مجموعة “بريكس” ومستقبل النظام العالمي

منى عبد الفتاح

بعد الزخم الذي وجدته مجموعة دول الاقتصادات الناشئة “بريكس”، وما حملته قمتها  15 التي عقدت في جوهانسبورغ بجنوب أفريقيا، إذ وجهت رسائل واضحة بتوسيع نطاق العضوية، سيكون من الصعب تغيير أهداف وطموحات دولها الخمس، إضافة إلى الدول الست التي أعلن عن انضمامها، ودول أخرى طامحة في الانضمام. ومع ذلك، فإنه من الممكن للغرب المتحفز والمناهض لصعود التكتل، التأثير في وسائل تحقيق أهدافها، والحد من طموحها.

فمنذ تشكيلها لصياغة نظام دولي جديد متعدد الأقطاب ظلت “بريكس” تعمل من أجل تعزيز مبدأ سيادة الدول واستقلالها، وخلق توازن اقتصادي دولي، بدأ بطرح إدخال إصلاحات على المؤسسات الدولية والمالية، خصوصاً صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

عندما صاغ المتخصص في الشأن الاقتصادي السابق في بنك “غولدمان ساكس”، جيم أونيل وهو الآن كبير مستشاري مؤسسة “تشاتام هاوس” الفكرية في المملكة المتحدة، مصطلح “بريك” كان ذلك لوصف صعود البلدان سريعة النمو مثل: البرازيل وروسيا والهند والصين في عام 2001، ثم لحقت بها جنوب أفريقيا عام 2010، لتعرف بـعد ذلك بـ”بريكس”، وحينذاك لم تكن مسألة اللحاق بالغرب الصاعد بقوة وصلت عندها إلى درجة اليقين، ولكن بعد تأثير الأزمة المالية العالمية في عامي 2008، و2009، واستمرت تبعاتها خلال العقد التالي لها، قضاه الاقتصاد العالمي في التعافي والنمو من تداعياتها، لمع اسمها بقوة، وحفز ذلك تحالف دول المجموعة بإعادة تشكيل النظام العالمي من خلال تحويل القوة من “الشمال العالمي” إلى “الجنوب العالمي”.

وبعد القمة الأخيرة في جنوب أفريقيا بدا واضحاً بروز دور دول الجنوب، وعزمها على مواصلة ما تعده دوراً مستحقاً في هذا التوجه.

 وفي إطار إعادة تشكيل المشهد الاقتصادي السياسي لصالحها، أنشأت المجموعة “مجلس أعمال بريكس”، و”اتفاقية احتياطي الطوارئ”، التي توفر دعم السيولة على المدى القصير، و”بنك التنمية الجديد” في عام 2015 كبديل لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، الذي يدعم مشاريع التنمية في دول المجموعة، وأصبحت “بريكس” تمثل نحو 24 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، و42 في المئة من سكان العالم، و18 في المئة من التجارة العالمية، وتعد نفسها بديلاً عن الهيمنة الاقتصادية الغربية.

تحالف صاعد

 لم تقتصر أهداف “بريكس” على التوجه الاقتصادي والنمو فقط، وإنما تسعى إلى أن تكون فاعلة على المسرح السياسي العالمي، في مجالات الوساطة والمفاوضات الدولية وفض النزاعات وجهود حفظ السلام، وفي ذلك تؤكد أنها لا تهدف إلى أن تحل محل الدول الغربية، ومع ذلك تنادي بإحداث تأثير أكبر في الشؤون العالمية من خلال نظام اقتصادي وسياسي عالمي أكثر إنصافاً.

 كان مقرراً في هذه القمة مناقشة موضوع “التخلص من الدولرة”، بهدف تقليل الاعتماد على الدولار الأميركي وتعزيز استخدام العملات المحلية في التجارة الدولية، وهي فكرة طرحتها البرازيل في وقت سابق ولاقت هوى عند روسيا والصين وهما الأحرص على إضعاف مكانة العملة الأميركية في الاقتصاد العالمي، ثم نوقشت مرة أخرى بعد أن فرضت الولايات المتحدة عقوبات على روسيا في أعقاب الحرب الروسية – الأوكرانية، إذ رأت المجموعة أن “العملة المشتركة بين دول بريكس يمكن أن تؤدي إلى إقامة علاقات اقتصادية أقوى وتحالفات جيوسياسية جديدة، مما يعزز مكانتها بشكل أكبر كتحالف صاعد لنزع الدولار”.

ولكن بدلاً عن ذلك، ناقشت القمة سبل توسيع التجارة بين بلدانها بعملاتهم المحلية كوسيلة للاعتماد بشكل أقل على الدولار، من دون إغفال مشروع استخدام دول “بريكس” لعملة موحدة في المعاملات التجارية والاستثمارية ما من شأنه أن يزيد من خيارات الدفع بين دول المجموعة ويقلل من نقاط الضعف، وذلك ربما يقود إلى أنه بحلول عام 2030، يمكن أن تسهم دول المجموعة بأكثر من 50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، خصوصاً مع خطة توسيع عضويتها التي تشمل دولاً لها ثقلها الاقتصادي مثل السعودية.

ولا تقتصر تطلعات “بريكس” على ذلك فقط، وإنما تحاول تغيير محاور الابتكار والاستثمار في التعليم والبحث والتطوير التي تمركزت خلال عقود حول الغرب، إضافة إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي، وترى أنه آن الأوان لتبادل المعرفة والخبرة معها بالاستفادة من قوتها الجماعية وطاقتها السكانية المتمثلة في الشباب في عديد من بلدانها ذات الاقتصادات الناشئة، مما يحفز على الاهتمام بها كمحركات للنمو الاقتصادي العالمي.

زعامة الجنوب

حمل تأكيد التعهد الذي أطلقته مجموعة “بريكس” بأن تصبح زعيمة “الجنوب العالمي” النامي، مدلولات زادت منها انطلاقتها من القارة الأفريقية. وخلال سنوات تأسيسها وإثبات وجودها، كانت “بريكس” في عملية تحول مستمرة، وجوهر بنائها هو توحيدها البلدان التي يتوقع أن تصبح أقوى اقتصادات العالم في القرن 21.

وشهد العقدان الماضيان تحولات سياسية واقتصادية كبيرة داخل دول “بريكس”، تركت آثارها على ديناميتها الإقليمية، ونسبة لهذه الآمال الكبيرة، فإنه ليس من المنطقي أن تعمل المجموعة بمعزل عن بقية دول العالم المتقدم، ونزولاً عند هذا الواقع، فإن النظرة لأي قيادة جماعية للعالم، تبدو غريبة على نظام عالمي قضى عقود من تاريخه الحديث في ظل نظام ثنائي القطبية ثم أحادي القطبية.

 الرهان على تراجع قوة الولايات المتحدة الذي تسرب من بين ثنايا خطاب بعض قادة “بريكس” يركز على القيادة الأميركية للعالم، في الوقت الذي فرضت فيه العولمة نظاماً مهيأ لاستيعاب قوى صاعدة مثل دول المجموعة، بالتالي فإن زيادة وتيرة العولمة تصب في مصلحة هذه الدول لأنها تخفف من مخاوفها من الهيمنة الأميركية، لاسيما مع زيادة فرص نشاطها ومشاركتها الفاعلة في المنظمات الدولية والإقليمية باستخدام ثقلها التصويتي للمساعدة في الحفاظ على احترام سيادة دولها وتأسيس تعاون إقليمي لحل الأزمات والصراعات، بالتأثير في قرارات مجلس الأمن الدولي، الذي لدى روسيا والصين عضوية دائمة فيه، بينما تطمح الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا إلى النفوذ العالمي نظراً لتأهيلها كقوى إقليمية.

ولكل من دول “بريكس” خططها التي شرعت فيها لخلق مكانة إقليمية وعالمية رائدة، مثل مبادرة “الحزام والطريق” التي تربط القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا، وركزت الصين وغيرها من دول المجموعة على تأسيس مؤسسات داعمة لمشاريعها مثل صندوق طريق الحرير، وبنك التنمية الجديد لـ”بريكس”، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وغيرها.

تكتل مؤثر

تطورت دول “بريكس” من مجرد اقتصادات ناشئة إلى تكتل مؤثر على الساحة الدولية، ويعد إطارها تجربة جديدة للقيادة الجماعية التي تطورها الحضارة في بيئة العولمة، بما يغذي الهدف الشامل المتمثل في إنشاء إطار عمل مستقر يستمر لعقود قادمة ويؤدي في الوقت نفسه إلى تعاون مثمر.

وحين تدعو هذه الدول إلى إجراء إصلاحات في عديد من المؤسسات العالمية، فإن حجتها هي أنها ممثلة تمثيلاً ناقصاً، وتدعو إلى أن تكون أكثر شمولاً، وتأكيد هذه المطالب الإصلاحية التي تبدأ من هيكل الأمم المتحدة، ثم تشمل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمنظمات الأخرى مثل منظمة التجارة العالمية ومنظمة الصحة العالمية وغيرها، أسهمت فيه عوامل عدة، منها انهيار النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، وأفريقيا وتصاعد التوترات المزعزعة للاستقرار، الذي بدأ بالحروب والنزاعات المتواصلة، ولم ينته عند انتفاضات “الربيع العربي”، بل عم الإرهاب أجزاء كبيرة من أفريقيا وآسيا.

العامل الثاني هو تلاشي التحالفات الدولية بمعاناة الغرب من مشكلات ناتجة من سياسات دوله الخارجية تجاه “جنوب العالم” بل تطور الأمر من إهمال العلاقات إلى تحميل هذه الدول المسؤولية عن أزمة اللاجئين وتصدير الإرهابيين وقضايا تغير المناخ وغيرها، مما حفزها إلى حل مشكلاتها من دون انتظار حلول مؤجلة تدفع مقابلها الكثير.

إضافة إلى ذلك فإن التنافس المحتدم بين القوى العظمى حول أجزاء من جنوب العالم الغنية بثرواتها ومواردها الطبيعية ومواقعها الاستراتيجية، خصوصاً مع تباطؤ الاقتصاد العالمي، ولد اهتماماً كبيراً بإنشاء إطار عمل مستقر بين دول المجموعة خلال العقود المقبلة من خلال التعاون بينها والتزود بالمرونة المؤسسية وصياغة سياسات دينامية وشاملة.

تكوين جيوسياسي

على رغم تأكيد إمكانية أن تصبح “بريكس” آلية جديدة للحوكمة العالمية، باعتبار أن الاختلاف في نماذج التنمية يمكن أن يخلق تكاملاً بين هذه الدول في تأثيرها الاقتصادي والسياسي على العالم، إلا أن هناك مقاربات أخرى تميل إلى عدم التفاؤل بمستقبل هذه المجموعة، وفقاً لعوامل عدة بدأت ملامحها في الظهور.

إحدى المقاربات هي أن رؤية دول “بريكس” مجرد مجموعة دول متحدة ظاهرياً على أساس مؤشراتها الاقتصادية، وهو ما ليس كافياً، وفقاً لوجهة النظر هذه، في أن تتوحد جهودها، ومثال لذلك اختلاف الصين والهند حول موضوع توسيع التكتل ليضم دولاً أخرى، إضافة إلى اختلافاتهما التاريخية.

التوترات العالمية الناجمة عن الحرب الروسية – الأوكرانية والتنافس المتزايد بين الولايات المتحدة والصين، وتناوشهما في عدد من النقاط الاستراتيجية العالمية، يزيد من معاناة دول “بريكس” من انقسامات داخلية والافتقار إلى رؤية متماسكة تواجه بها العالم.

يردد الغرب أن مجموعة “بريكس” في طريقها إلى أن تركز أكثر على وجودها وتكوينها الجيوسياسي، خصوصاً إذا اكتمل مشروع توسيعها، ومع أن الولايات المتحدة حاولت التخفيف من وحدة المجموعة، إلا أن انضمام دول أخرى سيكسبها قوة إضافية، مما يجعل المواجهة بينها وبين واشنطن علنية وفي غاية التوتر.

هل من توتر مع واشنطن؟

غير أنه مع مرور السنين أصبحت مجموعة “بريكس” هائلة من جهة الناتج المحلي الإجمالي والتجارة العالمية، بالتالي أصبح لديها قدر كبير من القدرة على المساومة إذا عملت بلدان المجموعة معاً وهو ما تفعله بشكل متزايد، مثلما حدث خلال حرب أوكرانيا، إذ ضمن شركاء موسكو في “بريكس” البقاء الاقتصادي والدبلوماسي لروسيا في مواجهة المحاولات الغربية لعزلها دولياً، وشاركت البرازيل والهند والصين وجنوب أفريقيا مع روسيا في 166 حدثاً من أحداث مجموعة “بريكس”، عام 2022، كما أصبح بعض الأعضاء أسواق تصدير مهمة لموسكو.

لكن تقارب هذه المجموعة لا يؤدي بالضرورة إلى مزيد من التوتر مع الولايات المتحدة، وفقاً لبيانات جامعة “تافتس” التي رصدت تباعداً محدوداً بين السياسات المشتركة لهذه الدول وسياسات الولايات المتحدة في شأن مجموعة واسعة من القضايا، كما تعارضت البيانات أيضاً مع الحجة القائلة إن “بريكس” تحركها الصين، بينما لم تتمكن الصين من تقديم بعض مقترحات السياسة الرئيسة، وعلى سبيل المثال سعت بكين منذ قمة “بريكس” 2011، إلى إبرام اتفاقية تجارة حرة بين دول هذه المجموعة، لكنها لم تستطع الحصول على دعم من الدول الأخرى فيها.

وعلى رغم آليات تنسيق التجارة المختلفة التي تجمع دول “بريكس” فإن التجارة الإجمالية بين دول المجموعة لا تزال منخفضة ولم تتجاوز ستة في المئة فقط من التجارة المشتركة. ومع ذلك قد تظهر توترات بين الولايات المتحدة و”بريكس”، بخاصة عندما تتحول دول هذه المجموعة إلى ما يشبه الكتلة، وكذلك عندما تكون المصالح الأميركية العالمية على المحك، وظهر ذلك جلياً عام 2015 إذ كانت نقطة تحول، فقد حققت المجموعة نمواً مؤسسياً كبيراً في ظل رئاسة روسيا، وتزامن ذلك مع قيام موسكو بتعزيز محورها تجاه الصين ودول “بريكس” في أعقاب العقوبات الغربية على ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، إذ كانت روسيا حريصة على تطوير بدائل لآليات السوق التي يسيطر عليها الغرب والتي لم يعد بإمكانها الاستفادة منها.