتصادية الطويلة الأجل، فإن توقعات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لنمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي تُشير إلى أنه بحلول عام 2040، سيكون الاقتصاد الصيني كبيرًا مثل اقتصاد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. بطبيعة الحال، يُعد الناتج المحلي الإجمالي مجرد مقياس واحد، لكن المقاييس الأخرى المتعلقة بالتكنولوجيا أو المهارات تحقق نتائج مماثلة.

.