قراءة في  رواية تشريح الرغبة لريم نجمي

موسى الزعيم /

هو العمل الروائي الأوّل الصادر حديثا  للشاعرة والإعلامية  المغربية ريم نجمي وقد سبق لها أن أصدرت مجموعتين شعريتين وعدداً  من الدراسات والترجمات، وهي معروفة بنشاطها الإعلامي في ألمانيا .

تقع الرواية في 335 صفحة من القطع المتوسط، جاءت على شكل رسائل الكترونية متبادلة بين زوجين يعيشان إرهاصات حالة الطلاق والانفصال نتيجة تصاعد الخلافات بينهما بعد ربع قرن من الزواج، وهما على أبواب الخمسين من عمرهما.

عبر ثلاثين رسالة يحملها البريد الإلكتروني بين يوليا الألمانية وعادل الأستاذ الجامعي المغربي ذي الجنسية الألمانية.

 في حين تدخل على خطّ الرسائل والأحداث الفتاة السورية جوري والتي لجأت حديثاً إلى ألمانيا، جوري التي تتشابك في علاقة حبّ مع عادل ستؤثر في مجرى الأحداث لاحقاً.

 تطرح الرواية قضية انفصال الزوجين، هذه القضية  تطرقت لها الرواية العربية كثيراً، لكن ما الجديد في تشريح الرغبة؟  لعل الجِدّة في الموضوع أنّها تطرح قضية زواج الوافدين العرب من النساء الألمانيات، هذا الزواج الذي يبنى عادة على مصالح شخصية لأحد الطرفين، ولعل أهم تلك المصالح تسهيل الحياة في ألمانيا والإقامة والدراسة واللغة والحصول على الجنسية الألمانية وغيرها من العقبات، على العموم فإن المتابع لهذه القضية تحديداً يجد أنّ قسماً كبيراً من هذه الزيجات قد انتهى بالانفصال والطلاق وغالباً ما يكون برضى الطرفين إذ ليس ذلك قاعدة وإنما سمة عامّة، على العموم جزء من المصلحة للشريك العربي في هذا الزواج تنتهي بالحصول على الجنسية أو دخوله سوق العمل أو حين يتذكر بعد ردح من الدهر أنّه عربي فيرتكس نحو عروبته و”دينه”  بالطبع هذا لا ينفي أن هناك زيجات بقيت قائمة متماسكة، بل شكلت ثنائيات ثقافية معرفية مشتركة.

الرواية تشدّك إلى عوالمها، تجعلك تتشارك في بوح شخصياتها، تتعاطف مع إحداها في موقف ما، لكنك ستنقلب في الرسالة التالية عندما يفنّد الخصم ادعاءات خصمه، فتجد أنّ لابد أن تكون على مسافة من الحياد تستمتع بما تسرده ريم نجمي بأسلوب لغوي سهل شيّق حتى وإن كانت هذه الشخصية تتحدّث في  قضايا القانون والعدالة والفكر والثقافة وغيرها من القضايا التي هي على  تماس مباشرِ مع موضوع الرسائل، يبدو منطق وأسلوب هذه الشخصيات مرناً، مشحوناً، مشبعاً بالعاطفة  وفي كثير من الأحيان  وربما متشنجاً متوتراً يدخلك دائرة قلقه وانفعاله، وبالتالي هو حوار مزج ما هو شخصي بالعام، هذا العام القابل للتأويل والاسقاط على فضاءات شخصيّات أخرى.

حيث استطاعت نجمي وضع القارئ في دائرة حقيقة هذه الشخصيات، حتى ليظنّ أن هذه الرسائل تصدر عن أشخاص من لحمٍ ودمٍ عاشوا في بيئة حقيقية، استطاعت الروائية بطريقة ما بنشَ هذه الرسائل ونشرها للعام.

كيف تمّ تشريح الرغبة؟!

في  رسائل تشريح الرغبة كلّ شيء قابل للمكاشفة بين زوجين على حافة انهيار علاقتهما والوصول إلى الطلاق.

في المرحلة الأولى تدفع  الزوجة  يوليا الصحفية والمترجمة والعاملة في الشأن الثقافي، بكلّ ما تستطيع لاستعادة الزوج  الروائي “عادل” تحاول ردم الهوّة التي بدأت تتسع بينهما حفاظاً منها على ما بُني خلال ربع قرن من أحلام وحياة حافلة بالذكريات الجميلة تشهد عليها الأمكنة التي زاراها معا منذ التقيا أوّل مرة، تحاول فهم دوافع زوجها للانفصال، فتعوّل على الذاكرة وعلى أرشيف  حميمية  اللحظات ودفق المشاعر التي عجنت روحيهما، تذكّره بها، فتبدأ رسالتها الأولى ” بزوجي الحبيب”  والثانية ” عزيزي عادل ” وبعدها “عادل” ثم  ” زوجي السابق”.

تتوالى الرسائل تصاعدياً  في حالة التوتر وتتبدل العناوين لتغدو أكثر جفافاً ومن ثم صِداما وتخوينا، ليصير كلّ واحدٍ منهما يلتقط كلمات رفيقه ويعوّل في الردّ على قسوتها ومن ثم تهدأ العاصفة بعد الانفصال، ليعيشا مرحلة التحوّل إلى غرباء،  لتعود الأمور بينهما إلى ما يشبه الشفقة الممزوجة بالنظرة البعيدة وكأن كلّ واحدٍ منهما غدا في  كوكبٍ مختلف بعيداً عن الآخر وقد بدأ يرتّب حياته الجديدة .

كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ وكلّ موقف في الرواية قابلٌ للتشريح بمبضع روائية أتقنت التماهي والغوص في دواخل شخصياتها   المتوترة من خلال رصد ردود أفعالها، فلم تفتها تفصيلةٌ واحدةٌ من تفصيلات الحياة الزوجية إلاّ وتوقفت عندها.

فلو فككنا القضايا الخلافيّة الكبيرة أو الصغيرة التي مرّت على متن صفحات الرواية  بين الزوجين لحصلنا على قائمة طويلةٍ من أشكال الخلافات الزوجية العادية ربما، بل الطبيعية جداً  قد تحدثُ في أي بيت، بدءاً من الخلاف على شراء علبة الحليب، أو إعادة منشفة الحمام إلى مكانها وفرز القمامة، وانتهاءً بالخلاف على بيع البيت، وما بينهما من خلافات عابرة تتعلق بالأهل أو الغِيرة  وغير ذلك الكثير..

كلّ ذلك  تسرده امرأة لها خبرتها في الحياة الثقافية والاجتماعية  في المجتمع الألماني، تمتلك عيناً تسجيلية راصدةً دقيقة الملاحظة.

من جهة أخرى يبدو موضوع الانفصال له خصوصيته في الرواية من خلال انعكاس ذلك على الحالة النفسية  للمرأة وهذا ما يركز عليه  المجتمع الألماني كثيراً باعتبار أنّ القضايا القانونية محسومة هنا، إذ لا ردود أفعال كما هو الحال في   المجمع الشرقي، خاصة فيما يتعلق بمصطلح المرأة ” المطلقة ” فالكل هنا يستعيد مبادرة حياته بعد الانفصال ويبقى التعويل الأول على الحالة النفسية والخوف من الانتكاس

هنا تأخذ القضية  مناحٍ مختلفة  في التعامل مع ارتدادات هذه القضية من مثل خضوع الزوجين لخبيرة في قضايا الخلافات الزوجية أو الكورسات والمجموعات الخاصة بالنساء اللواتي يعانين من الانفصال من أجل تجاوز هذه المرحلة

تقول يوليا:

لقد استعنتُ في الفترة الماضية  بكتب تساعد من قرروا الانفصال وترك شركائهم في التعامل مع الموقف الجديد، لقد عثرت على تلك الكتب مصادفة في الركن المخصص لكتب التنمية البشرية في مكتبة دوسمان…”ص51

سرد يحفر في دواخل الشخصيات والأمكنة

هذا الثلاثي الذي اشترك في تحرير الرسائل على درجة عالية من الوعي والثقافة والقدرة على تحليل الأمور وتركيبها من وجهة نظر شخصية فردية ، لذلك فإن هذه الرسائل وإن قرئت منفردة فهي تحميل شكل أدب الرسائل وهو أدب له خصوصيته ومتعته .  

بجرأة كبيرة تغوص الروائية في عوالم الشخصيات النفسية تحفر عميقاً في أسباب قربها أو خلافها وصراعها، يتسلل السرد أحيانا مع الأنوار الخافتة إلى داخل الغرف والممرات إلى طاولة المطبخ والمكتب، وهو ليس سرداً مجانياً بل غالباً ما يكون كتحليل لموقف أو تفكيك رؤية لحظية من أجل الكشف عن الصراعات التي تعيشها إحدى الشخصيات، أو في المواقع الحمراء وما تُخفي من أسرار اللحظات الجميلة والمتوترة حتى المواقف العابرة التي تبدو أحياناً أنّها عادية جداً بين حبيبين أو زوجين إلاّ أنها عندما تخضع للتحليل حسب رؤية  كل طرف و حسب وجهة نظره وانطلاقا من مصلحته تغدو الأمور أكثر فجاجة وقسوةَ والحفرة أعمق .

في الرسائل بين يوليا وزوجها عادل، الكثير من التفاصيل الدقيقة عن الحالة النفسية وارتباط ذلك بالرغبات الجسدية لكنها في غالب الأحيان تنزع صمام الأمان في سردها ليغدو الخطاب بين الزوجين خطاباً بين عقلين واعيين أو بين منظومتين ثقافيتين اجتماعيتين مختلفتي التركيب، خاصة حين يرتكس كلّ طرف إلى حضن موروثه الاجتماعي وحاضنته الثقافية التي شكّلت وعيه البدائي ..

تتطرق الرواية أيضاً لقضية تغيير الدين في أوربا، فيوليا غيّرت دينها لأجل عادل، وغدت مسلمة ” ايهاماً ” في حين تطلبُ أسرة جوري من عادل تغيير دينه إلى المسيحية، بينما كان عادل متقلباً دينيا فهو المسلم شكلاً الملحد مضمونا ً.

أحيانا أخرى نجد أن هذه الشخصيات كانت تلجأ إلى الكتابة لتخفيف الضغط النفسي عنها  فالكتابة عند عادل ويوليا كانت كتابة إبداعية تستثمر فيها هذه اللحظات في عمل روائي ابداعي خاصة وأن عادل هو كاتب رواية ويوليا تطرق باب الكتابة الإبداعية أيضا

كانت لغة السرد في الغالب شفافة مشغولة بطريقة تتناسب مع المواقف التي كانت تتنقل بينها حيث استخدمت اللغة الايحائية المشحونة بالرمز والمجاز والايحاء في رصد مشاهد العلاقة الحميمة بين الزوجين لم يكن السرد مباشرا فجّا ً كان يحمل القارئ على جناح الخيال.

من جهة ثانية: يبدو أن نجمي استهوتها اللهجة السورية  ” فطعّمت بها ” حوارات ” جوري  مع عادل مؤكدة على لهجتها الحمصية الخفيفة، يقول عادل مخاطباً جوري “أستعيد ضحكتك ولهجتك الحمصيّة العذبة خصوصاً طريقتك المميزة في استبدال الألف والتاء المربوطة ياءً ساكنة في آخر الكلمات ..

مثل ” عامل حالك ألماني  وأنت شرقي ميية بالمية” أو “حاجي عاد وحاج تتمسخر عليّ”

 يبدو أن نجمي فاتها أيضاً أنّ أهل حُمص يضمّون أوائل الكلمات.. في لهجتهم.

عُقدة الفونسو

تلقي شخصيّة ألفونسو الألماني بظلالها على حياة الزوجين، دون تدخلٍ مباشرٍ فيها، فيبني عادل بعض مواقفه وغيرتِه ” من ألفونسو، بل ” يستثمر ذلك فقط أثناء خلافه مع يوليا ” حيث يعمد إلى تأويل واسترجاع لحظات تعاركه مع ألفونسو في إحدى رحلات الاستجمام  ليفوز عادل بقلب يوليا معتبراً نفسه المنتصر حين كسب قلبها، فصار كرجلٍ شرقي يتحسسّ من أي موقف يُذكر فيه غريمه أو يلتقي به.

 في الرواية يمثل الفونسو الخلفية الدينية أو الصدى البعيد لحياة يوليا، كان قد ارتكس وابتعد عن حياتها، آثر الدخول إلى الدير، ترهبن، دون أن نلحظ أنّه لمسها ولو لمرّة واحدة حتى حين تمّ طلاقها وبعد أن ترك الدير، فضّل عدم التواصل معها جسدياً، ابقى على فكرة الجوهر، وقد نجحت  الروائية في جعل الفونسو الملاك الحارس ليوليا، فقد كان يوماً ما، أوّل من “سندها حين تعثّرت” وهي  تلجأ إليه حين تضيق الدنيا بها، وبالتالي تنسحب هذه الشخصية من فضاء الرواية محافظة على  فكرة جوهر الحبّ.

وهذا يشبه إلى حدّ ما ارتكاس يوليا وذهابها إلى المغرب ولقائها بأهل عادل ومن ثم حديثها عن أسرته وخاصة لقائها بأبيه وأمّه في محاولة منها لاستعادته من هذه الزاوية، علماً أنّها عاشتْ مشاكل وصراعات تافهة وصغيرة مع أسرة زوجها من خلال الفروق الحضارية بين الأسرتين… حسب زعمها!

الارتكاس الثالث يتمثّل أيضا في حبّ عادل لجوري، فبعد زواج دام ربع قرن يتذكر أنّه عربي وعليه الزواج بعربية فكان وجود جوري في حياته يمثل له اكتشافاً عظيماً وكأنه “أركيولوجي عثر على عملة أثرية نادرة : “ما هذه النعومة ؟ ” فينحني ليقبل يدها ويصلي شكراً لله  على هذا الاكتشاف.

أمّا المكان في الرواية فقد كان له حضوره الطاغي باعتباره محفزاً سرديّاً لغويّاً يسعى الروائي من خلاله إلى خلق البيئة المحفزة لشخصيات عمله وانعكاس طابع هذا المكان على انفعالاتها، فقد كان توظيف المكان ببعده الجغرافي يقدّم حالةً جماليةً في الرواية لارتباطه بالسرد.

أحياناً يغدو المكان طارداً حين يرتبط بالذكريات المُحزنة للشخصية وهذا ما حدث بالنسبة للزوجين فمدينة بون التي سُلّط عليها الضوء كمكان تتفاعل فيه أحداث عملية الانفصال أو رحلة براغ مثلاً.

استطاعت الروائية نقل عدسة تصويرها إلى أمكنة متعددة  ” بون، برلين، استكهولم  تايلاند، اليونان، المغرب شرم الشيخ، بيروت العقبة برلين ..” هذه الأمكنة كان لها أثرها في تثبيت لحظات عاشها أبطال الرواية الثلاثة، لعبت الأمكنة دوراً جوهريا في فهم ذاتهم ودوافعها مثل شخصية جوري، وعلاقتها بسوريا وبيروت وارتباط ذلك بالخوف والحزن والحرب.

وكذلك كانت مدينة  برلين حاضرة بتفاصيل كثيرة وخاصّة حيّ فريدريش حيث يسكن عادل.

 بعض الرسائل التي تماهت في وصف الأمكنة وتفاصيلها الدقيقة تصلح لأن تكون وثائق في أدب الرحلات لما حفلت به من جمالية الوصف ” فقد كانت “بعين المحبّ ” ولهذه العين سحرٌ في التقاط كلّ ما هو جميل .

على العموم: تعدّ رواية تشريح الرغبة عملاً روائياً له خصوصيته في الصوت السردي النسوي العربي.

  …………..

 ريم نجمي كاتبة وإعلامية مقيمة في ألمانيا

.