أسئلة الدّم والندم

موسى الزعيم

تفتحُ رواية “أسئلة الدم” والندم للكاتب السوري خالد ابراهيم باب جحيم الأسئلة، وتُقارب الموضوعات الساخنة على الساحة السورية والعربية عامّة، في حدثٍ يشغل منصّات الإعلام و السياسة بشكلٍ عام .. قد يبدو الأمر  في حدود البديهيات أن يتصدّى الأديب للظواهر التي تهزّ أركان مجتمعه ويكشف زيف انسانية المنظمات العالميّة ودوائر القرار..

الوجع والألم السوري شكّل مادّة أدبيّة لحظيّة إن لم نقل يوميّة، فمازال الجرح مفتوحاً على أسئلة كثيرةٍ كُبرى لم تُغلق فمها بعد..

  يوطّئ الكاتب لروايته باسترجاع ما قرأه عن الحرب عند جورج أورويل 1984 إذ يرى أنّها ستنجز التدمير المطلوب، لكنّها تنجزه على نحوٍ مقبولٍ من الناحية النفسيّة ” هذه المقولات تفتح على خالد ابراهيم باب أسئلة الجغرافيا وأسئلة المكان الذي ينتمي إليه والذي يسمّيه أحياناً غرب كوردستان، وأحياناً سوريا التي تسعى بثورتها للتخلّص من حكم الطاغية الأمكنة حاضرة بمسميات المدن والقرى والحارات والشوارع التي يعرفها وتعرفه.

 قسّم الكاتب روايته إلى عشرة فصول لم تكن مستقلة عن بعضها من حيث الأفكار، لكنّها تتابع  في الحدث الروائي العام.

 في رواية أسئلة الدم والندم الصادرة حديثاً عن دار الدليل للطباعة والنشر في برلين، يتساءل المرء بعد قراءتها عن مشروعية هذه الأسئلة التي ولِدت في أتّون النار من قبل ومن بعد!

 تفتح الرواية شهيّة التساؤلات الكُبرى حول قضايا مصيريّة بالنسبة للكاتب، والوطن والثورة  لم تكن أسئلة شخصيّة بقدر ما كانت أسئلة تخصّ مجتمعاً كاملاً، هو المجتمع الكُردي بشكلٍ خاصّ والوطن السوري بشكلٍ عام، أسئلة ركّزت في طبيعتها على قوميّة معينة..مآلات الوجع الكردي بشكل عام، وانزياحات الحلّ وانحراف مسار الثورة السورية وما تبعها من ويلات ومآسٍ، أحياناً أخذت الدين مُشرّعاً لها، فالمجزرة، وغاز السارين، والتهجير والاعتقالُ لم يوفّر أحداً.

 في أسئلة خالد ابراهيم قد لا تنتظرُ جواباً لأنّ الجواب زيّاح على أرض الواقع، بانزياح المواقف التي تكرّرتْ وتكرّر الخذلان معها، لكن الثوابت تبقى، إذ لا خلاف عليها لدى أصحاب الوعي، أمّا مَنْ هم على الأرض أصحاب مشاريع القتل والتخريب بكافّة مستوياته، فقد جعلوا من فوضى الواقع ملاذا ًلمخططاتهم، لكنّها بالمُحصلة تستهدف سوريا الجغرافيا والمجتمع، باختلاف مكوناته الإثنية والطائفية.

 يقول: وقد راح يتأمل شخصياته، بعد أن ترك لها حريّة السؤال وانتظار الجواب “وضعت أسئلتي بين أسئلتهم  المتقاذفة شمالاً ويميناً في أعلى، وفي أسفل، وأخرجت لفافة تبغٍ من جديدٍ . .”

الشهداء  يجتمعون في المنفى

 من المعروف أنّ  الروائي  يشكّل شخصيّاته الروائية ويجهد في صنعها -إن جاز التعبير- صناعة سرديّة يجمع  مكوناتها ومُحدداتها الداخلية، والخارجية من مكّونه المعرفيّ أو مشاهداته ليصبّها في قالب انسانيّ ثمّ  تنطق أو يُنطق هذه الشخصيات بأفكاره أو أحلامه وهواجسه، يُحاورها يبثّ عن طريقها أوجاعه وهمومه وأحلامه، هذه الشخصيّات تتشكّل عادة من انطباعات الكاتب حول البشر يصبّها ويقولبها في شخصيّة تولد في مخياله أولاً، يرسم أبعادها وملامحها الجسمانيّة، من عدّة شخصيّات يعايشها في واقعه الحقيقي أو ربّما الورقيّ من خلال قراءاته.  

يعمد الكاتب في روايته عبر شخصية بطل الرواية ” شيركو ” إلى استحضار الشخصيّات الروائية إلى طاولتة في منزله في المنفى ” هكذا دون استئذان وأنا جالسٌ على طاولتي التي تتسع لأربعة كراسي، الكرسي الأول لا يُحتسب، لأنّه محجوزُ منذ ثمانية أعوام، مذ أوّل أيامي في المنفى، عندما استلمت هذا البيت الصغير..أمّا بقيّة الكراسي  فهي لأصدقاء كانوا هنا وما زالوا يحومون بمحبّة حولي ..”

هذه الطاولة تجمع شخصّيات من الحياة، شخصيّات جاهزة مُؤطرة فكرياً لها مواقف وأحكام مُسبقة عايشتها وتعاطف الوجدان العام معها، هي من لحم ودم، لم يجهد الكاتب حتى في رسم ملامحها الخارجيّة، لأنّه بالأساس غير معنيّ بذلك، ما يهمه محاكمة هذه الشخصيات على مواقفها والاستدلال منها على النتائج الكارثيّة والخيبات التي حدثت بعد استشهادها.

 ايماناً منه أنّ هذه الشخصيات لها حضورها الفاعل في ذاكرة المُتلقي، من خلال تراكم التجارب معها، إعلامياً وحياتياً وفكرياً، هذه الشخصيّات جعلت الرواية تقترب من رواية الأعمال التاريخية والتي عرفتها بواكير الرواية العربية، ومع ذلك فإن أسئلة الدم والندم  قطعاً لا تنتمي إلى الرواية التاريخية، لكنّها جهة استحضار شخصيّات جاهزة معّلبة ومحاورتها في موضوع مُعاصر له صلة بالمستقبل، هي أقرب أحياناً إلى المذكّرات اليوميّة، مما يجعل المتلقي قريباً من بوح هذه الشخصيّات يتفاعل ويتعاطف معها وجدانياً على أنّها أحداث حقيقية حدثت لأشخاص يعرفهم القارئ وهي كذلك بالفعل ..

 بالعودة إلى الرواية نجد أنّ الفضاء العام هو غرفة شيركو الصغيرة في مُغتربه في ألمانيا، فيها يعقد اجتماعات فرديّة أو جماعيّة، مع هذه الشخصيات، فأبطاله  ليسوا بشراً فقط بل كانوا أحياناً قرى ومدن وتشكيلات جغرافية كعفرين وكوباني والحسكة وقامشلو والفرات ودجلة والخابور …وغيرها بعضها جاء من بيئة الأموات أو الشهداء خاصة هذه الشخصيات كانت تتراءى له مرة في المرآة ومرة تدخل من النافذة وأخرى تتشكل على هيئة قمر أحياناً تدخل من الباب،أحياناً تتجسّد المدينة فتاة تحاوره وتبثه مواجعها، توقظه من نومه يراها تتجول في غرفته يحاول أن يشكل حالة سلام بينها يجهد دائماً في البحث عن أجوبة لا أن يفتعل حروباً ومشاكل تثير غضب الضحايا، هي اشكالية بطبعها، شخصيات فاعلة على الساحة الكردية أولاً ثمّ على الساحة السورية عامّة، من هذه الشخصيات شخصية يوسف نبي وهوجام سورجي و مشعل التمّو وحسين الهرموش ” الاسم الحقيقي “هرموش” (دون ألّ التعريف) في حين أصرّ الكاتب على استخدام أل التعريف في كُنية البطل حسين ”  وهو مُؤسس الجيش الحرّ، وأوّل ضابط انشقّ عن نظام الطاغية، كذلك الطفل حمزة الخطيب الذي يُنسب إليه أنّه السبب في إشعال الشرارة الأولى للثورة السورية، إلى شخصيات نسائية كردية شكّل اغتيالها و استشهادها جدلاً واسعاً أيضاً من مثل بارين كباني  وغيرها…. وكذلك الشخصيّة الدينية المعروفة في الجزيرة السورية الشيخ معشوق الخزنوي.

 بالمقابل كان شيركو لا ينسى استحضار شخصيات من مواقف مضادّة كاستحضار الشخصية المتمثلة بالفكر الديني المتشدد والتي تجيّر الدّين لصالح مواقفها وأجندتها، لم تكن الشخصيات نامية متطورة على مساحة الحدث ، وإنّما كان هؤلاء الأشخاص يؤدّون دورهم، ويقولون ما عندهم متسلحين بمقولات جاهزةٍ،  مما يقرب العمل إلى الفكرة المسرحية أكثر منه إلى العمل الروائي، لكن بطبيعة الحال هذه الحوارات التي دارت داخل الفضاء الروائي أكسبته حركيّة ودراميّة  وأعطته حريّة ومرونة في الحضور والغياب، فالشخصية لا تتقدم ولاتتطور وإنّما يكشف السرد ما حدث لها..

لا ينسى  شيركو، وهو يصارع ذكرياته، ويحلل المواقف السياسية  للأطراف المتحاورة في بيته أن ينتقل فجأةً إلى واقعه المكانيّ في ألمانيا  يقول مخاطباً ذاته: ” لماذا لا تكتب يا شيركو؟ أكتب ودع أفعى قلمك تلدغ الطغاة فنحن مُتعبون جدّاً

في الرواية: يستلهم الكاتب فكرة السكين في يد الجزّار موفق اسكندر في مركز بيع اللحم  في مدينته، ومن صورة اللحم يعمد إلى تداعيات تقوده إلى لحم أعناق الضحايا في بلاده، ضحايا التنظيمات الإرهابية أو الضحايات على يد المليشيات التي هي من نفس اللحم والدم لأنّها نقيضتها في الفكر أو خالفتها في الولاءات للخارج.. يعقد مواءمة بين السكين والقلم ” شعرت بالخوف لوهلة، ثمّة علاقة بين السكين والقلم، بينهما توافق خفيّ  لا يشعر به إلاّ الضحايا..”

 في الرواية  يتصارع الشهداء يختلفون في الآراء والأفكار يعيدون طرح مبررات مشاريعهم التي ثاروا من أجلها ويتساءلون ماذا حدث بعدهم؟ لماذا كلّ هذا الخراب والخواء؟ مَن السبب؟ فيضٌ هائلٌ من الأسئلة التي يفتحها الشهداء في جمجمة القارئ ولا أجوبة تشفي! لعلّ الغشاوة مازالت على عيون الكثيرين، ولأنهم يعرفون كلّ شيء، فالشهداء يعلمون ما لا نعلمه نحن الأحياء، وبعد جدالٍ طويلٍ حول طاولة شيركو، وفي لحظة هدوءٍ وسلام  “نهض الشهيد مبتلّ العينين، قبّل صديقه الشهيد يوسف نبي تبادلا النظرات، وكأنهما يقولان بلغة العيون سنلتقي وإن لم نلتق  سيلتقي أطفالنا.. “

قلق الأسئلة عند شيركو

  السارد في الرواية شيركو، يحاول عبر بؤرة زمانية هي لحظة وجوده في البيت وهو الفضاء المكاني الذي حاور فيه  شخيصاته من خلال تداعياته مع هؤلاء الأشخاص المفترضين، فمرّة يسوق السرد جهة الماضي ويستحضر حَكايا مرّت معه كحكايته مع عضو اتحاد الكتاب الذي استهجن شعره وشعر رفيقه  بعد معاناة الوصول إليه في ليلةٍ مطيرة ، تكشف هذه الحادثة مزاجيّة من يعتقدون أنّهم نخبة ..فينقل السارد حديثه بلغة الفعل الماضي إلى حوادث مرت على  المنطقة كحادثة السجن أو غيرها كحكاية زينب وما عانته من وحشية، وعنف أقرب الناس إليها وهروبها إلى المنفى، ويسترجع معها حديث المرارة والألم..  يبدو شيركو في بعض الأحيان منظراً سياسياً وفلسفياً، فينتقد تصرفات الحزب الذي ينتمي إليه، والأحزاب المعارضة والمجتمع الكردي بصيغة العموم، لكنّه نقدٌ نابع ُمن وعي  بقضية يناضل من أجلها بل و يدفع الثمن  “بتّ الانسان غير المُحبب لدى الأغلبية التي تعرفني، والكثير منهم أخذ موقفاً ضدّي، حتّى دون أن يعلموا من أكون، هكذا نحن الكرد في غربي كردستان  نصفّق لباقي أجزاء كردستان، ونكره بعضنا بعضاً حدّ الوباء، هل ننسى أننا نحبّ تمسيح الجوخ والتملّق ..!” لا بل يطال نقده بيرقراطية الوضع في ألمانيا، والنظام الورقيّ فيها ولا ينسى أن ينتقد البطولات العربية عامة ونضالنا، وحروبنا الفيسبوكية التي لم تورث سوى الشلليّة والتفرقة والتضخّم في الأنا، ووهمَ الفحولة  .

 شيركو الذي تتضح ملامح ثقافته منذ الصفحات الأولى في الرواية  يبثنا بعضاً من لمحاته الشعريّة النثريّة ففي الرواية نصان شعريان، وكذلك لغته الشعرية المبتكرة  في بعض المواقف لكننا من جهة أخرى  نكتشف أنّه ليس مهتماً بالسياسة  فقط بل عضو في تنظيمات حزبية لم يسلم بعضها من نقده اللاذع، وتفنيد أفكارها، شيركو الكادح الذي يعمل ميكانيكياً في إصلاح الحصادات، وهو الذي يقوده حظّه لحمل السلاح ليس من أجل الحرب أو تحت راية تنظيم معين وإنما لسهره وعمله في الحقول وفي العراء، ليقول ضمنياً: أنا أحمل سلاحي لأحمي نفسي منكم ، وهو أيضاً الفقير الذي لم يكن يوماً يمتلك ثمن “قدّاحة” يشعل بها سيجارة والده .

لكنّه يبدو مضطرباً متقلباً في مواقفه، فهو الذي يصرّح بإلحاده وعدم انتمائه لأي مكوّن دينيّ  فيقول” في حياتي كلها لم أقمْ صلاةً، ولا أتذكّر أنّني صمتُ يوماً واحداً في شهر رمضان، حتى ولوسهواً، وأنا الذي يعرفني من كانوا قريبين منّي يوما بإلحادي المزمن ..”

لكننّا فجأة نرى علاقته بالشيخ الخزنوي، إذ ينعته بشيخ الشهداء، ومشعل الحريّة أيضاً، بل هو خجلٌ منه  محظوظٌ لمقابلته  ” الحقوق لا توهب، وإنّما الحقوق تُؤخذ بالقوة، كنّا جميعاً حين قلت عبارتك هذه كم، قرأنا فيك مصطفى مُنلا البرزاني ياشيخنا، كم قرأنا فيكَ مستقبلاً مزهراً  قلت للشيخ الخزنوي..”.

هل يعكس ذلك تقلبات الموقف الكردي يا خالد ؟

عبر مئةٍ وأربعين صفحة، يحاول خالد ابراهيم إثارة غبار الأسئلة ونثر رمادها في عيون القارئ أسئلة مشروعة بعد أنهار الدم التي سالت على مساحة سوريا ولم يسلم منها أحد أسئلة لاتبحث عن جواب لها في الوقت الحاضر وإنّما تفتح باب الصراخ، لتقول لماذا حدث كلّ ذلك ؟لماذا انحرف مسار ثورة تعلّقت عليها آمال الكثيرين في الخلاص من واقع باتت كلّ شعوب العالم تتطلع للخلاص من سلطته وطغيانه؟ والخروج على النظم الديكتاتورية.

 هذه الأسئلة يتجنّب الكثيرون اليوم الخوض في غمارها، لأن مصير سائلها هناك على مساحة الوطن كمصير من كانوا حول طاولة شيركو.

 خالد ابراهيم يعلّل كتابة روايته بمقولة مهّ فيها لأحد فصول الرواية  ” كان لابدّ من كتابة هذه الرواية لأرى كميّة الحقد والشرّ لدى الجميع “

تنتهي الرواية بجملة تُعيد الأسئلة إلى نقطة الصفر” قلتُ فخراب بيتك هذا ربّما يفتح بصيرتك”

*خالد ابراهيم كاتب وشاعر سوري مقيم في ألمانيا، صدر له ديوان شعري باسم “الغجري يطارد أحلامه”.

: