هل " تتعسكر" ألمانيا أيضاً

محمد عبد المنعم

تريد وزيرة الدفاع الألمانية أنيجريت كرامب – كارينباور تحويل الجيش الألماني إلى جيش ضارب يتدخل في المشاكل العالمية ويحارب الإرهاب الدولي،  كما تعمل على تحسين سمعته في داخل البلاد.  

إن دعوة وزيرة الدفاع الألماني لإقامة منطقة أمنية دولية في شمال سوريا، تمثل مرحلة جديدة في إحياء العسكرية الألمانية. والمناقشات جارية حول نشر ما بين ، الثلاثين والأربعين ألف جندي ، تحت القيادة الألمانية الأوروبية. وستكون هذه أكبر عملية عسكرية ألمانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وتأسس الجيش الألماني في مايو/ أيار  1955بعد سماح الحلفاء لألمانيا بتسليح نفسها مجددا. في أبريل/ نيسان 1993 منحت الحكومة الاتحادية تفويضاً للجيش للمشاركة في مهام قوات الناتو في يوغسلافيا السابقة، وكانت أول مهمة عسكرية دولية يشترك فيها جنود ألمان منذ الحرب العالمية الثانية. لكن خلال السنوات الأخيرة تعددت المهام التي تشارك فيها قوات ألمانيا في مناطق مختلفة من العالم ويتواجد أكثر من 3000 جندي في الخارج في أفغانستان ومالي والنيجر والبلقان والبحر المتوسط والمحيط الهندي وفي الأردن والعراق. كما تُضاف إلى ذلك التزامات كبيرة ضمن حلف الناتو في أوروبا. وتقدر عدد قوات الجيش الألماني بحوالي 185 ألف فرد دون الاحتياط.

يمكن اليوم الجزم بأن ألمانيا تخلصت من ذلك العبء الإيديولوجي السيء، غير أن واقع الحال فعليا يشير إلى أن خطط نشوء وارتقاء العسكرية الألمانية مرة جديدة، لا تزال تواجه بمخاوف كبيرة نظرا لرواسب تاريخية ارتبطت بسمعة هذا الجيش وصورته.

إلا أنه على الجانب المقابل هناك من تجتاحه المخاوف من تلك الصحوة، لاسيما إذا وضعت في الاعتبار أجواء عودة اليمين المتطرف والذي يكشف يوما تلو الآخر عن ميول تستدعي أيام ألمانيا القومية القوية، وارتفاع الأصوات الداعية إلى “الرايخ الثالث”.

في عام 2010 وجد الرئيس الألماني “هورست كولر” نفسه ـ بعد مقابلة حول دور الجيش الألماني ـ مجبراً على الاستقالة. فقد قال حينها يجب فهم أن “بلداً من حجمنا بهذا التوجه في التجارة الخارجية يجب أن يعلم بأنه في حالة الضرورة يكون أيضاً التدخل العسكري ضرورياً للحفاظ على مصالحنا كتأمين طرق التجارة الحرة على سبيل المثال”. وكان الانتقاد يدور حول ما يُسمى بـ “سياسة البوارج” وأن القانون الأساسي لا يسمح بخوض حروب اقتصادية.

العودة الجارفة للقومية

ليس سرا أن هناك اليوم في الداخل الألماني من يؤمن بفكر “ألمانية الآرية”، وألمانيا فوق الجميع، وهذا ما حدث قبل بضعة أشهر في إحدى المدن الألمانية وهي كيمنتس، حيث نزل إلى الشوارع آلاف من مواطني المدينة ملوحين بالأعلام الألمانية ومؤدين التحية النازية، التي يعاقب عليها القانون الألماني بالحبس.

إن ما يزعج بعض الألمان بالفعل هو أن دعوات إحياء القوات المسلحة تواكب دعوات جماعات سياسية آخذة في الصعود المخيف مثل حزب البديل من أجل ألمانيا، والذي قُدر له أن يفوز بنحو 100 مقعد في “البوندستاغ الألماني” خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة.

وتبرز المخاوف من مطالب البديل والنازيين الجدد وأولئك الراغبين بتغيير شكل الخارطة السياسية للبلاد، ودعوتهم لإسقاط النظام الألماني الحالي، والذي يصفونه بأنه فاشل، ويرون أن المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، قد فقدت السيطرة على المشهد الداخلي.

ومن هنا يبرز السؤال الجوهري: هل يمكن أن يطمئن الألمان كافة والأوروبيون خاصة إلى مستقبل قارتهم في ظل جيش ألماني يمتلك تكنولوجيا فائقة التقدم، وسياسيين متطرفين أقرب ما يكونوا إلى رجالات الحقبة النازية؟

أوروبا والعودة العسكرية

وقبل أن يطفو الحديث العسكري، ودعوات وزيرة الدفاع، وردود الأفعال تجاهها، كانت أوروبا تعيش ولا تزال حالة قديمة – جديدة من المخاوف بسبب انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي اعتبره عدد من كبار السياسيين الأوربيين أمرا يخل بمفهوم التوازن بين القوى الأوروبية، حيث يمكن أن تطغى دولة على أخرى، وفي مقدمة الذين رفعوا صوتهم بالتحذير من الوضع الجديد اللورد المحافظ “هيز لتاين”، والذي ذهب إلى أن خروج بريطانيا عمليا يضع القارة الأوروبية تحت زعامة ألمانيا، وهذا هو هدف الألمان الحقيقي الذي لم يتمكن هتلر من تحقيقه في الحرب العالمية الثانية، بينما تحققه برلين الآن بالوسائل السلمية.

ولا يعني كون ألمانيا أنها قلب الاقتصاد الأوروبي اليوم أنها بعيدة عن صحوة الصناعات العسكرية العائدة بقوة في سماوات الأسواق العالمية، لاسيما الغواصات والدبابات، والسلاح الألماني مشهود له بكفاءة فائقة، هذا إلى جانب دور الاستخبارات الألمانية المتصاعد بقوة في العالم.

وعلى الجانب الآخر من الأطلسي لا تبدو أميركا في حالة ارتياح إزاء النهضة العسكرية الألمانية وإن لم تعلن عن ذلك بصوت عال، غير أن عند مفكري أميركا حسابات تتخوف من آمال وأحلام ألمانيا الذي تُزخمه حركات مثل “بغيدا”، وتقف وراءه جهرا تارة وسرا تارة أخرى قيادات ألمانية شابة يمكنها أن تغيّر وجه العالم خلال عقد من الزمن.

لقد بات الصعود الألماني الواثق وتحول الدولة التي عانت مرارة الهزيمة غداة الحرب العالمية الثانية إلى قوة دولية كبرى مؤثرة في مسارات العالم مستقبلا، يزعج الأميركيين المصممين على جعل القرن الحادي والعشرين قرنا أميركيا بامتياز.

وخير دليل على هذا الانزعاج، تعمد واشنطن زرع جواسيسها داخل وزارة الدفاع الألمانية، ووصول الأمر إلى حد التجسس على هاتف المستشارة ميركل شخصيا.

كذلك وقبل أعوام بدا وكأن هناك أزمة بين الأميركيين والألمان، لاسيما وأن واشنطن ترفض إعادة رصيد الذهب الألماني المحتفظ به منذ عقود لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.يمكن الاستنتاج بأن التجسس الأميركي على ألمانيا وموقفها من احتياطيها الذهبي، يعنيان أن واشنطن متوجسة وقلقة من ملامح تحول السياسة الطبيعية العالمية، وألمانيا في طليعتها، والخلاصة أن ألمانيا تضع نهاية لزمن الطابع التحريمي.

.