رواية  اسمي زيزفون

موسى الزعيم /

هي الرواية السادسة للطبيبة والروائية السورية سوسن جميل حسن، وقد صدرت مؤخراً عن منشورات الربيع بالقاهرة. وتأتي هذه الرواية بعد روايتها “حرير الظلام” الصادرة عام 2009 وخانات الريح 2018

تنحازُ رواية اسمي زيزفون كبقية روايات الكاتبة، للمهمشين في المجتمع وللطبقات المسحوقة بفعل الأنظمة السياسية والاجتماعية ترصد  واقع سوريا منذ ستينيات القرن الماضي حتى  نهاية  2020  من خلال أسرة سورية عاشت بالقرب من مدينة جبلة الساحلية و ما مرت به هذه الأسرة من أحداث على المستوى الفردي والعام.

تدور أحداث الرواية من خلال دفتر مذكرات امرأة ستينية تدخل في غيبوبة، تقترب من الموت  في بيت أخيها ابراهيم، تبدأ تداعيات ذاكرتها من خلال  ما دونته في دفتر مذكّراتها، تسرد منه الأحداث.

زيزفون  التي عانت منذ ولدت من إشكاليّة اسمها، بين أن تكون جهيدة، الاسم الذي اختاره الأب و زيزفون الاسم الذي أصرّت أمها على مناداتها به.

بين  تواترات وتداعيات الاسمين، تدور حياتها، تبدأ ذاكرتها باستعادة الأحداث التي مرّتبها وعاشتها طوال تلك السنوات.

تحكي فيها عن البيئة الصغيرة التي عاشت فيها “أب وأم وثلاثة إخوة اثنان منهم ذكور وعواطف البنت”

أغلبُ أحداث الرواية تدور في بيت العائلة ” في المقصّ” مَقصّ جبلة، والمقصّ”تحويلة مروريّة” أو هو نقطة التقاء طريق فرعي “يتجه إلى قرية أو مدينة” مع طريق  رئيسي، وعادةً تنشط هذه الأماكن، فتقام عليها الاستراحات الصغيرة والدكاكين التي تقدّم خدمات سريعة للمسافرين، تغدو مصدراً للرزق،ونقطة التقاء بين الذاهبين و العائدين وسكان المنطقة، وشاهداً على تحولات كثيرة في حياتها بين الخاص والعام.

كان استخدام هذا المصطلح  الجغرافي  في الرواية ذا دلالةٍ معنويّة كبيرة، فالروائية سوسن جميل حسن؛ طبيبة، وبالتالي  فالمقصّ له ارتباطه الخاص بها  من خلال “تشريح” الواقع وكشف مكان العطب فيه، فمحاولة الوقوف على العلّة، لاتقلّ أهميّة من علاجها.

من جهةٍ ثانيةٍ، كان للمقصّ دلالتهُ المعنويّة، فكلما اتسعتْ زاوية انفراجهِ، زادت مساحة الرؤية، فيتضحُ هول المشكلات التي يعاني منها المجتمع،وكأنّ المقصّ نقطة الراصد التي من خلالها يتحرك زمان وشخصيات الرواية وبالتالي تغدو مساحة الحفر أكبر في البحث عن أصل الوجع والقهر في المجتمع.

تخضع زيزفون لاختبارٍ  يتعلّق بشرفها منذ أن كانت في عمر 15 نتيجة وشاية وصلت لأمّها عن علاقتها بالمدرس عابد القادم من دمشق.

والاختبار يتجلّى في مُرورها عبر طاقة في مقام ديني يُدعى ” أبو طاقة ” فإن نجحتْ في الاختبار وعبرتْ وأثبت عفتها، ستزغرد النسوة فرحاً، وستعود أمّها لمناداتها باسمها الذي تحبه زيزفون، بعد أن شكّت بشرفها فراحت تناديها جهيدة!

تتساءلُ زيزفون ماذا لو كان العكس؟ بالتأكيد ستكون السكاكين بانتظارها، ولن تكونَ الألسنة أقلُّ حِدّة منها.

في ثورتها الأولى والخاصة، تحرق زيزفون  مزار أبو طاقة، انتقاماً من سلطة الدين المهيمنة على عقول الناس والخرافة التي عششت في أذهانهم حتى صارت واقعاً يتحكم بمصائرهم.

ترتبط زيزفون بعلاقة  حبّمع سعيد، لكنها  تصحو على ذلك متأخرةً، بعد وفاته، هو ارتباط بين سعيد الذي يمثل الوعي  والمنطق وزيزفون التي تثور قَدر استطاعتها على منطق القبيلة، تبوح له  فيحفظ أسرارها، كانت ذروة الفرح بينهما يوم بدأ الربيع العربي، بقي صدى أفكارهِ يدور  في خَلدها حتى بعد مقتله.

سعيد الذي طُرد من الجيش بعد أن تطوّع فيه ضابطاً، لأنّ كلّ ما رآهُ هناك كان  يتناقض مع  منطق عقله، كانت تهمته أنه يفكّر خارج الصندوق، فاتّهم بالجنون، ليعتزل الحياة مع كلابه في طرف بستانه، يرصد الواقع بعين المترقّب القلق.

زيزفون التي كرست حياتها وأفنتها في خدمة والدها المريض وإخوتها، لم تتزوج لم تكوّن أسرة، أجهضت أحلام الحبّ لديها أكثر من مرّة  ولم يكافئها المجتمع  سوى بالنكران وكان إحراق البيت بما يحمله من دلالات، من قبل أقرب الناس إليها”إخوتها شعبان وإبراهيم” حين رفضت التنازل عن حصتها من الميراث، استوليا عليه وشرعا في  تشييد بناءٍ تجاري على المقصّ كان ذلك  تكريساً للمقولة “إمّا نحنُ أو نحترقْ البيت / البَلَد”

فيما بعدأُنشئ الأوتوستراد الجديد القادم من دمشق باتجاه اللاذقية، فراحت حكايات الطريق القديم، تنسحب شيئاً فشيئاً من الذاكرة،  هو انزياح على المستوى المكاني والإنساني، يطال زيزفون وذكرياتها  أيضاً.

في  السلطة الدينية

تسلّط الرواية الضوء على  “رجالات الدين ” وتسلّطهم على رقاب الناس، وعتْ زيزفون أنّهم بشرٌ مثل بقية العَوام  يتحكّمون في تسيير حياتهم، هم قدرٌ مفروضٌ عليهم، يدعمون سلطتهم بالخرافة والمبالغة،  يحتكرون الحقيقة ويغرقون الناس بالجهل.

من زاوية الوعي يرصد سعيد دور المقامات والمزارات الدينية المنتشرة في تلك المنطقة ” كانتْ ضروريةً لحياةِ الجماعة فيما مضى، فهي حارسة القيم وركيزة الحياة الاجتماعية وضامنة للحقوق،بسبب الرهبة التي تثيرها في النفوس..” ص118.

 في الماضي، لم يكن في القرية جامع، وكذلك الحال في بقيّة القرى وكان للشيخ عباس دوره  في حياة هذه الفئة البسيطة من الناس ومع سيادة الدولة التي من المفترض أن ترعى شؤون الناس وتعزز لديهم مدنية الحياة وسلطة القانون، صارت السلطة الدينية تتوغل أكثر، صارت المساجد، تنتشر في كلّ مكان، وراحت صورة الشيخ عباس تنتقل من دائرة السلطة الدينية إلى السلطة السياسية وليظهر الشيخ عباس بصورة مُستحدثة، بشخصية أديب الذي كان يعمل مساعداً في المخابرات، يتقاعد ليغدو شيخاً، يصلّي على سعيد المقتول بالرصاص، أديب تتبلور شخصيته  السلطوية، “شيخ مع سيارة وسائق “يضعُ يده في يد شعبان، الضابط  في عزاء والد زيزفون..

” في سريّ وأناأسمع صوت أديب أو الشيخ أديب، صرتُ أتحسّر على الشيخ عباس وأيامه، بالرغم من نفوري منه في ذلك الزمن إلاّ أنّه لا يتمادى كثيراً، كان لا يسطو على حياة الناس ..” ص187

هكذا تتوغّل السلطة الدينيّة في حياة الناس، لتغدو اليد الخفيّة التي تضرب بها.

الشيخ أديب موجود في كلّ طائفة، وإن تغيّر لباسُه وطربوشه، وطريقةُ صلاتهِ، هؤلاء الرجال علا صوتهم في الثورة السورية، وكان نهج خطابهم ” فليعتصمْ  كلّ منكم بطائفتهِ” ومن اعترض أو فكّر  فمصيره كمصير سعيد.

تحوّلات  الناس والمكان

ما يميّز الرواية  أنّها مَشغولة بالتحولات الاجتماعيّة والمكانية القريبة،لم تكن معنية  كثيراً بالأبعاد السياسية  الخارجية أو صعود سلطة وهبوطها إلاّ هو على تماسٍ مباشر مع الحيّز الاجتماعي الذي تعيش فيه، فبرزت أحداث  استلام حافظ الأسد السلطة، وصراعه مع الإخوان المسلمين، ومن ثم  وفاته وجنازته، بعدها تسلّم الوريث الجديد بشار ” هذا الانتقال  الحدّيّ بين  حالة الحزن المصحوب بالخوف والترقب على وفاة الأب، والفرح المُتغطرس حيث استلم الابن، ومن ثمّ أحداث الثورة السورية  منذ 2011 حتى اقتحام الغول “كورونا” حياة الناس.

بين تلك الأحداث، كانت زيزفون تنتظر مع سعيد انفراجاً، أو تغييراً في البُنى الاجتماعيّة والسياسيّة التي شارفت على الانهيار، من خلال زيادة الاهتمام بالتعليم وتمكين المرأة وزيادة الحريات العامة وسيادة القانون ومحاربة الفساد والجهل وتغوّل السلطة التي صارت تفرّخ سلطات مُتعددة، تصبّ في  قناةٍ واحدةٍ وهي إفقار الناس وتجهيلهم.

الطبيبة سوسن جميل حسن، ترصد هذا  الواقع من ” زاوية المقصّ ” والتي كلما اتسعت اتضح هول الخراب  وبأن كلّ أبعاده، مع أن الأمكنة كانت حاضرة بجمال طبيعتها مثل”جبلة اللاذقية ودمشق  وفي موقف عابرٍ في طرطوس ..”إلا أن ذلك ينسحب إلى مساحة سورية كاملة ففي كلّ بقعةٍ منها يفرّخ الفساد ويتمدد.

هذه التحولات كانت في غالبها انكسارات  وخسارات، منذ موت سعيد الذي يمثل صوت الوعي واعتقال المدرس عابد  وحمادة وموت أختها عواطف منتحرةً من على سطح مدرسة التمريض لأن مدير المدرسة  “يحبّ الصغيرات” ثم هجرة نور خارج سوريا لأنه وُجِد في المكان الذي لا ينتمي له طائفياً” وهي تهمة” وصعود فئات اجتماعية  من المفروض أنّها تمثل حالة الوعي مثل عبد الجليل الذي بدأ رئيساً لاتحاد طلاب جامعته راح يستخدم سلطته لينال من زملائه، ثم صار طبيباً فمديراًللمشفى، هو واحدٌ ممن أتقنوا لعبة السير في مخاضة الفساد، أخلص للسلطة فنال مكانة، تقاطعت مصالحه مع شعبان  في تأمين مِنفسة لوالده.

في حين قبل معرفة عبد الجليل به لم يكن وجود للمنفسة في المشفى، هذا العالم من الفساد الذي يتاجر بأرواح الشباب في سبيل خدمة فئة قليلة تسعى دائما لتكريس صورة الأفضل و الأقوى  وما عدا ذلك  فهو الخراب.

وشعبان كان معنيّاً بخلاصه الفردي، صارت له مكانته وحصنه”وفيلّته” ليجمع من حوله أشباههمن المتملقين و هم ” كما رأتهم زيزفون في عزاء والدها ” لهم وجوه وسحنات متشابهة”شعبان يعمل ضمن المنظومة التي تسببتْ بعاهة دائمة لوالده  لم يظهرفي الرواية وهو يعترض على ذلك، ولو بإشارة عابرة،كان هاجسهأن يكون فرداً من تلك العِصابة، لينال نصيبه من تسلطها وحظوتها.

من جهة أخرى لم تفتأ زيزفون  التركيز على مشاهد الموت والمجازر، حتى لتتشابه على القارئ بين أحداث الإخوان المسلمين في الثمانيّنيات و بين ما آلت إليه الثورة بعد 2011 من مشاهد التفجير والقتل، كان الشباب هم المستهدف الأول، وكانت مشاهد الجنازات تتوالى عبر الطريق  العام، يتحسّر الأب على فقدان أهمّ ثروة في البلاد وهي الشباب.

ترى زيزفون أن كلّ ذلك يأتي تكريساً لفكرة التوغل والتوحش  ” باسم تاريخ مجيدٍ كنّا فيه الاسياد،بلى كنّا الأسياد إنما على عروش الجماجم ” ص182

المهمّشون أكثر

في الرواية  ترصد الدكتورة سوسن جميل حسن عدداً من الفئات الاجتماعية الهامشية، والتي  لم تكن معنيّة بما يدور حولها، لكنها من ضمن النسيج الاجتماعي الذي يتّسم به المجتمع السوري من تنوع وتعدد، راحت زيزفون  تكتشف هذا المختلف فيه، مذ كانت على مقاعد المدرسة، مثل الأرمن و القرباط ونظرة المجتمع لهم والمرويات عنهم وكذلك فئة العبيد أيضاً. ومنهم حبّابة، المرأة التي تعمل في تبييض النحاس والتي حبلت من قرباطي هاجر وتركها ” مجتمع السلطة الأبوية يلحق باسم  حبّابة ” ملعونة الذكر ” وكذلك سكينة “العايبة” التي يرسل لها أهل القرية حصتها من “السليقة” على ألاّتقرب منهم.و”لمنيّر” مجتمعه الصغير الخاص من الذين يشتعلون في مباريات صراع الديكة والذين لا يعنيهم من هذه الحياة إلاّ ما يدخل جيوبهم، هم قادرون على فعل أي شيء مقابل المال.

الخيوطُ تتشابكُ ثم تنفردُ

تتشابك خيوط الرواية أحياناً، لكنها في النهاية تتفرد وتغدو النهايات رغم مأ ساويتها واضحة، هي لعبة النص الدائري التي تتقنها الروائية بسلاسة ويسر.

 صوت زيزفون من داخل الطائفة، وفي إشارات عابرة  يهمس خارجها كأن تتساءل عن مصير هؤلاء التي تُلقي عليهم الطائرات البراميل.فيأتيها صوت الأب الذي تغيرت قناعاته ولاذ “بحصن الطائفة ” ذنبهم أنّ الإرهابيين يعيشون بينهم”

تشتغل الدكتورة سوسن جميل حسن، بلغة سردية صافية غنيّة، زاخرة  بالحمولات الرمزية، ببساطتها،تشدّ القارئ  في كثير من الأحيان يخيل إليك أنك لا تقرأ فقط، بل تسمع أحاديث هؤلاء البشر، الذين  وَجدوا روائية أمينة تنقل صوتهم بحيادية من الداخل،كانت اللغة بانتمائها إلى البيئة سلسة بسيطة، مطعّمة أحياناً بجملٍ قصيرةٍ محكيّة باللهجة المحلية تؤدي دورها في الإحالة إلى تثبيت الحدث وانتمائه هذه” اللكنة ” لها مفاعيلها السلطوية أيضاً، حتى صارت وسماً لتلك المنطقة الجغرافية  من سورية.

 رواية “اسمي زيزفون”إبداعٌ روائي ملحمي مُعتدل، يدعوك بصدق وأمانة لأنْ تسمعه،صاغته مبدعة تحكي بعقل واعٍ وقلب متألم وخبرة فنيّة عالية.

.