في ثقافة المحبّة

الإفطار الرمضانيّ الجماعي في برلين نموذجاً

موسى الزعيم /

أكثر من مئة وعشرين عاماً مرت على الوجود العربي في ألمانيا، هذا التواجد الطويل مرّ بمراحل متعددة تبعا ً للحالة السياسية السائدة، على العموم يُجمع الذين يعيشون في  ألمانيا منذُ أكثر من نصف قرنٍ على  أنّ ما شهدته السّاحة الألمانيّة عامّة والبرلينية خاصّة  خلال الأعوام القليلة الماضية من أنشطة “اجتماعية، اقتصادية، ثقافيّة وتعليمية” لم يسبق أن حدث من قبل.

من جهة أخرى لابدّ أنّ نعرف أن التواجد العربي هنا، كان دائماً مرهوناً بالحالة السياسية السائد بين الشرق والغرب، فقد عرف اللجوء الأوّل عدداً من كبار الشخصيات العربية السياسية والتي نُفيت إلى ألمانيا القيصرية من أبرز هذه الشخصيات مفتي  الديار الفلسطينية  الحاج أمين الحسيني  والعقيد رشيد عال الكيلاني من  العراق، وشكيب أرسلان من لبنان، ومصطف كامل ومحمد  فريد مؤسسي الحزب الوطني المصري وغيرهم،  بعد ذلك  زاد عدد المبعوثين للدراسة الجامعية والعسكرية في ألمانيا من عدّة دول العربية.

ولابد أن نذكر هنا أنّ المصري محمد سليمان والذي وصل إلى برلين عام 1900 م قد أسس  فيها مسرحاً وأستوديو للعرض السينمائي الصامت، تعاقبتْ عليه أسرته وبعد ذلك.

وكذلك أوّل إذاعة عربية كانت تبثّ من ألمانيا باسم “هنا برلين” والتي أسسها الإعلامي العراقي المعروف يونس بحري ومقولته المعروفة في مفتتحها آنذاك  “هنا برلين حيّ العرب”.

كانت هذه المرحلة تتسم بالبحث عن دعم سياسي ألماني لمواقف هذه النّخب السياسية العربية في التحرر من الاستعمارين البريطاني والفرنسي آنذاك.

كذلك أفرزت هذه المرحلة عدداً من الكتاب و المثقفين العرب منهم  جدّ الروائيين العرب الكاتب السوري شكيب الجابري ورفيق شامي والذي دخلت كتبه مكتبةَ كلّ بيت ألماني وساهمت كتاباته في نقل جانب من الحياة الدمشقية بعيداً عن السياسة والدين، بالإضافة إلى عددٍ كبيرٍ من الكتّاب والمسرحين والفنانين العرب الذين يؤرخ لوجودهم اليوم في ألمانيا بأكثر من سبعين عاماً.

أمّا في مرحلة الثمانيات فقد كان التواجد الفلسطيني مميزاً من حيث العدد وله صفته السياسية أيضاً.  

في تلك المرحلة بقي الفلسطيني رهن قرارات عودته، يضع حقيبته في متناول يده و ينظر بعين المترقب قرار العودة، كلّ ذلك شغل العربي هنا عن التفاعل مع المجتمع الألماني المُحيط، وهي ليست حالة عامة، فقد نشطتِ الكثير من الجمعيات والمؤسسات العربية التي تعنى بالاندماج  لكن مع الكثير من المُعطلات  أهمّها أنّ السياسيين الألمان لم يكن لديهم النيّة والرغبة في قبول الآخر في مجتمع بدا الفرق فيه واضحاً بين لونين ثقافيين واجتماعيين، بينما لسان حالهم  يقول “عيشوا إلى جانبنا بسلام”.

كلّ ذلك لم يعط للجالية العربية سوى صيغة الاستضافة المؤقتة، لذلك لم يستطع العرب هنا القيام بعمل ثقافي أو خدماتي أو اجتماعي عام كان الوجود الفلسطيني ينطوي على العمل على المظاهرات والوقفات التضامنية وغيرها، هذا ما كان مطلوباً فعلهُ في تلك المرحلة على أمل أن يحصل انفراج ما  في القضية الفلسطينية.

 كان المطلوب إيصال الرسالة السياسية رسالة القضية الفلسطينية أولاً وهذا كان جلّ اهتمام العرب هنا.

 بالطبع كان الوجود العراقي والسوري والأردني والسوداني وغيره على الساحة الألمانية، لكننا نتحدث عن الكتلة الأكبر وهي الكتلة الفلسطينية وما تحمله من صفة شعبية بينما كان وجود الجاليات الأخرى يحمل أحياناً الصفة النوعية.

فيما بعد توسعت الجالية العربية مع قدوم السوريين والعراقيين نتيجة الظروف التي حدثت في بلادنا العربية، كبرت هذه الجالية وصارت الحاجة أكبر لتأسيس مؤسسات ثقافية واجتماعية  واقتصادية.

في الفترة  الحالية، مَن جاء إلى هنا أصلاً له مهنته وتجارته وخبرته العملية منهم الفنانين والكتاب والإعلاميين والعاملين في الشأن الثقافي، صار لدينا عالم ثقافي عربي، مجتمع  لديه رسالة يستطيع بسهولة ايصالها إلى المجتمع الألماني، بما يمتلكه من وسائل وأدوات نشطة، مَن جاء من سوريا هو إثراء للمجتمع وليس عبئاً عليه، ربما يحتاج إلى فرصة تساعده في النهوض ودخول هذا المجتمع، صارت الرسالة لا تحمل أبعاداً سياسية فقط، بل تنضوي على بُعد ثقافي إنساني أيضاً. 

واليوم فإنّ العرب في برلين بحدود 220 ألف عربي، في حيّ نويكولن يعيش 12 بالمئة عرب من أصل 330 ألف ساكن، و بحدود 37 ألف عربي، أي 80 ألف مسلم يسكن في الحيّ البرليني.

بالتأكيد عندما كبرت هذه الجالية، كان هناك تغير في الموقف السياسي الألماني، في هذه المرحلة قامت الجالية العربية بعددٍ كبيرٍ من الأنشطة والفعاليات وخاصة ببلومانيا ومعارض الكتب وحفلات موسيقية وغيرها من الأنشطة الثقافية فلا  يكاد يمرّ يوم في برلين تقريباً دون فعالية ثقافية اجتماعية عربية .

هل حان تغييّر الموقف الألماني ؟

ما قامت به الجالية العربية مؤخراً من أنشطة و ونجاحات على شتى الأصعدة، وضع الطرفين العربي والألماني أمام مسؤولية كبرى، صار الألماني يعي أنّ هؤلاء القادمين صاروا جزءاً من المجتمع الألماني، وبدأ التساؤل يدور حول ما دورهم ؟ كيف يمكن أن يؤثروا في المجتمع وفي الحياة العامة؟ والأهم من ذلك في القرار السياسي والانتخابي ..

سابقاً كان السياسيون الألمان وأصحاب القرار، يتصرّفون على أساس أنّ العرب بعيدون عن المجتمع الألماني، يعيشون حالة هامشيّة، كانت تصريحاتهم ضدّ العرب تأتي بصوت عال، وهذا بالفعل ما كنّا نراه من تصرفات رؤساء البلديات السابقين، لابدّ أن هنا أن نعرف أحد رؤساء بلدية حيّ النيوكلن السابقين قد أصدر الشهر الماضي كتاباً يهاجم فيه العرب والمسلمين في برلين “

الآن تغيّر الواقع، تغيرت المعادلة  فأيّ رئيس بلدية أو سياسي عليه أن يأخذ هؤلاء المواطنين بعين الاعتبار، هؤلاء مُنتجون نشيطون في الحياة العامّة، هم ليسوا عبئاً على المجتمع، هم سارعوا إلى الاندماج و دخول سوق العمل، صار الألماني إن كان سياسياً أو اعلامياً يحتفي بقصص نجاحهم أيضاً.

زدْ على ذلك أن عدداً كبيراً من العرب قد حصل على الجنسية الألمانية وهذا كلّه له وزنه وله اعتباره والسياسي الألماني يعي ذلك تماماً.

من هذه النقطة أتى تأثير العرب كجالية لها حضورها، والآن صار لهم صوتهم وحضورهم، هذا ما يؤكده المجلس الألماني العربي في برلين: نحن “دعمنا سياسياً السيد مارتن هيكل في الانتخابات البرلمانية ونحن نعرفُ مَن ندعم”، وهنا يجب أن نوضّح أنّ مَن قام بالإفطار الرمضاني الجماعي هو السيد هيكل من خلال مبادرةٍ شخصيّة وسياسيّة منه وقد تحمّل تبعات ذلك وما نتج عنه من ضغط  من بعض الأحزاب الألمانية جراء ذلك.    

 لا بدّ من حلّ المعادلة من الطرفين

في كلّ سنة تكثر الاحتفالات في برلين بمناسبة عيد العمال والذي له طقوسه ونكهته الخاصة، من حيث تعدد الأنشطة وأماكن أقامتها وما يتّسم به هذا التقليد من تجاذبات ومشاحنات قد تصل إلى العنف أحياناً، لكنها تبقى ضمن الإطار السلميّ الاحتفالي.

من هنا جاءت فكرة السيد (مارتن هيكل) رئيس بلدية حي النيوكولن والذي تجتمع فيه أكبر جالية عربية مسلمة في ألمانيا، بل في أوربا عامة في إقامة إفطار رمضاني في شارع  “Sonnenallee” أو ما يطلق عليه اليوم “بشارع العرب”  بالتعاون مع المجلس الألماني العربي” والذي يضمّ في تشكيله عدداً كبيراً من الفعاليات والجمعيات العربية النشطة والتي تشارك وتدعم دائماً نشاطات المجلس بعيداً عن التوجهات والأجندات الضيقة، فالمجلس يهدف إلى تشكيل صورة عامّة عن كافة العرب في برلين بكامل محتواهم الديني والسياسي والانتمائي. ويقف على مسافة واحدة من الجميع ويرحب بجميع المبادرات التي تصب في مصلحة الجالية بشكل عام.

على الصعيد العام فشلت الدبلوماسيّة العربية الحالية في إنشاء مركزٍ إعلاميّ عربيّ عامٍ لها في أوربا يساهم في نقل وجهةِ النظر الصحيحة للغرب، وما حدث تشتت وفرديّة في الرأي لكلّ دولة عربية، والسؤال هنا هل تقوم الجاليات العربية عبر نشاطاتها ودورها الإعلامي والاجتماعي والثقافي في تحسين هذه  الصورة ونقل وجهات النظر السليمة بعيداً عمّا هو معّلب سياسياً.

هل سيكون  المجلس الألماني العربي والجاليات العربية هي البديل عن أنشطة السفارات والتي دخلت في الاطار الرسمي الروتيني البحت بعيداً عن الفعاليات الشعبية.

على العموم لم يكن هناك تمثيل أو دعم دبلوماسي عربيّ من قبل أي سفارة ولا حتى حضور لها في تلك الفعالية ولا حتى إعلامياً.  

هات يدك لنقف معاً:

إذا كنّا نستلهم النصوص الدينية والوحي وننطلق من محتوى هذه النصوص والعقائد التي نتمثلها والتي تحمل في الغالب قيم التسامح والمصالحة مع الآخر ومدّ يد المحبّة والانطلاق من ثقافة التأخي والتواصل والرحمة في شهر رمضان الذي يحفل بهذه القيم النبيلة، من هنا علينا نقل هذه الصورة وهذا التفاعل الإنساني للآخر بغضّ النظر عن الانتماء الاثني والديني.

فمَنْ كان يستمع إلى آذان المغرب بصوتِ المؤذّن المصريّ عبد الفتاح سعيد في “شارع العرب” في آخر يوم من رمضان، لم يكن المسلم فقط، كان المجتمع الألماني بكلّ أطيافه، لم يكن لديك الرغبة لأن تسأل من يقف إلى جانبك عن دينه ولونه عن عِرقه، هذا الوجد النقي وحّد أرواح الحاضرين وغسل ذواتهم وصهرها في ” الإنسان”.

كانت الإجابات تأتي “لأبي شادي” في لقاءاته الإعلامية مع الحاضرين بم تشعر اليوم؟ فيجيب عفوياً: أشعر أنّي ” في بلدي، في  حارات الشام في بغداد في عمان في حلب …

وأنت تنظر إلى حركات المولويّ الصوفي المبدع “نور أبو جلود” وهو يدور في حلقة غصّت بالمئات تدرك أن علينا أن نتخلّى عن الكثير من حمولة الضغينة التي تراكمت في النفوس لأسباب كثيرة، أن نخفف عن أنفسنا حمولة الأوجاع التي ترسبّت في ذواتنا نتيجة ظروف القهر التي مررنا بها في أوطاننا ولننطلق من رباط الإنسانية.

 ” لن أطلب منكَ أن تكون نظيري في الدين، أو تتخلّى عن دينك لأجلي، أو حتى أن تُعجب بما أعتقد به وأعتنقه، ما أسعى إليه أن ترى صورتي الحقيقة في ذاتك، فأنا نظيرك في الإنسانية أولاً ما أريده منك أن تنفض ما علق في ذهنك من أفكار غذّتها الماكينة الإعلامية يوماً من نزعات مُتطرّفة مريضة، هي ليست صورتي قطعاً هي الصورة المزيّفة التي حُمّلت في ذاكرتك عنّي، قد تكون الظروف التي تراكمت على قهري كثيرة، لكنني أستطيع أن أكون مثلك في المحبّة والإنسانية وإذا كنت تريد مدّ يد العون لي ساعدني وانظر إلى  وجهي الحقيقي، ليس كما صُوّر لك.

على العموم  تبقى نظرة الألمانيّ خاصّة والأوربيّ عامة مرهونة بما يعتقده حتى من قائل إن ما حدث ذا صبغة دينية سنقول أنك، حتى لو كنت علمانياً أو لا دينيا ستبقى ذلك القادم من الشرق..!

 لابدّ من تكثيف الجهود

  يُجمع من حَضر فعاليّة الإفطار في ذلك اليوم على أهميّتها كونها سابقة جديدة في أوربا عامّة ونقصد سابقة شعبيّة في شارع عام، بالتأكيد حدثت بعض الأخطاء والتي ربما كانت كمشكلات طارئة لم يكن يحسب حسابها، منها تضاعفُ عدد الحضور نتيجة التقاء مظاهرة العمال مع الفعاليات الموسيقية في ذات الشارع مما شكل ضغطاً على عربات الطعام من قبل “البعض” أدى ذلك لعدم حصول الآخرين على وجبة الإفطار لكن الكثير أكدوا لي “ليس الطعام هو الهدف الرئيس من الحضور فالشارع مليء بالمطاعم العربية.

يطمح المجلس الألماني العربي في السنوات القادمة إلى مشاركة الفعاليات العربية من مطاعم ومحلات تجارية عربية في هذه الفعالية ودعمها لعلها تصبح تقليداً ثقافياً شرقياً سنوياً تتشارك فيه خيمات الحكواتي، مع السهرات الرمضانية وغيرها من الفعاليات مما سينعكس إيجاباً على الحالة التجارية والاقتصادية عليهم جميعا، خاصة وان البعض قدم من هولندا ومن مدن ألمانية أخرى ليعيش هذه اللحظات التي استمرت حتى ساعة متأخرة من الليل وقد تشارك مع الأصدقاء الألمان في الدبكة والرقص الشعبي.

.