من حوارِ الحضارات إلى حضارات الحوار

موسى الزعيم

” عنوانُ البحث الفائز بجائزةِ قطر العالميّة لحوار الحضارات للدكتور زهير سوكاح أستاذ الأدب الألماني في جامعة دوسلدورف الألمانيّة”

 يأتي البحثُ تحت رؤية  تقويميّة حيث، يعمد الباحث فيه إلى جمع آراء عددٍ من أهمّ الباحثين في هذه القضية من (هنتغتون وفوكوياما ) في الغرب إلى محمد عابد الجابري وغيرهم في الشرق، كما يستعرض أهمّ المحطّات التي مرّ بها حوار الحضارات عبر السنوات الماضية و المنعطفات والمؤثرات الخارجية والداخلية التي لعبت فيها دوراً رئيساً  في انحراف مساره سلباً أو إيجاباً، مروراً بأحداث 11 أيلول، وارتداداتها على السّاحة العالميّة والعربية خاصة؛ انتهاءً بموجة اللاجئين العرب الأخيرة التي حدثت إبّان الرّبيع العربي والتي يرى الباحث فيها نقطة تحوّل لها أهميتها في حوار الحضارات..

من جهة أخرى يتوقّف الباحث عند المواقف الفكريّة والثقافيّة المُعطلة لهذا المَفهوم أو الدّافعة له، في طرفي الحوار على فرض أنّ حوار الحضارات دائماً بين طرفين الشّرق والغرب، الغرب المُسمى أمريكا وأوربا والشرق كعالم عربي و إسلامي.

 بعدها يتحدث عن ضرورة نشوء حوار داخل المؤسسة العربية أو الإسلاميّة، وتشكيل أرضيّة للحوار ضمن أسس ومناهج أقرب إلى الوعي بالأخر، وما هي المعوقات في ذلك، وكيفية التعامل معها حتى تصبح الأرضيّة مؤهلّة لهذا حوار لدى الطرفين.

و يقترحُ البحث كما يقول الكاتب في منهجه ” ضرورة تجاوز هذه النظرة النمطيّة عن الذات والآخر باعتبارها أهمّ موانع الحوار الحضاريّ الفعلي وذلك فقط عبر حوار ذاتيّ “

في الفصل الأوّل يتحدث الباحث عن مفهوم  حوار الحضارات بين المثاليّة والواقعيّة ويقدم رؤية لهذا المصطلح  في المصادر العربية والغربية: ماهيّتهُ؟ خلفيتهُ ؟ ما أهدافهُ؟ وما ينضوي عليه.

 حيث يعتبر المُفكر العربي محمد عابد الجابري أنّ الحوار في سياق الخطاب العربي المُعاصر، يجد مرجعيتهُ الاصطلاحيّة مباشرةً في اللغات الأوروبيّة، فالكلمتان تعودان إلى الأصل اليوناني والتي يقابلها في العربية ” الحوار ” أو متابعة التّفكير وبالتالي يرجعها الجّابري إلى محاورات أفلاطون و من بعده سقراط، ويرى أنّ الحوار هو تفكير يجري بين اثنين” وعليه فإنّ الهدف من العملية  التحاوريّة هو التفاهم، فالحوار على هذا الأساس ليس هو الجدل أو المفاوضة، وليس هو الدّردشة، بل هو وسيلة إلى الوصول فكرين.

أمّا مفهوم الحضارة  فيرى الباحث أنّ ما يقابله في الانكليزية “ميدان العلوم الاجتماعية”  ليتم تبنيه في باقي المجالات، فالحضارة في العلوم الاجتماعية نقيض البداوة، وهي في الأدبيّات العربيّة عكس البداوة، من التحضّر، أي الرقيّ العلمي والعمراني وغيره من المجالات الحياتيّة.

 يرى الباحث أنّه من الضروري تفصيل المصطلحين، إذا عرفنا أن بعض المدارس الأوربيّة تستخدم لفظ الحضارة للدّلالة على الحالة الثّقافية، وبالتالي يُفضي الأمر إلى حوار ثقافات، في حين الّلغة العربيّة تفرّق بين الدلالتين ” ثقافة وحضارة “

 يرى الباحث أن مفهوم حوار الحضارات جاء كردّة فعلٍ على مقولة صراع الحضارات للكاتب الأمريكي هنتيغتن 1923 كنظرية مقدمة لفهم العلاقة بين الشرق والغرب، بعضهم يرى أنّه يعود إلى ستينات القرن الماضي، مع صدور كتاب الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي ” من أجل حوار الحضارات” الذي انتقد فيه فوقيّة الحضارة الغربيّة.

في الفصل الثّاني من الكتاب يعرض الباحث محطّات تاريخيّة معاصرة في مسار حوار الحضارات، إذ يرى إنّ هناك ثماني محطّات أسهمت في بلورة هذا المُصطلح منها (كتاب روجيه غارودي 1977، سقوط جدار برلين 1989، كتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير لفوكوياما 1992، كتاب صِدام الحضارات لهنتيغتن 1996، مبادرة الأمم المتّحدة لحوار الحضارات 2001، أحداث 11 أيلول2001، مبادرة تحالف الحضارات 2005، ثورات الربيع العربي وموجة اللّجوء نحو أوروبا).

يفصّل الكاتب تأثير هذه المحطات.. سلباً أو إيجاباً على دفع حركة حوار الحضارات، إلاّ أنّه يتوقّف عند آخر الأحدث، وهي موجة اللجوء عام 2015 إلى أوروبا التي يرى أنّها من تبعات الرّبيع العربي بعد الحروب والصّراعات التي سادت في المنطقة.

 لكنّه يرى في حركة الهجرة الحالية المعاصرة إلى أوربا دفعاً جديّاً لحوار الحضارات، حيث وفد إلى أوربا أكثر من مليون ونصف لأجيء؛ هذه الهجرة اتسمت بطابعٍ شبابي، وهي ليست من دولة محددة رغم الأكثريّة السوريّة، ففيها أيضاً من العراق وافغانستان وغيرها من البلدان…

 تقول الإحصائيات إنّ مَن تتراوح أعمارهم بين (18 – 34) بلغت نسبتهم حوالي 51 بالمائة، مما دفع الإعلام الغربي إلى اعتبارها هجرة شبابيّة إسلاميّة وبالتالي تشكّل له تحديّاً حضارياً وثقافياً، من هنا تأتي المُشكلة في الفهم ” لم تتعامل مكونات الإعلام الغربي مع أزمة اللاجئين بوصفها أزمة إنسانيّة؛ بل بوصفها أزمة حضاريّة تُهدد قيم الغرب، مما أنهى حالة التّعاطف الشّعبي التي بدأت لتحلّ محلها أزمة ثقة في الوافدين الجدد ضمن حملة تشويهية تصفهم ” بإسلاميين مُتشدّدين ”

 يرى الباحث في هذه النّقطة تحديداً أنّ هذا الحضور العربي في العُمق الأوربيّ فرصة تاريخيّة للحوار الدائم على أرض الواقع المجتمعي و الشعبي، يتشارك فيه إفراد من كلا الحضارتين بواقع يوميٍّ ملموس.

في الفصل الثالث من الكتاب يعالج الباحث حوار الحضارات من خلال الواقع المؤسساتي النخبويّ إذ أنّ التّعاطي العربي مع هذه القضيّة كان من الأهميّة بمكان ضمن إطارين أساسيين “مؤسّساتي وفكريّ” وكلاهما نخبويّ الطّابع، في الجانب المؤسساتي نلحظ الدّور الذي قامت به بعض الدّول والمُنظمات العربية وخاصة الجامعة العربيّة والمنظمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم وغيرها من ندوات ومؤتمرات، أما الجّانب الفردي فيتمثل في الحوارات والنقاشات الفكريّة الموازية لحوارات الغرب وإصداراته حول هذه القضية.

 لكن ثمّة قضايا هامّة أو ثغرات يعرضها البحث نقلاً عن الباحث المغربي محمد جبروت تتمثّل في أزمة المنهجيّة والتضخّم النظري،  وضعف التنسيق والنّخبوية وعدم التكافؤ والموقف الدفاعي وغيرها ..”

أمّا علىصعيد المقاربات الفكريّة العربيّة والغربيّة للحوار الحضاريّ فيرى الباحث في هذا الفصل من الكتاب نقلاً عن نادية مصطفى في كتابها “إشكاليّات الاقتراب من مفهوم حوار الحضارات” هناك ثلاثة اتجاهات كبرى في التّعاطي الفكري مع هذه القضيّة إلاّ أنّ هذه الاتجاهات رغم  اختلاف توجهاتها الأيديولوجية، إلاّ أنّها تتفق في أنّها جاءت ردّة فعل على أطروحة هنتنغتن حول صدام الحضارات وهذه الأنماط حسب نادية مصطفى هي (إسلاميّ، ليبراليّ، ويساريّ) ولكلّ موقفهُ من هذه القضيّة، في حين نجد في الطرف المُقابل لدى الغرب (الاتجاه المُحافظ ، واليساري والاتجاه النقدي).

 في حين نلحظ أنّ القاسم المُشترك بين الطرفين هو(التيّار اليساريّ) الذي يلقي باللّوم على الغرب وعلاقته المتوترة مع الآخر غير العربي بسبب الماضي الاستعماريّ. 

 كما يعرض البحث التصوّرات الفكريّة السائدة لحوار الحضارات من منظورٍ عربي وإسلاميّ والمبادرات في هذا الشّأن، من هذه المُبادرات والمواقف: مُبادرة الرئيس الإيرانيّ محمد خاتمي في اختيار سنة 2001 كسنة للأمم المتّحدة لحوار الحضارات.

 أمّا الموقف الفكري الثاني للمفكّر العربي زكي الميلاد، الذي يطرح نظريّة أو مصطلح “تعارف الحضارات” الذي يعتبره امتداداً لحوار الحضارات، هذه النظرية بحسب الميلاد تستند إلى القرآن الكريم.

 أمّا الموقف الفكريّ الثالث للباحثة نادية مصطفى وهو موقف – كما يسمّيه الباحث- موقف توجّسي كونه دعوة غربيّة وباعتباره مصطلحاً وافداً من الغرب، و يخدم أجنداته على حساب العَالَمين العربيّ والإسلاميّ.

 أمّا الموقف الرابع للباحث المصري يسين زمرا يعكس طبيعة النّظرة العربيّة إلى الآخر الغربي، وعليه يرى يسين أنّ حوار الحضارات ليس نزعة التمركز على الذات بقدر ما هو حوار مع الذّات قبل الحوار الآخر، كما يعتبر أنّ النّقد الذاتيّ في الثقافة العربيّة مازال في بداياته بينما قطع أشواطاً في الغرب.

إلى محمد أرغون الذي أكد على جزئيّة حوار الأديان وذلك في مقدمة كتابه “الإسلام أوربا الغرب” في حين يرى محمد عابد الجابري أنّ حوار الحضارات تضليلٌ غربيّ، و يعتبر أنّ حوار الحضارات شعارٌ نبيلٌ ومعقولٌ إلا أنّه مفعمٌ بالالتباس، ويراه أنّ يكون عفويّاً فطريّاً دون تخطيطٍ مسبقٍ لأنّ أهل الحضارة الواحدة ليسوا جميعاً على وفاق.

 أمّا من المنظور الغربي يعرض الباحث عدداً من آراء المفكرين الغربيين، منها المستشرق الأمريكي  برنارد لويس والذي شكّل مقاله عام 1990 “جذورَ الغضب الإسلاميّ” العتبةَ الرئيسة والمنطلق الفكريّ لكتاب هنتغتون “صراع الحضارات وإعادة صنع نظام عالمي جديد”.

بينما يرى الباحث البلغاري تزفيتان تودوروف أنّ الحضارات لا تتصادم حين تلتقي، وإنّما الصدامات مرتبطة بالكيانات السياسية،  وعليه يقسم تودوروف دول العالم إلى أربع مجموعات وهي بلدان (الشهيّة، الحقد، الخوف، التردد).

أمّا الفيلسوف النّمساوي هانس كوكر الذي يرى العلاقة بين العالمين العربي الإسلامي والغرب علاقة مُعقدة وذلك في كتابه “تشنج العلاقة بين الغرب والمسلمين الأسباب والحلول”.

 بينما الباحث الألماني ميشيل فيرث يرى أن  في كتابه “حوار الحضارات اليوم”  أنّ القضيّة من منظور سياسي اقتصادي ويرى أنّ الهجرة اليوم من أهم أسباب و مبررات حوار الحضارة.

 أما يورغن  تودنهوفر والذي عُرف عنه انتقاده للغرب و دفاعه عن المسلمين في ألمانيا، يقدّم في كتابه ” الصّورة العدائيّة المُصطنعة للإسلام، عشر نظريات ضدّ الكره” سنة 2011 فهو يعتقد أنّ العالم الغربي أشدّ عنفاً مما عُرف عن العالم الإسلاميّ، وعلى الغرب أنّ يتعاملَ مع العرب والعالم الإسلامي، بنفسِ الاعتدالِ الذي يتعامل به مع إسرائيل.

 في الفصل الخامس  يتوقف الباحث عند أهمّ القضايا المُتعلقة بحوار الحضارات و الموانع الدّاخلية  له في الحضارة العربية.

 ويرى أنّ استبداد السُّلطة الحاكمة، من أهمّ المعوقات التي تقف أمام حوارٍ حقيقي، وكذلك غياب الديمقراطية وطغيان الاستبداد السياسيّ في السيّاق العربي والإسلاميّ، وانعدام الحريّات السياسيّة والمدنيّة، وامتهان كرامة الإنسان، ومأزق حقوق الإنسان وغربة المواطنة في السياق المجتمعي العربي والإسلامي.

 هذا بدوره يفضي إلى فشل التّنمية وعليه ترتبط التنمية البشرية بالتنمية الاقتصاديّة، بالإضافة إلى توهّم الذّات والفرار من الحاضر المُخزي إلى الماضي والتغنّي به، والتنميط العربي للآخر الغربي  من خلال جدليّة الضحيّة والجلاد، بينما نقف على النقيض لنشاهد الموانع الداخليّة للحوار في الحضارة الغربية، ومنها النظرة الذاتيّة للغرب وتوهّم المركزية إذ يعتبر الغرب نفسه الحاكم المُتحضر، في حين ينظر إلى الحضارات الأخرى على إنّها لا معياريّة بالنسبة لمعايير مركزية نظرته هو.

وكذلك عقدة تضخّم الذّات الحضاريّة الغربية، إذ تعتبر نفسها محور الثقافة و الايدولوجيا، ويجب أن تُحلّ جميع المُشكلات من زاوية نظر أوربيّة أو غربيّة، من جهة أخرى هذه النظرة التي ترتكز أيضاً على النكران الحضاري  للمكون العربي والإسلامي والتي يقوم عليها الفكر الاستشراقي الذي يتعامل مع طرفي قطب حسب وجة نظره غرب متحضر، و شرق مُتخلّف، بينما يرى الباحث أيضاً في الإعلام الغربي أهمّ محددٍ في صنع نظرته للآخر المُختلف المتخَلّف، كذلك الشعوبية والعنصرية  والإسلامفوبيا وتأزم وتضخيم الوجود العربي في الغرب.

 لنصل إلى القضية العربيّة المركزيّة الأهم  وهي قضية فلسطين وسياسة الكيل بمكيالين والتي دأب الغرب على التعاطي السلبي دائما معها، وكان آخرها محاولة إعلان القدس عاصمةً لإسرائيل، هذا الإعلان الذي أثار موجةً كبيرة ًمن الاحتجاجات، دقّت إسفيناً آخر في ثقة العرب بالغرب.

في المُحصلة يخرج البحث بتسع نتائج  تقويميّة لمسار حوار الحضارات عبر السنوات الماضية، هذه النتائج تؤكد على ضرورة  التّوجه إلى حوار عربي داخلي من شأنه أن يُعزز من ثقافة الحوار والثقة بالذّات العربيّة والإسلاميّة، ومن جهة أخرى تكشف هذه النتائج عن الطرف المُعطل دائما لمسار الحوار، نتيجة تعنّت الغرب أحياناً أو سياسته الاقتصادية العسكرية الاستباقية أحياناً أخرى أو تحت ذرائع شتى آخرها مكافحة الإرهاب.

 الكتاب في المُحصلة لم يقدم الحلول بقدر ما كان حالة توصيف لمسار حوار الحضارات عبر السنوات الماضية وأهمّ الدّراسات التي تطرّقت لهذا الموضوع وجمع أهم المقترحات شرقاً وغرباً، والتي تناولت القضية من زوايا المختلفة.  بقي القول يصرّ الباحث في كتابه على توصيف الوضع في سوريا (بالحرب الأهليّة) وقد ورد ذلك في أكثرَ من موضع من الكتاب، مُخرجا ًبذلك الثورة السوريّة من سياقها الطبيعي السّليم كإحدى أهمّ ثورات الربيع العربي، التي تنادي بالحريّة والديمقراطيّة والحوار الذي اعتبره الكاتب شرطاً لا نجاحَ  لحوار الحضارات من دونه.

.

.