الإسلام وأصول الحكم ـ الخلافة الإسلامية

الدليل ـ برلين

.

في هذا البحث الرائع الذي قدمه الشيخ علي عبد الرازق **، نعيد مع القراء مناقشة مرجعية الخلافة الإسلامية بين إدعاء وجوبها وانتفائها.

لقد بحث الشيخ علي عبد الرازق في هذه المسألة آخذا باللغة والقرآن والسنة وآراء علماء المسلمين، وكذلك المقارنة بالغرب ليحلل الخطأ الذي وقع فيه المسلمون بالأخذ المؤكد بوجوب الخلافة الإسلامية، فهو كما يقول في خلاصة بحثه هذا ـ بعد تدقيقه المضني في المراجع السابقة (لا نجد ذكرا لتلك الإمامة أو الخلافة).

ليس بالغريب على مسلمي اليوم مقاطعة بل ومحاربة وتكفير بعض العلماء المسلمين المجتهدين وذلك لأنهم ابتعدوا عن (شرع الله وسنة رسوله) كما يتهيأ لهم. إن الإسلام لا يتعامل مع المُسلّمات ووضع خطوطا حمراء اعتباطا، بل يدعو إلى الاجتهاد والتحديث والتأمل كمقياس ثابت، هذا كما دعا إلى احترام حرية الاعتقاد والحوار السلمي.

لقد سبق وأن أشرنا وتناولنا جهود المفكر الإسلامي والداعية المصلح “محمد عبده” ولم يكن اجتهاده في تحرير فكر المسلمين في ما يمس المرأة والحرية والعلم إلا كخروج عن ملة الإسلام عند شريحة واسعة من المسلمين بل ورفضه بعض شيوخ الأزهر!!!

ولكي نتابع مشروع الاجتهاد الإسلامي في توسيع دائرة الفكر والعقيدة الذي دعا إليه الإسلام والفكر المستنير الذي عرف هذه المرحلة ـ صراع الكنيسة كمؤسسة دينية مع التيارات السياسية (غير الدينية)، تعرض في هذه الدراسة (بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام) للشيخ علي عبد الرازق ـ وزير الأوقاف المصري الأسبق.

تناول الشيخ علي عبد الرازق في بحثه التاريخي هذا تاريخ القضاء الشرعي بجميع أنواعه من فروع الحكم وتاريخه ليصل في الختام إلى ركنه الأول (الحكومة في الإسلام). هنا نجد أن الباحث قد أتى بجملة جوهرية هي (أساس كل حكم في الإسلام هو الخلافة والإمامة العظمى ـ كما يزعمون ـ فكان لا بد من بحثهما).

بقراءة هذا البحث بتأني نجد أن الباحث قد توصل ـ خطوة فخطوة ـ إلى ماهية الخلافة (ونظر الحكم في الخلافة، ووضح الخلط الذي تداخل بين العرف والمسلمات وبين الفهم الصحيح للآيات القرآنية وأدلة السنة والأحاديث المتعلقة بالحكومة والخلافة في الإسلام منذ فجره وصدره وما تلته من حقبات متأخرة).

 ** من هو الشيخ علي عبد الرازق
ـ علي حسن أحمد عبد الرزاق (قرية أبو جرج بمحافظة المنيا عام 1888 - 1966)، ولد في أسرة ثرية تملك 7 آلاف فدان.
ـ حفظ القرآن في كتاب القرية، ثم ذهب إلى الأزهر حيث حصل على درجة العالمية (الدكتوراة). ثم ذهب إلى جامعة أوكسفورد البريطانية. وعقب عودته عُين قاضيا شرعيا. وكان قاضياً بمحكمة المنصورة الشرعية.
ـ حاضر طلبة الدكتوراه في جامعة القاهرة عشرين عاما في مصادر الفقه الإسلامي، وله عدد من الكتب، منها:
الإسلام وأصول الحكم ، "أمالي علي عبد الرازق"، "الإجماع في الشريعة الإسلامية"، "من آثار مصطفى عبد الرازق".
ـ أصدر عام 1925 كتاب "الإسلام وأصول الحكم" الذي أثار ضجة بسبب آرائه في موقف الإسلام من "الخلافة"؛ فرد عليه الأزهر بكتاب "نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم".
ـ عمل علي عبد الرازق بالمحاماة، ثم انتخب عضوا في مجلس النواب، ثم عضوا في مجلس الشيوخ، ثم اختير وزيرا للأوقاف. كما عين عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة
ـ هو الأخ الشقيق للشيخ مصطفى عبد الرازق باشا شيخ الأزهر الأسبق حتى عام 1947.
ـ توفي في جمادى الآخرة من عام 1386 هـ الموافق 23 سبتمبر 1966م.

أولا: الخلافة وطبيعتها:

يوضع الباحث في هذا الباب معنى الخلافة ومصدرها في اللغة وسبب تسمية الخليفة بالخليفة وحقوقه و واجبه الشرعي وأخيرا الفرق بين الخلافة والملك ومصادر استمداد الخليفة للولاية ومن ثم ظهور الخلافة مثل تلك الخلافة في الغرب.

ما يهمنا هنا هو أن الباحث ـ وقد مضى على بحثه أكثر من نصف قرن قد اتبع أصول البحث العلمي الحديث إذ بدأ بالبنى التحتية للقضية التي يعالجها وهي الخلافة في الإسلام، أطر مرجعيتها التاريخية وتداولها في الشرق المسلم ليقارنها بنظيرتها في الغرب هذا جانب، والجانب الآخر هو أن الباحث ـ يقدر ما عاناه من جهد فكري ونفسي لرفض بحثه هذا من قبل كبار وشيوخ الأزهر ـ قد توصل إلى حقيقة جوهرية مهمة ليست انتفاء الخلافة الإسلامية فحسب وإنما قد صحح خطأ فهم العامة في تناول قضايا دينهم لتشبثهم بالمسلمات والتواتر والأخذ بالمعنى الظاهري للآيات القرآنية وربما كذلك الأخذ بالأحاديث الموضوعة أو الضعيفة.

معنى الخلافة

يقول الباحث بأن الخلافة في اللغة هي “مصدر تخلف فلان فلانا إذ تأخر عنه وإذا جاء خلف آخر وقام مقامه والخلافة في لسان المسلمين ترادفها الإمامة ـ رئاسة عامة أمور الدين والدنيا نيابة عن الرسول (صلعم) بيان ذلك أن الخليفة عندهم يقوم في منصبه مقام الرسول (ص) ، أما سبب تسمية القائم بذلك فهو ـ كما يرى الباحث ـ متفرع من مفهوم الإمام الذي يؤم الناس في الصلاة ، فتسميه خليفة لكونه خلف النبي (ص) واختلف في تسميته خليفة الله … وقد نهي عنه الخليفة أبو بكر وقال لست خليفة الله ولكني خليفة رسوله (ص)!

ومن هنا يستشهد موجبوها بالعقد الفريد، وجوب الطاعة ظاهرا وباطنا لخليفة المسلمين فتكون طاعته طاعة عمياء، فرض وواجب، وأمر لازم ولا يتم  إيمانه إلا به يثبت إسلام إلا عليه كما جاء في العقد الفريد….)

وخلاصة ذلك هو أن الخليفة على لسان المسلمين السلطان وخليفة رسول الله (ص) وهو أيضا حمى الله في بلاده وظله الممدود على عباده…!

وما الوزير أو القاضي أو الوالي أو محتسب أو غيرهم إلا وكلاء للسلطان ونواب عنه وهو وحده صاحب الرأي في اختيارهم وعزلهم، وإعطائهم من السلطة القدر الذي يرى..!

إلى هنا نجد أن الباحث قد غطى مردود معنى الخلافة في اللغة والاصطلاح وسبب نعت الخلافة بالخليفة، هذا إلى جانب مفوضيته كخليفة لدى عامة المسلمين. لقد تعمق مفهوم خليفة المسلمين عبر فترات تاريخية طويلة كمصر الفاطمية الأسرة الحاكمة  كانت تسمي أمراءها وملوكها بالحاكم بأمر الله، والمستنصر بأمر الله….، إذ رأت أولوية الخليفة لخلافته للرسول (ص) والحكم باسم الله، هذا كما نجد إن مفهوم الإمامة والقدسية متواتر إلى هذا العصر لاسيما لدى المذهب الشيعي، كما في إيران.  

بقدر ما أخطأ فهم عامة المسلمين لمفهوم الخلافة الإسلامية استغل المتنفذين (سلطة هذه الولاية الإسلامية ليحكموا مستندين إلى وجوب طاعة خليفة المسلمين ووجوب إقامة الإمامة العامة/ الخلافة الإسلامية التي لم ينص عليها القرآن ولا السنة كما سيأتي في هذه الدراسة / الباب الثاني.

هذا وكما أن الباحث قدم تعريفا لمهمة الخليفة المتمثلة في قيادة المسلمين (في سبل واضحة من غير لبث…)

إن هذه المهمة المنوطة بالخليفة انطلقت من مبدأ القيادة العامة لكل مسؤول عن قوم أو شعب . هنا تطل سيرة الرسول الكريم والآيات القرآنية وإجماع المسلمين كدليل قاطع على التزام المثل العليا في قيادة الأمة.

يقول الباحث “نعم هم يعتبرون الخليفة مقيدا بقيود الشرع … وقد ذهب قوم منهم إلى أن الخليفة إذا جار أو فجر انعزل عن الخلافة…”

إن الباحث في تدقيقه لصورة ومهمة الخليفة وشرط عزله متداخل بين شروط الشرع في قيادة المسلم للمسلمين وبين ما نظر له العامة فيما يخص الخلافة الإسلامية نفسها.

في نقطة أخرى فرق الباحث بين الخلافة والملك، فالأولى ـ كما يرى ابن خلدون ـ كانت في الصدر الأول من الإسلام إلى آخر أيام الإمام علي ثم تحول الأمر إلى المُلك الذي عرف “بحمل الكافة على مقتضى الشهوة والفرض وجلب المصالح الدنيوية. وعليه فإن التاريخ الإسلامي قد عكس كل وجوه الحكم الإسلامي، الخلافة والملك، والأخذ بكليهما في آن معا.

ولكي يبرر عامة المسلمين تابعي السلطان أو الخليفة صحة خلافته وشرعيتها كانوا يأتون دائما بـ “مصدر خلافته”. ينبري في هذا الشأن مذاهب عدة ـ كما يرى الباحث ـ أولها هو اعتقادهم بأن الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله، إذ أنهم جعلوا الخليفة ظل الله تعالى كما ادعى أبو جعفر المنصور بأنه سلطان الله في أرضه. لم يكن هذا المبدأ (الحصانة الإلهية للخليفة) حديثا على الإسلام وإنما تحدث به العلماء والشعراء منذ القرون الأولى ، فتراهم يذهبون دائما إلى أن الله هو الذي يختار خليفته ويسوق إليه الخلافة على نحو ما.  

تضخمت ظاهرة قدسية الخليفة بشكل واضح بعد القرن الخامس الهجري إذ كان العامة يرفعوه فوق صف البشر ووضعوه غير بعيد من مقام العزة الإلهية…! هنا يستدل الباحث بخطبة نجم الدين القزويني وقطب الدين الرازي وغيرهم من الألمعيين.

نجد أن مسألة الخلافة الإسلامية قد وضعت جذورها وصورتها الملتبثة منذ القرون الأولى مرورا بإمارة الإمام إلى حين تضخمها بعد القرن الخامس الهجري وانتهاء بالإمبراطورية العثمانية، والإمامة كخلافة إسلامية في العصر الراهن لإيران نموذجا.

أما المذهب الثاني الذي تحدث عنه العلماء، كما ذكر الباحث فهو أن الخليفة يستمد سلطانه من الأمة. وهو أقرب إلى الموضوعية من سابقه. لقد استدل الباحث على هذا التوجه بإشعار الخطيئة الموجهة للإمام عمر بن الخطاب وكتاب البدائع للكاساني الذي ميز الخليفة بين الوكالة والخلافة الإسلامية المستمدة من قبل الأمة  والأخرى المستمدة من الله تعالى.

يضيف الباحث بان هناك رسالة للخلافة والسلطة نشرتها حكومة المجلس الكبير الوطني بأنقرة / تركيا ترجمها عبد الغني سني تقف مع هذا المذهب شارحة له ومؤيدة. في آخر هذا الباب يشير الباحث إلى مبدأ الخلافة الدينية في أوروبا، لكلي مذهبيها الأول المستمد من الله تعالى كما يدعي العامة والمذهب الثاني الذي يرى أنها مستمدة من الأمة. فالفيلسوف (هنر) كان أقرب إلى المذهب الأول أما الفيلسوف للك فقد ربط استمداد قوة الخلافة بالشعب.

بهذا يكون الباحث قد وضحه في بحثه الدقيق بيان معنى الخلافة عند علماء المسلمين ومعنى قولهم أنها رئاسة عامة في الدين والدنيا، خلافة عن النبي (ص).

لقد أُتهم باحثنا علي عبد الرازق بالخروج عن الإسلام، وحظر ما كتبه في فترة ظهوره، ولم يزل يقرأ على استحياء ويستخف بقارئه إن لم يكفر و يهدد هو الآخر.

الخلافة بين المؤيدين والمعارضين

يذهب الباحث موضحا لحكم الخلافة إلى أن هناك تياران: موجب لها وآخر ينفي وجوبها هذا كما وازن وناقش بعض الأدلة القرآنية والسنة في شأن الخلافة.

يقول الباحث أن كثيرا من العلماء والمفكرين المسلمين أو الموجبون للخلافة الإسلامية مثل “ابن خلدون” الذي زعم وجوبها ـ مما انعقد عليه الإجماع. أما الفريق الآخر الرافض لوجوب الخلافة الإسلامية فيعلل رفضه بعدم توفر أدلة من القرآن والسنة تثبت وجوبها وأكبر شريحة من هؤلاء الرافضين للخلافة الإسلامية هم من المعتزلة والخوارج ” فالواجب عند هؤلاء هو إمضاء أحكام الشرع فإذا تواطأت الأمة على العدل وتنفيذ أحكام الله تعالى لا تكن هناك ضرورة إلى الأمام ولا يجب نصبه وهؤلاء محجبون بالإجماع”.

ما يهنا هنا هو دليل الفريق الأول على وجوب الخلافة الإسلامية وهو دليل قائم على إجماع الصحابة على بيعة الخليفة أبي بكر الصديق والدليل الآخر متمثل في ضرورة وجود خليفة يوحد الأمة الإسلامية وينهي عن المنكر ويأمر بالمعروف وإقامة العدل…!

يقول الباحث بأن أدلة الفريق الموجب للخلافة واهية لأنها لا تستند على آية صريحة أو نص من السنة “لقد زعموا أن إقامة الإمام فرض وحاولوا إقامة الدليل على فرضيتها بآية من كتاب الله الكريم … لو كان في كتاب الله الكريم دليلا على وجوب الإمامة لوجد من أنصار الخلافة المكلفين، من يحاول أن يتخذ من شبه الدليل دليلا .. ولكنهم انصرفوا عنه إلى ما رأيت من دعوى الإجماع تارة وإلى الالتجاء بالمنطق وأحكام العدل تارة أخرى..! أن الأهم في كل هذه الاستدلالات هو عودة الباحث إلى القرآن الكريم ليعرض الآيات التي زعم فهمها الموجبون للخلافة كإلزام لها كقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”، فتفسير هذه الآية ـ كما جاء عند المفسرين ـ منوط بالرسول (ص) وخلفائه والقضاة وأمراء السرية وعليه فالباحث يقول (للمسلمين قوم منهم ترجع إليهم الأمور)، وذلك معنى أوسع كثيرا وأعم من الخلافة التي يذكرون، بل ذلك معنى يغاير الآخر ولا يكاد يتصل به”.

هذا وقد كتب قلة من العلماء عن موضوع الخلافة مما يتوافق مع توجه الباحث هنا، منهم المفكر الغربي ” توماس أرنولد”. ومما يؤكد انتفاء وجوب الخلافة الإسلامية استدلال ـ تردد صاحب كتاب الواقف ـ إذ ذكر بأنها غير واجبة ـ وهو من دعا إليها ضمنيا.

يقول الباحث فهو كما ترى يقول أن ذلك الإجماع لا يعرف له سند وما كان صاحب الواقف يلجأ إلى هذه المقولة إن وجد في كتاب الله تعالى ما يصلح له مستندا.

لا يوجد في القرآن الكريم ـ الذي لم يغب عنه شيئا في نصوصه ـ ذكرا لتلك الإمامة العامة أو الخلافة، وهذا محك القول والفيصل. فالواقفون إلى جانب وجوب الخلافة الإسلامية لم يكن ليترددوا إن وجدوا آية واحدة تؤيد هذا الوجوب وحتى الإجماع الذي استندوا إليه، لم ينقل له سند. في اتجاه هؤلاء المستوجبون عمل الشيخ “رشيد رضا” مقتديا بمذهب ابن حزم الظاهري.

إن القرآن والسنة أوجبا طاعة الأئمة وإيجاب الإمامة وهذا غير وجوب الخلافة الإسلامية ، فالقرآن والسنة ـ كما قال الباحث ـ لم ينصا على القيامة عن النبي (ص) والقيام مقامه من المسلمين. إن هذه النتيجة النهائية التي خلص إليها الباحث تقود بدورها لتوضح أن “البيعة معناها بيعة الخليفة وإن جماعة المسلمين معناها حكومة الخلافة الإسلامية”.

 أخيرا حاول الباحث توضيح الحكومة في الإسلام فأتى بمقولة “ما لله لله وما لقيصر لقيصر” لتوضيح السياسية الدنيوية عن الدين لا أكثر وعليه فإن كان الرسول (ص) قد أمرنا أن نطيع أماما بايعناه فمعنى ذلك ـ كما أمرنا القرآن ـ أن نفي بعهدنا لشخص بايعناه.

هكذا يدحض الباحث الحجة بالحجة ليصحح اللبث الذي وقع فيه المسلمون. كثيرا ما ورد في القرآن الطلاق والبيع والمعاملات الشرعية، فإذا كان النبي (ص) قد ذكر البيعة والحكم والحكومة وتكلم عن طاعة الأمراء وشرع لنا الأحكام في ذلك. إلا أن عامة المسلمين سحبت الخلافة/ الإنابة من بين كل الأحكام الشرعية لتعممها وتطوقها بقدسية إلهية رغم عدم توفر نصوص في القرآن والسنة على وجوبها.

لقد أشاد بهذا البحث المفكر الألماني د. هاينر فيلد مشيرا إلى انتهاء الخلاف وظهور أتاتورك وإقصاء الخليفة الأخير. ومثلما وصل الباحث إلى عدم شرعية الخلافة الإسلامية توصل د/ هاينر فيلد إلى أن القدسية الخرافية التي صُبغت على الخليفة لم تكن إلا صراعا على السلطة في منأى عن الدين.

ولنا في تاريخ الدول الأموية والعباسية والفاطمية والعثمانية دليلا على ذلك.

ما يلفت للنظر في هذا البحث العلمي المثير هو اكتشاف الباحث أن المُسلّمات أصبحت كفروض واجب تطبيقها من قبل كل المسلمين ….. وما في فرضية هذا التطبيق أدنى قدر من الصحة ، فالخلافة الإسلامية المزعومة ، مثلا ليست”من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يأمر بها ولا نهى عنها وإنما تركها لنا لنرجع إلى أحكام العقل …..”  .

الحكومة والدين

كان لا بد للباحث أن يبدأ بحثه الموسوم (الحكومة والدين ) باللبنة التاريخية الأولى، ألا وهي نظام الحكم في عصر النبوة .

بهذا يجب أن نشير إلى التقدم العلمي في مناقشة البحث في فترة (الربع الأول من القرن العشرين) حين كانت  اللغة العربية والاجتهاد الديني في طور تجريبي يداخل بين الفكر المستهلك والأعراف وبين ممارسة الحرية الفكرية والحداثة ولكن بتهيب وتحفظ شديد والشاهد على ذلك هو تكفير الباحث الشيخ علي عبد الرزاق إثر كتابته لهذا البحث.

يرى الباحث أن أخبار القضاء الإسلامي في عهد الرسول (ص)، التي وصلت إلى  مسلمي اليوم عبر التواتر والأحاديث” لا تعني صورة بينة لذلك القضاء ولا لما كان له من نظام،إن كان له نظام )، فالباحث يخلص في هذا الموقع إلى أن صورة القضاء ” في هذا العهد ظلت غامضة وملتبسة بمعنى أن في عهد الرسول (ص) لم يتشكل قضاء وقضاة ترفع إليهم المظالم والالتباسات وإنما القاضي هو الرسول الكريم الذي كان يرفع ما التبس عليه إلى ربه وفقا لما جاء في الأحاديث.

ولكن ثمة أسماء مهمة أوردها الباحث أو كل إليها أمر القضاء كأبي موسى الأشعري وعمر بن الخطاب والإمام علي ومعاذ بن جبل . إن هذا التفويض ظل كقضاء نسبي إلى أن مرت فترة على وفاة النبي (ص) …. سأل عبد الله بن عمر بن الخطاب عن قضاء أبيه فأجاب بأن أبيه كان يقضي فإن أشكل عليه شيء سأل رسول الله (ص).

إن هذه الصورة الأولى”للقضاء الإسلامي لم تتغير كثيرا على يد الإمام علي ” فقد بعثه الرسول (ص) قاضيا إلى اليمن وقد كان حديث السن.

إلا أن هذه “التجربة المبكرة”لم تكن خاطئة فقد أوصاه الرسول (ص) بالأمانة والنزاهة في القضاء وبالتحري من الخصمين” معا دون حياد.

قال له الرسول (ص) إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضي حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبن لك القضاء”. لقد توفق الإمام علي في اليمن إذا أسلمت على يده أفواجا وأفواج.

لم يختلف معاذ بن جبل في منهج القضاء “الوصية المحمدية” عن الإمام علي فمعاذ بن جبل بعث إلى اليمن ليعلم الناس القرآن وشرائع الإسلام وكذلك كان قاضيا، وفي اليمن واكبه أبو موسى الأشعري مقتفيا وصية الرسول (ص) لهما “يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا”.

ما يتضح جليا في قضاء الأفراد/الصحابة المذكورين كمعاذ بن جبل هو أن مهامهم كانت مزدوجة (قضاة) ومعلمون دعاة للإسلام بالحسنى والرفق بالضعفاء. تحدد منهج القضاء عند معاذ بن جبل في حديث للترمذي ورد فيه بأن الرسول سأله كيف يقضي فقال له بكتاب الله فإن لم يجد فبسنة رسوله وأن لم يجد في القرآن والسنة  “فسيجتهد” ، فسُر الرسول(ص) من إجابته.

يخلص الباحث  إلى أن نظام القضاء في هذه الفترة كان “محصورا”  على أفراد، الأمر الذي يعني قول “نجد فيما وصل إلينا من ذلك عن زمن الرسالة شيئا واضحا يمكننا ونحن مقتنعون ومطمئنون أن تقول أنه كان نظام الحكومة النبوية”.

انتقد الباحث منهج الباحثين قديما في قضاء الخلافة الإسلامية وتنقية العقيدة من الأعراف إذ يرى بأنهم يزجون الحديث مبعثرا غير واضح ويخوضون غمار على نسق لا يماثل طريقتهم في بحث بقية العصور.

هنا يستثني الباحث رفاعة رافع الطهطاوي في كتابه “نهاية الإنجاز في سيرة ساكن الحجاز” وعليه ينتقل الباحث بنا لمناقشة باب في غاية الحساسية حول ماهية الرسالة والحكم وهل أن الحكم النبوي جامع لدقائق الحكومة أم لا وكذلك بحث البساطة الفطرية في نظام الحكم النبوي … قد يكون هذا الجزء من البحث مرهق للقارئ تماما كسؤال وجه إلى المؤتمر الإسلامي الألماني عن السماح لامرأة بالقيام بدور الإمام !

فلنتذكر دعوة الإسلام إلى التفكر والمجادلة بالتي هي أحسن.

يقول الباحث بأن البحث في ماهية الرسالة والحكم قد يبدو جديدا إلا أنه في واقع الأمر متوفر في تاريخ الأنبياء فعيسى عليه السلام تدخل في شؤون قيصر بقوله”أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” وكذلك يوسف عليه السلام كان منصبا في بلاط فرعون.  بهذا يقول الباحث بأنه لا حرج في التحدث عما إذا كان الإسلام وحده سياسة ودولة أسسها النبي (ص).

وكلام ابن خلدون في مقدمته ينحو ذلك المنحى فقد جعل الخلافة التي هي نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا شاملة للملك والملك مندرجا تحتها .

يقول الباحث بأن رقاعة الطهطاوي قد عدد من أعمال/وظائف الدولة أكثر من وظيفة توفرت في الحكم الإسلامي / فترة عهد النبوة والخلفاء الراشدين كالقضاة ومسئول المال والجنود والقائمون على الحدود …… وعليه فإن الباحث يرى في ذالك  الحكومة السياسية وآثار السلطة والملك.

تطرق الباحث إلى مفهوم الجهاد كأحد الشؤون الملكية التي تفرض هيمنتها بالقوة وتؤمن الحدود بل وتوسعها طامعة في توسيع وتثبيت الملك. هنا لا يضع الباحث الجهاد مناقضا للدعوة السلمية لنشر الإسلام إذ أنه وضع هذا من منطلق”التشابه مع مظهر الملك” فحسب.

فالقرآن لم يدع إلى نشر الدين بالقوة “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” ، “أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” وغيرها من الآيات . وما ترتب على الجهاد كمظهر من مظاهر القوة/الملك ترتب كذلك على جلب الجزية وتنصيب أمراء في الدولة المفتوحة كخالد بن سعيد بن العاصي   وعمر بن حزم في نجران وغيرهما وعليه فقد يقول قائل “بأن النبي (ص) كان رسول الله تعالي وكان ملكا سياسيا أيضا”.

إن الباحث لا يختلف مع قول أن النبي (ص) لم يفعل عملا في عهده سعيا إلى الملك وإنما ظل يعيش في فقر مبتعدا من شؤون ومصارف الملك وأن تشابه حكمه بها.

يقول ابن خلدون بأن السلطة في الإسلام قد اجتمعت مع السياسية دون غيره من الأديان ، يعترض الباحث على مقولة ابن خلدون إذ يرى بأن النبي (ص) لم يكن  يسعى لتأسيس دولة سياسية جديدة وإلا فلماذا خلت دولته من دعائم الحكم ولماذا دعا إلى الشورى وعاش فقيرا رغم  ما بوسعه من الملك والثراء و……

هذا كما نجد  الباحث في تفاصيل محاولته “لانتقاء حكومة إسلامية بما تعارف عليه سياسيا من مقومات الحكومة غير ناسي لقول “بأنه ثمة من يقول بأن نظام الحكومة في زمن الرسول (ص) كان متينا ومحكما وكان مستوفيا  لجميع أوجه الكمال التي تلزم الدولة ).

ويقول كذالك  بأن ما تيسر وجوده في تأريخ مرحلة النبوة لا يسمح لنا بالقول بأن هناك حكومة نبوية في عهد الرسول (ص) وأن توفرت أدلة على ذلك فإننا كمسلمين سرعان ما نثبت ذلك ونعززه.

أتى الباحث بشاهد أخر على انتقاء حكومة في عهد الرسول (ص) وذلك بأن مفهوم الحكومة في حد ذاته “نسبي” وعليه يمكننا أن نقول بأنه قد توفرت دولة/ حكومة أساسها البساطة والفطرة رافضة للتكلف والتعقيد، والتنظير. والأمثلة على هذه البساطة كثيرة في شخصية الرسول (ص) ودعوته إلى ترك الخوض  في أمور الدنيا وانتهاج سيره . يقول الرسول “ص” إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، “وكقوله” إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق”، وغيرهم من الأحاديث والآيات. وبهذا يصل الباحث إلى ما يبدوا لنا اضطرابا أو تقصيا في نظام الحكومة النبوية. إلا انه في الواقع نظام يعنى بالبساطة  والفطرة اللذان لا عيب فيهما ، فسلامة الفطرة وبساطة الطبع  كانت في ذلك الوقت لا تقل شأنا عن تأسيس الدواوين المختصة بالمال والإدارات السياسية ودوائر شؤون الدولة .

نعم لم يدع الرسول (ص) لهذا ولكنه لم ينه عنه وثانيا فقد كان الإسلام في باكورته الأولى وسط مجتمع أمي لم يعرف غير النعرات والتعصب وحب سيادة قبيلة لأخرى.

نقول أن (البساطة) التي انتهجتها الإسلام في عهد (النبوة) هي الرد الأمثل والنموذج الراقي للربط بين هذه القبائل المتناحرة فعاش(ص) بسيطا نزيها وقد كانت تدفع إليه بالإمارة والأموال والنفوذ دفعا فلا يزداد إلا نزاهة وبساطة في حياته وشؤون الدين . يقول الباحث  “أن من يتوهم   نقصا في مظاهر الحكومة في عهد النبي (ص) فيعلم بأن منشأها البساطة وسلامة الفطرة ومجابهة التكلف.

أما ما يخص البحث في ماهية الرسالة والدين فإن الباحث يصل إلى حقيقة “رسالة لا حكم، ودين لا دولة “. إن التبويب الذي انتهجه الباحث بأخذ بالقارئ رويدا رويدا إلى النتيجة السابقة .

حدد الباحث في البدء بأن الرسول (ص) كان رسولا لدعوة دينية خالصة للدين لا تشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة وأنه لم يكن ملكا ولم تكن له حكومة” وفقا لتعريف المصطلح السياسي الخاص بها وبمقوماتها”.

وعليه يرى الباحث بأنه لا خلط بين زعامة الأنبياء كموسى وعيسى والرسول محمد (ص) في زعامتهم الدينية وبين إمارة وسلطة الملك المنوطة  بالسياسية وتدبير أمور الدنيا .

إن طبيعة الدعوة الدينية تستلزم الكمال في نواحي شتى- لاسيما التميز الاجتماعي” إنه لا يبعث الله نبيا إلا في عز من قومه ومنعته من عشيرته …” فهذا التميز ليس تميز فوقي، وإنما من بنى وأسس الرسالة الدينية نفسها لتعين علاقة النبي بالناس أوسع من مما هي عليه بين الأب وأبنائه. ثانيا  تميز (ص) من بين كل الرسل والأنبياء بأن تكون رسالته لكل البشر دون استثناء.

يقول الباحث بأن الدين لا يتفق مع السياسة فالأول زعامة دينية عامة والثانية سلطة دنيوية تسعى في الختام إلى الخصوصية .

لقد حدد الباحث معنى الحكومة والدين كما سبق وعليه تنتفى تسمية الرسول بالملك وكذلك الخلافة ،  كما ورد في الجزء الأول من البحث قال تعالى ” قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يريد لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك …. “. وقال(ص) لرجل ارتعد أمامه من شدة الهيبة “هون عليك فإني لست بملك ولا جبار وإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة …..”.

حاول الباحث في ختام هذا الباب تأويل بعض ما يشبه أن يكون مظهرا من مظاهر الدولة غير أن ذلك غير مهم كثيرا لمتابعة سلسة أفكاره حول رسالة لا ملك  ، ودين لا دولة”.

( إن ولاية الرسول “ص” على المؤمنين ولاية رسالة غير مشوبة بشيء من الحكم  ولم تكن هناك حكومة ولا دولة ولا شيء من نزاعات السياسية ولا أغراض الملوك والأمراء…..) كانت هذه خاتمة الفصل  التي أوردها الباحث الشيخ علي عبد الرزاق .

الوحدة الدينية والعرب

في هذا الجزء الأخير من البحث تناول الشيخ علي عبد الرازق (الوحدة الدينية والعرب) وهو جزء مفصل في تسعة نقاط مهمة .

لم يكن الإسلام دينا خاصا بالعرب دون غيرهم وإنما رسالة عامة لكل البشرية هذا رغم أن نبي الإسلام (ص) عربيا، وكذلك لغة القرآن عربية معجزة  ببلاغتها للسان والذهن العربي بل وسائر العقول والألسن البشرية  الأخرى .

هذا كما أن الله تعالى اختار الرسول (ص) من سلالة إبراهيم عليه السلام ليكون آخر الأنبياء برسالة لكل الناس .

إن هذا الاختصاص “ليس من بني إسرائيل مثلا” لم يكن فيه تعالي على الأمم الأخرى وإنما كان رسالة عامة  لتصل إلى الكل دون تميز .   ما إن قدمت رسالة الإسلام إلا وانبسط مفهوم (الوحدة) على سائر القبائل العربية بمكة ـ منبع الوحي الإسلامي ـ وكذالك الأطراف.

يقول الباحث بأن هذه الوحدة نتجت من مضامين الإسلام نفسها بدعوته للمساواة وترك النعرات والفوقية، أي أنها وحدة دينية لا سياسية خالصة من شوائب السياسة …. (إنها وحدة الأديان والمذهب الديني، لا وحدة الدولة ومذاهب الملك).

يفصل الباحث قوله بأن الرسول (ص) لم يعين ولاة، ولا أمراء ولم يخطط لبناء دولة إلا بقدر ما يؤمن أمن الإسلام ورفعته” .

إن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب وعقوبات هو شرع ديني خالص لله تعالى ومصلحة البشر الدينية لا غير وسيان أن تتضح لك تلك المصالح الدينية أم تختفي ….”.

هذا وقد تبين الخلاف (الدنيوي) واختلاف الذهنية العربية والتناحر- بعد الوحدة التي تمت على يده (ص) بارتداد أكثر العرب إلا أهل المدينة ومكة ، والطائف. حدث هذا لأن العرب لم يعقلوا بأن هذه الوحدة كانت من صميم رسالة الإسلام وليست وحدة سياسية تعود بدورها إلى التنافس والصراع على السلطة .

من هنا ظهر النزاع حول (الخلافة) بعد موت الرسول (ص) وكاد العرب أن يتناحروا وجسد النبي (ص) بينهم لم يتم تجهيزه ودفنه .

يقول الباحث بأن الشيعة جميعا متفقون على أن الرسول (ص) عين عليا رضي الله عنه للخلافة على المسلمين، وهو رأي لا يتفق مع كبار العلماء والباحثين كابن خلدون.

هذا وثمة آخرون اعتقدوا في خلافة أبي بكر الصديق، هنا نجد أن الباحث يبين خطأ هذه الفرقة فيما يخص خلافة أبي بكر إذ يحدد لغويا مفهوم الخليفة” والخليفة في اللغة هو الذي يستخلفه لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه هو …..”

إن الرسول(ص) لم يقل/ يسمي خليفة بعده ومن خلفه فيما بعد كأبي بكر هو خليفة بمعنى مجازي لأنه لم يستخلف من قبل الرسول (ص) أو القائم بالأمر وإنما أصبح خليفة لأنه استخلف مكانه لا غير .

يقول الباحث: إنه (ص) ما تعرض لشيء من أمر الحكومة ولا جاء للمسلمين فيها بشرع يرجعون إليه وما لحق (ص) بالرفيق الأعلى إلا بعد ما كمل الدين….”

ينتقل الباحث في تحليله إلى اللبنة الأولى للزعامة السياسية المدنية التي استبدلت الزعامة الدينية لشخصه (ص) منذ أن قبضت روحه، أي أن الحكومة والسلطان كانا هما المهيمنان على الدولة العربية – الإسلامية ، لاسيما وأن العرب – كذاكرة حافظة – عادوا إلى صراعهم القبلي قبل الإسلام مستغلين الدين ذريعة للتمكن من السيطرة والحكم .

لقد كان العرب وقتها شعوبا همجية جاهلية ومتعادية ووحدات متشعبة خاضعة للإمبراطورية الرومانية أو لملوك الداخل كغسان والحيرة .

كانت بيعة أبي بكر- وفقا لرأي الباحث – بيعة بطوابع الدولة المحدثة أنشأها العرب كدولة وحكم عربي بالقوة والسيف كما كونوا “دولة عربية في أقطار الأرض فاستعمروا استعمارا واستغلوا الخير استغلالا كشأن الدول القوية التي تتمكن من الفتح  والاستعمار” .

بهذا يشرع الباحث في مناقشة أسباب الخروج على أبي بكر والخلاف الذي نشب فيما بعد بين معاوية وعلي وظاهرة الارتداد والخوارج .

يقول الباحث بأن العرب كانوا يختلفون في أمر من أمور الدنيا (السياسية) لا من أمور الين …….”

هذا وأن أبي بكر وأمثاله لم يزعموا بأن الخلافة مقام ديني ولا أن الخروج عليها خروج على الدين، ولم يكن يروا في خلافتهم أمر أو أدنى إشارة من الرسول (ص) فكل الذي حدث هو هيمنة الذهنية العربية المتوهمة  لزمام الحكم لتنصب قبيلة على سائر القبائل .

إن مسألة الخلافة الإسلامية قد اكتنفها الفهم الخاطئ بعد وفاة  الرسول (ص) فظهر لقب الخليفة من ثم والصراع على منصبه  .

إن الحركات المناهضة (كالخوارج) مثلا كانت ترى في مسألة الخلافة سيادة فئة دينية تحكم مجموعات وقبائل وبيوت سائر المسلمين وعليه فكان رفض دفع الزكاة ـ وهو خطأ دين يـ كسياسة مناوئة من قبلهم لا تقبل الخليفة وسلطته .

ما أن تقدم الفتح الإسلامي وهيمنة سلطة الخليفة  كما حدث في عهد الإمبراطورية العثمانية، إلا وأصبح لفظ (الخليفة الإسلامي) من المسلمات التي لا يناقش فيها ، وما بحث الشيخ علي عبد الرازق هذا إلا (ثورة جديدة) على مثل هذه المسلمات.

لقد ( كُفر) وأبعد كمجتهد لم يرد إلا توضيح ما اختلط على الناس في مفهوم الخلافة الإسلامية وهذا شأن المجتهدين مثله كالشيخ محمد عبده !!!

كيف يمكن أن نواكب (التنوير) وتصحيح الأخطاء التي لحقت بديننا ونحن أسري الفكر التقليدي الأصولي؟

كيف يمكننا الاندماج والانفتاح على الغرب الذي طور فكره بالنقد الذاتي وطرح الأسئلة والمداخلات بعيدا عن حصانة وقدسية الكنيسة ؟

إننا لا نريد إسلاما ضعيفا مشوبا بالأعراف متحوصلا على ذاته، إنما إسلاما قويا قادر على الرد والمناقشة والاستيعاب.

.