” وشمسٌ أطلّت على ديارنا الغريبة”

حكايات اللجوءِ والاندماج

موسى الزعيم/

 الرواية الصادرة حديثاً للفنانة والصحفية السورية يارا وهبي عن دار ميسلون للطباعة والنشر

تدور أحداث الرواية في ألمانيا وتعالج قضيّة وصول اللاجئين السوريين إليها خاصة بعد موجة اللجوء  الكبيرة عام 2015

حيث ترصد حالة اللاجئين الجدد في مدينة صغيرة من مدن ألمانيا الشرقية ” زالفيلد”

 وعليه فإن الأحداث الأساسية في الرواية هي عبور هؤلاء اللاجئين برزخ الموت بين برّين  واجتيازهم  أهوال الطريق منذ الحاجز الأول لتتوالى عليهم العقبات والمصائب في كلّ خطوة يخطونها على دروب الموت أو النجاة.

– تطرح الرواية هذه القضية من خلال عدد من الشخصيات بينها الشخصيّة الأهمّ “شمس” الفتاة الأرمنية السورية التي ولدت في دمشق  وهاجرت مبكّرة إلى ألمانيا بعد مشاركتها في المظاهرات ضد النظام، لتبقى دمشق في ذاكرتها مكّوناً مكانيّاً وجدانيّاً له حضوره الدائم على صفحة الذاكرة، الجمالي بتركيبته الاجتماعية الفريدة رغم ما نال دمشق من قهر وخراب على يد الطاغية.

تتوزع الرواية على ثلاثة فصول رئيسة ومن خلال 326 صفحة تُسردُ الحكايا والقصص، تتأرجح فيها الأمكنة فينتقل عبر فضاءات متعددة قسّمتها الكاتبة حسب تسلسل بعض حكاياتها فكان للمدن السورية المنكوبة حضورها على متون السرد (اللاذقية، الرقة، ادلب، السويداء، والقامشلي، حمص، درعا، دمشق..) وكانت بيروت واستنبول حاضرة أيضاً لارتباطهما بعتبة الهجرة والنزوح السوري والعودة أحياناً كما كانتا مسرحا لعددٍ كبير من قصص الألم أو اللقاء.

  ظلالِ حكايا النزوح  :

في الرواية تتعدد قصص النجاة أو الموت السوري وهي قصص لا تتشابه عادة، فلكلّ سوري نجا قصة مختلفة، في طريقة سرد تفاصيلها و التي سببت أثلاماً وأخاديد في  النفوس من الصعب ردمها وإن تقادم الزمن ومن هنا يحسب لهذه الرواية ومثيلاتها أيضاً إنها تخليد لهذا الألم وتصويره، عبر سماع هذه القصص الحقيقية من أفواه الناجين وعبر نبرات صوتهم والاشتغال عليها أدبياً وهذا ما فعلته بالضبط يارا وهبي.

 فأبو جابر يروي حكاية خروجه من اللاذقية وقلقه وخوفه  المكتوم على بناته عند اجتياز أول حاجز عسكري إذ يخنقه السؤال القاتل ” هل اسمه مدّون في قائمة المطلوبين ” يجتاز أبو جابر الحاجز مع أسرته بقصة دراماتيكية، تتوالى بعدها عتبات القلق عبر البحر وغيرها من العقبات.

  كذلك للأطفال النصيب الأكبر من الألم فحكاية الطفل رامي تختلف في سيرورتها عن قصص الآخرين، رامي الذي جاء مع أخته حنين عبر طريق الهول والخوف متستراً بهيئة رجل بينما في حقيقة الأمر هو ابن العاشرة و يدعي أنه بالغ راشد في الثامنة عشرة حتى لا تأخذ الحكومة الألمانية أخته منه.

   بينما حكاية الإدلبي صطوف تختلف عن بقيّة الحكايات في هول تفاصيلها إذ أنه عندما يرويها يروي سيرة لحمه ودمه المتساقط على أرض الوطن من هول ما لاقاه من عذابات داعش وأخواتها، الكثير من القصص والحكايات الموجعة عبرت صفحات الرواية  تشترك جميعها نهاية الطريق و الوصول إلى ألمانيا عبر دروب عديدة كانت في الغالب مليئة بالأشواك مليئة بالفقد والألم.

استطاعت يارا وهبي نقل هذه الحكايا من خلال ترك مساحة من البوح لهذه للشخصيات تعبر عما يجول في ذواتها بمطلق الحرية دون التدخل منها حتى ليتوّهم القارئ أن ما يقرؤه واقعاً تسجيلياً، لكنه في الحقيقة أقرب إلى الخيال المرّ، لكن الأهم ما هو خلف تلك الحكايا وهذا ما تلمح اليه الرواية .

لم يكن القص عبر الشخصيات لمجرد التخفيف عنها، بقدر ما كان ارتباطاً بالحياة الجديدة، وقد استطاعت كسب تعاطف القارئ معها، وهو تعاطفٌ أرادت من خلاله الروائية إيصال معاناة السوري في نزوحه ولم يكن هذا التعاطف استجداءً بقدر ما كان تجلياً للحقيقة.  

 كما حال الراعي أيوب وزوجته نوال مثلاً أو حكاية الفنان أمير إذ غالباً ما ترتبط هذه الحكايا بتحقيق الذات أو البحث عنها، يبقى السؤال هل نجحت هذه الشخصيات المهاجرة في إيجاد ذاتها؟ أم كما يقول أحد أبطال الرواية ” هل قمتُ بثورة هناك لأغدوَ شحاذاً أو متسولاً هنا.. ؟

الثقافاتٌ مختلفةُ والأوجاع واحدة :

 انشغلت الرواية في كثير من الأحيان بعقد المقارنات بين “هنا وهناك” بين ثقافة يحملها اللاجئ تربّى عليها، مارس طقوسها وبين حياة جديدة شكلت صدمة حضارية له حال وصوله. 

في الشكل يبدأ المهاجر بالمقارنة بين نمط الحياة الجديدة في ألمانيا وبين ما ورثه من أسلافه، بدءاً من تعامله مع الزهرة والطبيعة وصولاً إلى فرز القمامة  وطريقة التعامل مع البريد وغيرها وضبط المواعيد.

 كانت شمس تحاول تفكك بعض القضايا التي اعتقد المهاجرون أنّها ألغاز أو عُقد، فكانت مرّة تشرح ومرّة تعمل مع “العزيز” زوجها على مساعدة البعض في فهم طبيعة الحياة الجديدة “فيكتب لهم تعليمات فرز القمامة  ليتدربوا عليها” مثلاً

 مقارنات شملت حالة الحزن، الفرح واستعمال الدراجة، والعلاقة الأسرية، ومفهوم الحرية، والوقت والالتزام بالمواعيد ومقارنات حالة السكن والعمل وغيرها الكثير، طرحت الرواية الأسئلة المتعلقة بالوجود في العالم الجديد، ثمّ  لتأتي فيما بعد حالة خبّو هذا الانبهار بالحضارة الجديدة ،لتجنح في أنظار اللاجئين نحو العادي اليومي المتكرر، من خلال ذلك استطاعت الروائية البحث والتعويل على المشتركات الإنسانية ومنها حالة النزوح والهجرة والتي عاشها الألمان وظلال الحرب التي مازلت تقبع في ذواتهم منذ انتهاء الحربين العالميتين، ليجد السوري والألماني نفسيهما يدفعان الثمن ولتجد أن الجدار بين ألمانيا الشرقية والغربية وإن كان قد هُدِم إلاّ أنه مازال يقبع في نفوس الكثيرين، إنه “جدار من خيبات لا يوجع ولا يئن…”

 في المحصلة حاولت الرواية البحث عن الجسور وقد تولّت “شمس” إيجاد الكثير منها أحياناً وذلك من أجل تقليص المسافة الحضارية بين الضفتين، بحيث يبدأ البحث عن المشتركات  بحيث يغدو الكلّ رابحاً. أو في الحدّ الأدنى راضياً متصالحاً مع الواقع.

طريق الاندماج الطويل

 بداية من المهم أن نعرف أنّ قوانين اللجوء والاندماج في ألمانيا تغيّرت بشكلٍ مُتسارع مع وصول اللاجئين السوريين فالذين وصلوا قبل ذلك، يعرفون القوانين القديمة التي لا تدعم تعلّم اللاجئ للغة أو دمجه في سوق العمل أو حتى الزامية التعليم لأبنائه، ومع تتالي وصول دفعات اللاجئين السوريين بعد 2016 بدأت القوانيين الألمانية تجنح باتجاه عدم تكرر الأخطاء السابقة وخاصة أن فئة من اللاجئين الفلسطينيين واللبنانيين إلى اليوم تعاني من جور القوانين السابقة.

من هنا تعالج الرواية قضية الاندماج بالتوازي مع بحث شخصيات الرواية عن ذاتها في المجتمع الجديد، فمن المعروف أنّ كلّ من نزح من سوريا لم يخرج من بيئة فقيرة، فغالبية القادمين منها لهم حياتهم ومهنتهم أو لديهم القدرة على التكيف، هم أمراء في مملكة بيوتهم وفي أعمالهم وهذا شأن آخر بعيداً عن مطالبتهم بالحرية، ما يؤكد ذلك أن الكثير منهم عمل في تركيا قبل نزوحه ليحصل على  خبز يومه بكد يمينه ، وهنا تطرح الرواية أيضا نماذج من عمل المرأة و مساندتها للرجل كأسرة أبي جابر نموذجا .

 يعتقد اللاجئ حال وصوله  إلى ألمانيا أمرين اثنين: الأول أنّه  سيسكن في منزل  ويتقاضى ” راتباً ” هكذا يسمي اللاجئ معونة الدولة طوال حياته، والثاني في اعتقاده أن ما يحمله من خبرة وشهادات تمكّنه من العمل منذُ اليوم الأول بعد وصوله .

  طرحت الرواية المعادلة القائلة  ” اندمج تخفي جروحك” من هنا  تبدأ المعاناة في قضية الاندماج منذ اللحظة الأولى في تعلّم اللغة الألمانية وما يرافق ذلك من صعوبات وخاصة الذين لم يدرسوا في وطنهم، ترصد التجربة نجاح البعض وفشل قسم آخر، من جهة ثانية ترصد الرواية موقف الألمان من هذه القضية وتفاعلهم معها اجتماعيا من خلال المساعدة المجانية والمبادرات، وإدارياً ومالياً من خلال رصد كافّة الإمكانات الخاصّة بالاندماج  مثل كورسات تعلم اللغة للأمهات: لذوي الاحتياجات الخاصة وللمبتدئين وغير ذلك إذ تلمح الرواية إلى فئة من الألمان عملت واستثمرت في قضايا الاندماج وقضبت مقابل ذلك الكثير من المال كشخصية مدير المدرسة الذي يتصيّد أية فكرة يستطيع من خلالها الحصول على تمويل حكومي.

فتظهر النماذج الناجحة أم العندليبة تفتتح مطعمها، وأيوب وزوجته يبدعان في حديقتهما  وأمير يخطط لمعرض رسم جوال ومشاريع فنية جديدة ..

من جهة أخرى عالجت الرواية قضية الاندماج الناجح في الوطن فكانت شمس بطلة الرواية أحد أهم هذه النماذج فهي أرمنية وجدّتها من أصول مسلمة وساقت مثالاً آخر على امرأة درزية تزوجت من رجل مسلم وكذلك هي بحد ذاتها  التي تزوجت من رجل ألماني ” العزيز ” وعاشت معه وربما  يبدو الموقف أكثر تجلياً ووضوحاً في جنازة رامي الطفل السوري الذي مات منتحراً وتشارك الجميع في دفنه وحدّهم الحزن كما وحدهم الفرح في عرس أم العندليبة على الرجل الألماني  ومباراة كرة القدم بين العرب والألمان، وتجلى ذلك في إرادة السوريين في إقامة مؤتمر دستوري لهم ومناقشتهم  الواقع السوري المستقبلي في مطعمهم في زالفيلد وطرح فكرة إعادة الاعمار ومن خلال رؤية ديمقراطية تجمع أبناء الوطن الواحد.

 بطريقة أو بأخرى تلمّح الرواية إلى الفسيفساء السوري الملّون والذي يقبل التعدد هو مشابهٌ تماماً لما يدعو إليه البعض “بألمانيا الملّونة”.

على العموم من خلال التفاصيل الدقيقة لحياة البشر، تحاول الكاتبة الوصول إلى بناء مفاهيم جديدة تطورت بتطور حالة اللجوء وحالة تفاعل اللاجئين مع المجتمع والألماني أو من خلال التواصل الثقافي تطرح الرواية إعادة التفكير بمفاهيم جديدة كمفهوم الوطن والانسان والتربية مفهوم العمل الجماعي، ومفهوم العلاج النفسي وتعزيز عمل المرأة وإرادة الحياة، وإعادة تدوير الانسان لمقدراته وخبراته والانطلاق من جديد والوقوف عند قضايا شاغلة مثل قضية الحجاب قضية المفهوم الديني، أو الحرية الدينية وربما بصفتي “لاجئ” هنا استطيع القول إن الكثير مما طرحته وهبي في روايتها هو حتى اليوم نعيش ارتداداته، الكثير من القضايا مازالت عقبات أمام اللاجئين، هذ التفصيلات الصغيرة صحيح أن اللاجئ العربي يرى فيها بديهيات، لكن لعل قارئاً على ضفة أخرى من ضفاف العالم أو بعد زمن ما سيجد فيها باباً جديداً تطرقه الرواية السورية وتحتفي بتفاصيله.

 من جهة أخرى تبدو لغة الرواية أقرب إلى الإخبارية  لغة النقل رغم أنّ الكاتبة حاولت أن تعتمد على الراوي الناقل، إلاّ أنّها غدت تسجيلية في كثير من الأحيان لغة سردية واحدة و حسب رأيي الشخصي كان يمكن الاشتغال على اللغة اكثر من ذلك، ربما كان الهاجس الأكبر تأصيل الفكرة والاحتفاء بها كوثيقة تنشغل الكاتبة في همومها نوعاً ما إذ لم تعتمد على الحفر والتأويل، لم نشهد في لغة الرواية أي قفزة من قفزات التغير، فأغلب الشخصيات تتحدث لغة واحدة لكن مع ذلك كانت اللغة صافية نقية استخدمت في كثير من الأحيان الحوار مما أكسبها رشاقة نوعاً ما، وأحسب أنّ ذلك مرده إلى تأثر الكاتبة باللغة الصحفية خلال مسيرة حياتها.

كذلك نجحت الرواية في استخدام الرمز والإحالة ” كما في حال السمكة الذهبية ” ثورة” وموتها حين شعر أبو جابر بالانهزام..

تسير الرواية في نسق روائي واحدٍ وهو ما أبعدها عن الوصول إلى حالة تأزم الأحداث وبالتالي انفراجها، فالقصص التي مرت في الرواية كانت تأتي بشكلٍ متسلسلٍ وليس متوالياً مع الإبقاء على الخيط الواصل للأحداث ووحدة الموضوع، كانت الشخصيات في الرواية كأنها على خشبة مسرح تؤدي دورها  في مشهدين منفصلين الأول حكاية الوصول والثاني ما آلت إليه وقليلة هي الشخصيات التي رأيناها تعود إلى مسرح الرواية في النهاية، هل يعني ذلك أنّها اندمجت في الحياة العامة ؟ ربما هذا السؤال مشروعٌ فكثير ممن عرفناهم ووصلنا معهم ساقتهم الحياة في اتجاهات شتّى وأبعدتهم عن ساحة أنظارنا  

على العموم تجاوزت الروائية عتبة الرواية الأولى وهي ميزة تحسب للكاتبة يارا وهبي.      

يارا إسعاف وهبي كاتبة سورية مقيمة في ألماني

.