العرب في ألمانيا

اللجوء غطاء الهجرة و”المجتمعات الموازية تغالب الاندماج”

موسى الزعيم

تُعدّ ظاهرة الهجرة واللجوء من الظواهر التي عرفتها البشرية منذ أقدم العصور، كان ولايزال  لها أسبابها المختلفة، منذ بدأ الانسان في البحث عن لقمةِ عيشه و عن ملاذٍ آمنٍ في ظلّ الحروب والكوارث، ومع تقدّم الحياة، تعددتْ أسباب الهجرة واختلفت، أمّا بعد مرحلة اللجوء  فينشغل  المرء  بتأسيس حياته الجديدة في المجتمع المُضيف وبعد أن يستشعرَ حالة الأمان من حوله، يُعيدُ  كتابة حكاية وصولهِ بعين المتبصّر، حيثُ صار في جعبته من النجاحات والاخفاقات ما يستحقّ التدوين، هنا أيضاً راحت  أسئلة الهوية والانتماء تؤرّقه في المجتمع الجديد والذي ظلّ يتساءل هل هو جزء منه أم ضيف طارئ عليه، رغم تجاوز الحكاية لمئةٍ عام بل أكثر.

ومن هنا يطرح كتاب العرب في ألمانيا ” مجتمعات تُغالب اللجوء”  التساؤلَ  حول هل ينبغي للجالية العربية أن تؤسس تاريخها في ألمانيا منفصلاً عن المجتمع الذي احتواها وجاهد دمجها أو “ألمْنَتها”؟ يحاولُ الكتاب الإجابة عن عددٍ كبيرٍ من هذه الأسئلة من خلال تتبع السياق التاريخي لوصول العرب إلى ألمانيا  و مراحل تواجد الجالية العربية فيها ومن خلال صعوبات الوصول  ومشاكل الإقامة والقوانين الخاصة باللجوء والاندماج والحفاظ على الهوية وغير ذلك، ومن ثم  ينتقل إلى قضايا  الاندماج  وعوائقه والمشاركة في الحياة الثقافية والاجتماعية  والسياسية. فيأتي الكتاب كدراسةٍ شاملةٍ لوضع الجالية منذ وصول أوّل عربي إلى ألمانيا حتى اليوم ، ومن خلال قراءةٍ شاملةٍ للحضور العربي في ألمانيا.

ففي الفصل الأول يسلّط الضوء على الوجود العربي من منظورٍ تاريخي، منذ البدايات  فيذكر أن الباحث الألماني  “فرانك غيسمان” أرخ لوجود ثلاثة أشقاء  مصريين جاؤوا إلى ألمانيا مطلع القرن التاسع عشر استقروا في برلين، وتزوجوا من نساء ألمانيات، أنجبن أبناءً، كوّنوا عائلات ذات تركيبه مُتعددة الثقافات بوصفهم أوائل المهاجرين العرب إلى ألمانيا، حيثُ وصل محمد سليمان إلى برلين  عام 1900 وكان رجل أعمال ناجح، عمل كمدير ومالك لمسرح” passage  Theater  ” الشهير آنذاك  وملهى ” Linden ”  

أمّا في الفترة الواقعة بين سقوط ألمانيا القيصرية و الحرب العالمية الثانية فقد كان عدد العرب مَحدوداً هنا، اقتصر على بعض الطلاب من المشرق العربي وناشطين مناهضين للاحتلال البريطاني والفرنسي من البلدان العربية، وعلى رجال أعمال غير مقيمين  يزورون ألمانيا  بانتظام  لأغراض تجاريّة، وكذلك  بعض النُخب السياسيّة من سوريا والعراق، ولبنان، و فلسطين ومصر.  وقد استقر هؤلاء في برلين لفترةٍ محدودةٍ، نذكر منهم  الحاج أمين الحسيني من فلسطين والعقيد رشيد عال الكيلاني من  العراق وشكيب أرسلان من لبنان، ومصطفى كامل  ومحمد  فريد من مصر وغيرهم من القيادات الوطنية في تلك المرحلة. و قد أسهمت هذه النخب  في إصدار المجلات والصحف المحليّة باللغات العربية والألمانية و تأسيس الإذاعة العربية  والتي كان من أشهر مقدمي برامجها العراقي  يونس البحري الذي اعتاد أن يفتتح نشراته الإخبارية  بـ “هنا برلين حيّ العرب”هذا الحضور العربي لم يأخذ أي معنى اغترابي، وبرلين كانت أقرب إلى المنفى في تلك الفترة إذ لم يتداول مصطلح الهجرة واللجوء . فقد عادت جميع هذه النّخب العربية إلى أوطانها مع  بداية الحرب العالمية الثانية.

في نهاية القرن التاسع عشر أوفدت  السلطنة العثمانية العديد من البعثات المتخصصة إلى ألمانيا في إطار التعاون بين الجانبين. فالتحق العديد من العرب  بالكليّات الحربيّة الألمانية، بصفتهم رعايا “الدولة العثمانية  وفي عام 1849  أوفدت مصر أوّل مجموعة من الطلاب لدراسة الطب  في مدينة ميونخ،  بعد ذلك جاء المغاربة العرب عام 1963 في إطار “مشروع مارشال”  لإعادة إعمار ألمانيا. فشكّل  المغاربة نواة  الجالية العربية في ألمانيا.

 فيما بعد فتحت  الحرب الأهلية اللبنانية باب الهجرة غير الشرعية وكانت الوجهة نحو ألمانيا الشرقية، فهاجرت عائلات بكاملها إلى ألمانيا. كما جاء الفلسطينيون، “أبناء المخيمات اللبنانية”  و العراقيون، بعد الحصار الدولي. ثم ازدادت الهجرة إثر الغزو الأمريكي للعراق  عام 2003 وصولاً إلى موجة اللجوء السورية الأخيرة والتي بلغت ذروتها خلال عامي 2015، 2016  وهذا ما تطرّق إليه

الفصل الثاني من الكتاب.

بالتأكيد هذه الموجات الملاحقة من الوافدين إلى ألمانيا، ساهمت في لفت نظر الألمان إلى الكثير من العوائق في قانون اللجوء، فسارعت الحكومة  لتعديل هذه القوانين، بحيث تتدارك أخطاء الماضي، لذلك شهدت  الفترة الأخيرة ما بعد 2015  تسارعاً مضطرداً في إلغاء وتعديل الكثير من هذه القوانين، كتسريع الحصول على الإقامة ودمج اللاجئين و تعلّم اللغة الألمانية ودخول سوق العمل، إلاّ أن هذا التّسارع كان له أخطاؤه، فأعادت الحكومة الألمانية  فتح الكثير من ملفات القادمين الجدد.

ومن هنا يتحدث الكتاب عن مشاكل مراكز الإيواء والمنظمات اليمنية التي وقفت ضدّ وجود اللاجئين ،  وقضايا القاصرين وما تبع  ذلك من عقبات أيضاً من خلال تأخّر لمّ الشمل  إلى أن يصل إلى طرح قضايا الترحيل أو العودة الطوعية.

من هذه القضايا الأسرة العربية وموقفها من قيم المجتمع المضيف، وهل تتواءم هذه القيم مع القيم التي حملها العربي معه،  من هنا برزتْ قضايا عمل المرأة، وقيم الأنوثة والذكورة وما تبعها من مفاهيم مثل الحِشمة والشرف  والعنف الأسريّ  والاختلاط والخوف من ” دائرة رعاية الطفولة والشباب”  وارتفاع نسبة الطلاق وغيرها الكثير.  

كما  تحدث الكتاب عن التنازع الداخلي للأسرة بين المحافظة على لغتها الأم  وبين تعلّم الألمانية التي هي مفتاح حياتهم، في هذه القضايا يستند الكتاب إلى الشهادات الحيّة وشهادات الخبرة لمن عملوا في هذا المجال وإلى مؤسسات ساهمت في مساعدة اللاجئين، وقد ثبت الكثير من الاحصائيات والجداول التي تعزز ما يرمي إليه.

لم يقتصر الكتاب على رصد هذه ا لقضايا وإنما انتقل إلى الضفة الأخرى، فراح يعرض موقف الألمان، من قضية الهجرة واللجوء  وخاصّة الحركات اليمينيّة المُتطرفة وتسارع تضخّمها وازدياد شعبيتها، خاصّة في مدينة دريسدن  التي هي معقل حركة ” أوربيون وطنيون ضدّ  أسلمة الغرب” والتي صارت تشهد  مظاهرة أسبوعية كلّ يوم اثنين  لحركة ” بيغيدا” ضدّ المسلمين والأجانب في ألمانيا، لذلك  في انتخابات 2017 حصل حزب البديل  على  13,2من الأصوات البرلمانية، مما يعكس تأزم الموقف السياسي تجاه قضية اللاجئين، وهنا يُحاول  عيّاد البحث في وجهة النظر الألمانية من خلال الاعتماد على الدراسات  والتقارير الدوريّة التي تصدرها الجامعات ومراكز البحث الألمانية والتي تمثل وجهة النظر الشعبية والحكومية في آن واحد.

يتطرّق الكتاب في فصله السابع  إلى بعض القضايا والتي شكلّت صدمة للأسر العربية فشغلتها، من تلك القضايا  تعلّم اللغة العربية بين متقبل للفكرة  وبين رافض لها.

ففي مرحلة البدايات بحثت الجالية العربية عن ذاتها، وكينونتها، لكنها في مرحلة الاستقرار استشعرت ضرورة تعليم العربية لأبنائها  من خلال عدّة دوافع أهمّها  الدافع الديني و التواصل مع الأهل والأسرة بالإضافة إلى أنها لغة تخصصيّة ثانية  وهي أساس الهويّة والانتماء الذي يحرص عليه المهاجر في ألمانيا. فيرصد الكتاب أوائل المدارس التي علّمت العربية في برلين  في الجمعيات والمساجد بالإضافة إلى مدارس السفارات حتى  دخول تعليم اللغة العربية إلى بعض المدارس الألمانية في الفترة الأخيرة . فيعرض تاريخ  المدارس العربية وفق احصائيات ومراجعات نقديّة لعمل تلك المدارس والمؤسسات ولمناهجها التعليمية وبرامجها.

أمّا في الفصل  الثامن فيبحث  في تشكيل الجمعيات والمنظمات الاجتماعية والثقافية العربية.

ومن هنا يبدو الحديث ذو أهمية وخاصة عن  الصحافة العربية المهجرية والتي لها دورها في محاولة تشكيل وجهة النظر العربية لدى الألمان أو تغيير بعض الصور النمطية لديهم،  فقد أرجع الباحث بداياتها إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، حيث تحدّث  عن أوّل صحيفة عربية  تصدر في برلين  وهي صحيفة “مصر” والتي صدر العدد الأول منها عام  1920 وقد أصدرها، محمد مختار بركات، وفي عام 1921 أصدر عبد العزيز جاويش العدد الأول من صحيفة المراسل المصري ثم  تتوالي الإصدارات والمنشورات في تلك المرحلة، لكنّها تتوقّف بسبب الحرب العالمية  الثانية  أو بسبب عودة النّخب العربية إلى ديارها بعد الاستقلال، بعد ذلك يعرض الباحث  للمطبوعات والصحف والمجلات والنشرات الدورية  التي صدرت تباعاً من خلال توثيق اسم المطبوعة ونوعها وتوجهها واسم مؤسسها ومع تعليق الباحث  على تلك المطبوعة ومحتواها، مما  يعطي صفة توثيقية للعمل الصحفي العربي في ألمانيا،  لكن من جهة أخرى  جاء الحديث عن الصحافة والإعلام في الكتاب ضمن فصل يتحدّث فيه الباحث عن تشكيل الجمعيات والمنظمات ومن ثم الحديث عن  الجالية العربية لكل دولة.

حسب وجهة نظري فإن العمل الصحفي والإعلامي العربي في ألمانيا يستحق إفراده والكتابة عنه بعمق وحيادية أكبر في باب مستقل خاص به، لأنه غنّي بالموضوعات والأبحاث وخاصّة أنها أعمال  رياديّة، كان لها الدور الأكثر في التواصل بين أبناء الجالية والحفاظ على لغتهم .

من جهة أخرى  يعرض  الكتاب الأسباب التي أدّت إلى فشل تشكيل كيّان عربي مُستقل في ألمانيا،  لكن ذلك  باختصار فيذكر من تلك الأسباب و يُرجعها  للانتماءات والولاءات السياسية و الحزبية و( الطائفية) في الوطن و إلى الانقسام الفصائلي الذي حمله المهاجر معه إلى بلد المغترب، بالتأكيد هناك أسباب كثيرة يمكن البحث والتوسع فيها.

الفصل الأخير من الكتاب يُعطي جرعة من التفاؤل، خاصّة وأنه يتحدّث عن تجارب واعية استفادت من حالة المشاركة الديمقراطية في ألمانيا، فيبحث هذا الفصل في مشاركة العرب في الحياة السياسية  و دخول العرب إلى الأحزاب الألمانية  والبرلمان الاتحادي. لكن  بالتوازي مع ذلك يبحث أيضاً في فشل المجموعات العربية  “الانتخابية” في تشكيل صوت سياسي واحد، بسبب التنافس العربي ضمن الجالية الواحدة،  يعزى ذلك إلى التشابك السياسي المفقود، بين أبناء  الجالية، لكن رغم ذلك فهناك تجارب ناجحة  فيتحدث الباحث عن تجربة جمال قارصلي كنموذج برلماني.

إن مراجعة سريعة لفصول الكتاب  ترينا أنه يذخر بالمعلومات القيمة والمفيدة والموثّقة، وقد بذل  الباحث جهداً استثنائياً في عمله الطويل!! إذ أنّ جهده واضح في جمع  هذه المعلومات من مصادرها و التي استغرقت منه سنوات عديدة .

لكن القارئ للكتاب يجد أن بعض المعلومات قد توقّفت عند فترة زمنية معيّنة وبالتالي احتاجت هذه المعلومات إلى تحديث قبل طباعة الكتاب  وخاصّة فيما يتعلّق بالصحافة ودور النشر والنشاط الثقافي للجالية  ودخول أعداد من الوافدين الجُدد سوق العمل ومجالس البلديات وغير ذلك. من جهة أخرى أغفل الكتاب التأريخ للحركة الإبداعية العربية في ألمانيا بما تشمله من كتّاب وفنانين  ومبدعين ومترجمين “أفراداً” مثل “رفيق شامي وفاضل العزاوي، وعادل قرشولي، وحامد فضل الله و مروان قصاب باشي.. والمترجم أحمد عز الدين وغيرهم ” باعتبارهم علامات فارقة في تأسيس الثقافة العربية في ألمانيا، ولدورهم في نهضة الحركة الإبداعيّة والفنية في حين حصر الحركة الثقافية ضمن سياق الجمعيات والمؤسسات التي تهتم بالثقافة.

من جهة أخرى طالما أن الكتاب يؤرخ لوجود الجالية خلال فترة زمنية معيّنة كان من المفيد  لو أن الباحث أقفل بحثه عند سنة “كذا”  وبالتالي يترك الباب مفتوحاً له، ولغيره، لمن أراد متابعة البحث في هذا الشأن من بعده.

على العموم يعدّ  الكتاب إضافة جديدة  للمكتبة العربية وتأتي أهميته في أنه الرائد في معالجة هذه القضية والتأريخ لها بما يحفل به من تفاصيل  ومعلومات كثيرة، ومن خلال  تسعة فصول و أكثر من خمسين عنوان فرعي، وبما يضمه من وثائق واحصائيات صادرة عن المؤسسات الحكومية في ألمانيا.

يقع الكتاب في 450 صفحة من القطع المتوسط بطباعة أنيقة  وهو صادر عن دار الدليل للطباعة والنشر في برلين عام  2023  

وكتبه الأستاذ علي عيّاد، باحثٌ لبنانيّ مقيم في برلين