حينَ تُكْسَرُ مِحْبَرة الشعراء في سمكريّ الهواء 

للشاعر سرجون كرم

موسى الزعيم

استطاعتْ قصيدة النثر أن تخلقَ كيانها الجمالي الجديد من خلال التشابكات العميقة والمتداخلة بين عناصرها النصيّة، إذ تمزجها في نسيج جماليّ يحلّق بالخيال على متن تكنيك لغوي خاصّ بها و من خلال فضائها المفتوح ومنحها للشاعر القدرة على الخَلق والإبداع والابتكار، وباعتبارها أفقًا إبداعياً حراً، استفاد من تراكمات التراث الأدبي العالمي من خلال احتفائها بالتفاصيل اليومية الصغيرة العابرة لهوامش الحياة، حافلة بما هو مدهش  وايحائي، لذلك يمكن قراءة التجربة الشعرية لقصيدة النثر من خلال كسر النمطيّة المألوفة في التعاطي مع الصورة الشعريّة ومن خلال البعد الجمالي الذي تحدده زاوية وقوف الشاعر على موضوعاته، والاشتغال على أفق بلاغيّ جديدٍ؛ لكن بوعي جمالي يتسلّح بمعرفةٍ تُجدّد دم الشعر العربي بكلّ امتداداته، وتجعله منفتحاً على التجريب والمغايرة والمغامرة أيضاً.

من هنا يمكن قراءة الديوان الشعري “سمكريّ الهواء العليم بكل شيء” للشاعر اللبناني الدكتور سرجون كرم، باعتبار أن نصوصهُ نموذجاً لهذه “المغايرة والمغامرة” حيث سنرى أن القصيدة أو (النص الشعري) لديه يكسر النمطيّة والرّتابة ويشكّل لنفسه صوتاً متفرداً لاستفادته من كثير من المعطيات اللغويّة والتراثية والفكرية وغيرها، ولعل التجربة المتفردة والعميقة لسرجون كرم جاءت من اشتغاله على الأدب العالمي عامّة و الألماني خاصّة، باعتباره أستاذاً جامعياً للأدب العربي في جامعة بون الألمانية.

يقع الديوان في 180 صفحة وقد قسّم الشاعر ديوانه إلى ثلاثة أقسام، جاء القسم الأول منها تحت عنوان “سمكريّ الهواء” والثاني بعنوان “العليم بكلّ شيء” أمّا الثالث فكان بعنوان “ماروشكا”.

الغربة والهجرة، العتب على الوطن، الفقر والواقع المأزوم، الحروب الخاسرة وانحدار الثقافة ولوم الشعراء وإشكالات الحداثة، والإنسانية المشروخة و فضاءات لأمكنة وشخصيّات كثيرة، عبرت متن السرد في سمكريّ الهواء، سلسلة من الهموم الوجدانيّة والكونية تتراءى ملامحها في سياقات النصوص وعبر كلّ جملة وكلّ تفصيلة مهما كانت دفقتها صغيرة.  

في قراءة أولية لعنوان الديوان، يمكن قراءة الحامل اللغوي للجملة على أنه يُضمر معنى مغايراً يشي بإيحاء بعيد، سيلحظ القارئ لاحقاً مدى ارتباطهِ وتشظيّه على متن النصوص.

من المعروف أن السمكريّ – بحسب معاجم- اللغة السمكري هو من يعالج الحديد المطليّ بالقصدير ونحوه و يعيد الأشياء المعطوبة إلى وضعها السويّ ويجمّلها، وبإضافة السمكري إلى لفظ الهواء يبدو لنا كمن يحاول القبض على المجهول وبالتالي افتراض ما سيكون عليه من السويّة، و يحيلنا بلا شكّ إلى “دون كيخوته” في صراعه مع طواحين الهواء، وهنا يُفترضُ أنّ ذاتاً فاعلةً عارفةً يشغلها الواقع بما فيه من تراكمات وانكسارات، لجأتْ إلى قوّة كامنة في “يد السمكريّ” في حرفتهِ في أدواته، تريد إعادة تشكيل هذا الواقع وإصلاحه، هذا التناحر والتماهي في اللفظين معاً يفضي إلى افتراض القلق الضاغط على ذات الشاعر وانشغالاتها، هل هو العطار الذي سيصلح ما أفسده الدهر؟ أم المثقف المهموم بإصلاح عطب أمة لا يزال ينخر سوس الجهل فيها.

ومن هنا يمكن قراءة تركيب بعض عناوين القصائد” النصوص” أيضاً  نلحظ أنّها تراوحت بين نموذجين الأول: العنوان المباشر مثل ” الشّهداء، كييف، نفير، بيروت، طفل المخيم القديم، الوحيد، العيون السوداء..” وغيرها.

 أما النموذج الثاني فنرى فيه اشتغالاً تكنيكياً يصل إلى درجة الإدهاش من عناوين هذه القصائد”  سمكري الهواء، الأفعال الخمسة على الحروف السبعة، تعالي بفأس ٍفي يدي الغابة، من باب الهوى، قصب الصمت، سيف الكلام، بؤبؤ الكون، طارق بن زياد يدقّق الأخوين كرين، ذيلٌ على مزمور القوق…”

 الاشتغال على الرمز والثنايات المتناقضة

 باعتبار أن الرمز في النص الأدبي صار من أهم روافد الحداثة، و كأحد وسائل التحديث الفني في قصيدة النثر، حيث صارت تعوّل عليه كواحد من أهمّ عناصرها الفنية والجمالية لكنه بالتأكيد ليس ترفاً لغوياً.

في نصوص سمكريّ الهواء، يلحظ القارئ اتكاء الشاعر على الرموز بما تحمله من دلالات سواء أكانت” طبيعيّة أم دينيّة، صوفيّة، ميثولوجية، تراثية.. وغيرها ” هذه الرموز لها حواملها المرجعية من خلال إحالتها إلى مفاهيم مترسّخة في الذات الجمعيّة التي شكلتها سيرورة التاريخ والحدث والثقافة، لم يكن مرور الرمز عابراً، بل هو رائزٌ يحفر في عمق الدلالة اللغوية والمعرفية.

من هذه الرموز التي حفل بها الديوان ما يرتكز على المعطيات الدينية من خلال  تمثلها للسرديات المعروفة، سواء أكانت إسلامية أو مسيحية أو غير ذلك.  

فنجد “موسى، هارون، هند بنت عُتبة، الخضر، هُبَل واللات وعُزّى ومُناة، ابن عربي ،الجارية، هاجر، من جهة أخرى نرى اورفيوس وزرياب وسيزيف وأرخميدس وأجراس الكنيسة ورامبو، والسّراط المستقيم والوسواس الخنّاس والذئب والطاووس وأبي الحنّ، ومحاكم التفتيش وحكاية سِباق الأرنب والسلحفاة والأميرة النائمة  وأبي ذر الغفاري وبورخيس. وغيرها الكثير…

هنا نرى أن كل ما سبق يحمل مستويين، مستوى لغويّ دلالي، ومستوى ايحائي معرفي،

جاء القسم الأكبر من هذه الرموز على شكل أسماء أعلام لها حضورها في الذهنية الإنسانية وبالتالي تحيل إلى ِسير وحكايات ومواقف، هذا يعني أنّ المتأمل أو قارئ العالم سرجون كرم الشعري يُفترضُ أن يكون على دراية بهذه السرديات أو أنها تحفّزه على إعادة تشكيل الصورة ومقارنتها مع المعطيات الثقافية والفكرية، ومقاطعتها مع المحتوى السردي والشعري للقصيدة.  

 إنّه الغموض الشّفاف، الإحساس العالي بمضمون النص لدى الشاعر ليوصله إلى القارئ على متن الفكر، وهذا ما يتطلب قارئاً عالماً يوهّج النص حالته النفسية، فيحيله إلى المضامين العميقة الشاغلة وبالتالي يُسقطها على واقعه. من ثم البحث عن الحلّ، علما أن النص الشعري لا يقدّم أجوبةً وإنما يسعى لإثارة الأسئلة الوجودية، الأسئلة الخلاّقة التي تفترض وجود الحلّ في ذهن المتلقي، فتخاطبه وتشتغل على إثارته ماضوياً ومستقبلياً.

وحسب رأي فاضل العزّاوي” فإن الشعر يبدأ من حيث ينتهي العلم وهنا تقترب القصيدة من الدين أيضاً، بمعنى أنّها توجد في فضاء الأسئلة التي يَعجز حتى العلم عن الإجابة عنها “ص17 “المؤتلف والمختلف من قصيدة الشعر إلى قصيدة النثر”.

  إنه الأمل في التغيير، الذي يكمن في الذهنية الواعية ومن هنا  تتماهى شخصية الشاعر مع الرمز.

كذلك يمكن قراءة الرمز من خلال ارتباطه بالمخيال على مستويين، الماضي التراثي  والمتغير، وما ينعكس على قراءة الواقع، من خلال العلاقة بين الذات والوطن والحرب والهجرة والخوف، انحدار الشعر والعطالة الفكرية العربية والموقف من الحداثة المتعثرة

على صعيد الموقف من الحداثة فإن للشاعر موقفاً مختلفاً منها وما تنتجه النصوص العربية الحديثة وخاصة في مجال الشعر، فيقول في نصّ ” قسطنطينية الذاكرة “

 أنفثُ تبغي في صداع النعاس.

أصرخ مثل أرخميدس في عراءِ الهواء/ وجدتُ لغزَ الحداثة، نحنُ نُبحلقُ في الغيم ونبصقُ منهُ الصور./

القتلة المأجورون: يكتبون التاريخ

 الرّعاة: يصنعون النغم

 مِزمار للنواح في الكلام

 قيثارةٌ للرعد أن تدلّى

 طبلٌ لشعراء الحداثة

 وكمان يُزقزق الأطفال من أوتاره

 من جهة أخرى يأتي التنافر والتجاذُب في الجملة الشعرية الواحدة ومن خلال طريقةِ بناء النصّ ومِعماره طولاً وقِصَراً حسب الدّفقة الشعوريّة أو حمولة القول أو حُمّاهُ في ذات الشاعر وعليه إن التكثيف اللغوي يلعبُ دوراً رئيساً في اقتصاد اللغة وطريقة بناء الجملة إذ أن الجملة القصيرة لا تحتاج إلى المزيد من المفردات، فهي تستغني بحمولتها الداخلية بما تكنّه من معنى أو بسبب توهّج المفردة الدلالية ذاتها أو علامة الترقيم. وهذا ما نلاحظه في أغلب النصوص:

“وأنا أسعى بقدميّ “هَاجر” خلف زمان”

    – أحمله في الحقيقة بين يديّ- 

  نرى هنا أنّ اللفظة الأساسية في معمار الجملة الشعرية “هاجر” بما تحمله من بعد تاريخي تُحيل إلى صورة ” التعب، الصحراء، الوَله، احتراق الوقت ونفاذه، العطش الرغبة في الحياة، لهفة الأمّ في إنقاذ ولدها..” كلّ هذه المُعطيات تُحيلنا أيضاً إلى بيئة مكانية لها قداستها، وبالتأكيد ستختلف الدلالات وتتقاطع لو كان الرمز ” سيزيف” مثلاً.

 من هنا تأتي القيمة الدلالية للمفردة “الرمز” والمشبعة معنويّاً وبصريّاً التي تفرض تتالي الصور وتراسلها وإعادة تفعيل وإنتاج هذه الصور في ذهن المتلقي.

في الشكل العام  ترواحت  النصوص بين نصوص الدفقة الشعرية الواحدة القصيرة مثل نصّ هيام، وقصب الصمت و توّحد و ” الأفعال الخمسة على الحروف السبعة “

” أقرعُ البابَ../ يَفتحُ .. /أدخلُ../  أستعيرُ قلبي/ وأخرج.”

 بالتأكيد هنا لعلامات الترقيم دورها الفعّال في الجملة “من خلال تنظيم مساحة البياض والسواد في الصفحة الواحدة” وكذلك هذا الحوار الداخلي الرشيق بين الضميرين ” أنا وهو” أقرعُ، يفتحُ، أدخلُ”

في الغالب كانت النصوص متوسطة الطول، فنصوص سمكري الهواء ترتكز على الكثير من التضاد والتنافر في تركيب الجملة، هذا التضاد قد لا يسوقه الطباق اللغويّ كمحسّن بديعي وإنما  يأتي المتنافران من أجل رسم الصورتين معاً في المخيّلة، هي حالة تشبه تلك التي يقول فيها في نصّ “حين تبدأ القصيدة”

إنّ الخلق خرجَ من النص / بالأحرى من تزاوج حرفين في النصّ/ ما يثيرني التناقض فيما سيقوله الناس عني وعنها.

من خلال تأمّل النصوص يلحظ القارئ هذا الاشتغال على الثنائيّات المُتناقضة داخل النصّ وفي متن الجملة الواحدة أحياناً مثل: 

 (أوسعُ من الكون، أضيقُ من القلب قليلاً، بحرٌ بحجمِ جناح بعوضة، قصيدة من حرفين أو ألف صفحةٍ، القوميون واليساريون، الطبل يسوق الناي والكمان، لمن أحبوني ولمن كرهوني، الرفقاء والأعداء، ثغور المسلمين قاب تلّة وأدنى من البلاط فاتحين دخلوا… وخدما دخلوا، البحر سماء مقلوبة…)

في النصوص يعيد سرجون كرم الاعتبار إلى اللغة من خلال ضخَ ألفاظٍ نادراً ما تستعمل في السياق النص الشعري النثري علة اعتبار أن الميل إلى اللفظ الشفاف الموحي من سمات قصيدة النثر لكن لنتأمل الكلمات التالية والتي مرت في سياق النصوص ” يبرحش، نشخبر، ألبطُ ، أفرفطُ، يكمشُ، أمعسُ، يفلعُ، عرمرميّة..” بالتأكيد لها دلالتها وايحائها و حركيتها ومشاكستها للقارئ.  

من جهة أخرى تتعدد الأصوات والمنولوجات داخل النص الواحد، ربما هو التفكير بصوت عالٍ يخرج من ذاتك قبل التي مزجتها القصيدة بذات الشاعر

فهنا مثلاً يدور في مخيلته هذا السؤال ويحيله إليكَ/ إليّ

 في رأيك بماذا يشعر الشعراء ومؤلفو الكلام حين يفكرون

 في صورتهم في الجريدة أنهم في ذمّه الله

 ولا شيء سيذكّر بهم

 كم كانوا متعة وأضحوكة للأرض اليباب

 تؤسس نصوص سرجون كرم لحالة جمالية وشعورية لها خصوصيتها وقيمتها المعرفية والفلسفية لما تختزنه هذه النصوص من حالة فكرية عميقة، جاءت عبر خصوصية شعرية لها أسسها ومنهجها المختلف وبالتالي تكسر الإطار النمطي للنصوص العربية السائدة في الوقت الحالي من خلال مزج الثلاثي ” الجمالي والشعريّ والفكري ” هذا يعكس حرفية الشاعر وتمكنه من تقنياته ووسائله وأدواته إذ لا يطغى واحدٌ من هذه الأقانيم على الآخر إذ أنّ هذه النصوص يمكن قراءتها في سياقاتها المنفصلة أيضاً فما هو شعريّ فيها يحمل روح الشعر وخصائصه وايقاعه الداخلي، وما هو فكريّ يبدو واضحاً تماماً من الطروحات العميقة المُستلة من التفكير الانسان الواعي، وأمّا عن البعد الجمالي فإن النصوص اشتغلت أساساً على مكنون الجمال اللغوي والصورة وتبادل معطيات الحواس” تخترع أذناي صوتاً للعطر، أشمّ الكلمات”  وحين تهطل الطلمة من غربال المساء “ما يدفعك إلى قراءة الجملة الشعرية مرة واثنتين وثلاث وعليه فإن تنوع المنابع والمشارب يعطي لهذه النصوص خصوصيتها و حرفيتها من خلال توثيب الوعي وتحفيزه وانصهاره من أجل الإفصاح عن الدلالة  التي تشغل الشاعر والقارئ معاً.

في سمكري الهواء لا يكتب سرجون كرم شعراً ” وإنما يترجم ما يرى في المنام”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*الدكتور سرجون كرم شاعر وأكاديمي لبناني مقيم في ألمانيا