في الذكرى العشرين لوفاة “آنا ماريا شيميل”

موسى الزعيم

في هذه  السنة تمرّ الذكرى العشرين لوفاة واحدةٍ من أهمّ الشخصيات المُعاصرة والتي أنصفت الإسلام والتراث العربي في الغرب،  المرأة التي كرست نفسها  لدراسة الإسلام والقرآن والحديث والشعر والتراث العربي عبر مصادره المتعددة بدء من الهند إلى باكستان وتركيا إلى العالم العربي عامة، لكن هل احتفى بها العرب والمسلمون ؟

من خلال مراجعتي للصحافة العربية هذه السنة وبعض المدونات المتخصصة بالاستشراق لم أجد سوى مقال واحدٍ لموقع ” قنطرة ” الذي احتفى  بالسنة العاشرة لوفاتها. لكن ثمّة من أصدر كتابين احتفاء بها !

من المهم هنا في هذه  المقالة إعادة التعريف بالباحثة التي كرّست حياتها لتكون جسراً ثقافياً ليس بين الثقافة العربية والغربية فحسب، بل إن الدارسين العرب صاروا يأخذون ترجماتها لعدد من شعراء شرق آسيا، كمصادر مُعتمدة في أبحاثهم  لما تتمتع به آنا ماريا من حياديّة بحثيّة وسِعة مصادرها اللغوية.

الولادة والنشأة:

ولدت آنا ماري شيميل في 7 أبريل 1922 في مدينة إيرفورت في وسط ألمانيا، لعائلة بروتستانتية، تنتمي إلى الطبقة الوسطى. كان والدها  صانعاً للنسيج،  أمّا أمها  فهي من أسرة  تعمل في البحر على متن السفن في البحر.

نشأت آنا ماريا في بيئة هادئة محبّة للأدب الشعر. وكانت منذ طفولتها شغوفة بكلّ ما يتعلق بالشرق ومعجبة بكلّ ما هو روحاني وصوفي في الإسلام والأديان الشرقية الأخرى.

بدأت في تعلّم اللغة العربية في سنّ مُبكرة منذ عام 1937 كانت حينذاك  لا تزال في الخامسة عشرة من عمرها في تلك الأثناء أيضاً درست الدين والتاريخ الإسلامي إلى جانب تعلّمها للغات الشرقيّة مثل الفارسية والتركية والأوردية .

انتقلت بعد ذلك  مع أسرتها إلى برلين عام 1939 ثم بدأت دراستها الجامعية للاستشراق، بعد ذلك بدأت في كتابة رسالة الدكتوراه  والتي كان مضمونها  حول”مكانة علماء الدين في المجتمع المملوكي” وقد أشرف عليها  الباحث ريتشارد هارتمان.

أنهت رسالة الدكتوراه وهي في سنّ التاسعة عشرة من عمرها عام1941 ونشرتها في مجلّة عالم الإسلام  تحت عنوان ” الخليفة والقاضي في مصر والعصور الوسطى”.

في عام 1941 عملت كمترجمة للغة  التركية في وزارة الخارجية الألمانية، وفي ذات الوقت واصلت دراستها واهتمامها العلمي بتاريخ المماليك، وقبيل الحرب العالمية الثانية بقليل، أنهت رسالة الدكتوراه في جامعة برلين عن الطبقة العسكرية المملوكية.

بعد الحرب العالمية الثانية اعتقلت من قبل الامريكان، في ذلك الوقت كانت قد أنهت رسالة الأستاذية، ولأنها كانت بعيدة عن السياسة إبان الحكم النازي، فقد تم اختيارها من قبل جامعة ماربورغ بدلاً من أستاذ العربية الذي أُقيل بسبب علاقته بالنظام النازيّ وذلك عندما أُعيد تنظيم الجامعات الألمانية بعد الحرب.

كانت آنا ماريا  في الثالثة والعشرين من عمرها. وكانت أصغر أستاذة، وأوّل سيّدة تُلقي  مُحاضرة عن التصوّف الإسلامي  عام 1946في ألمانيا في ذلك الوقت.

في عام 1951  حصلت على الدكتوراه عن “مصطلح الحب الصوفي في الإسلام“.  ثم ترجمت – بناء على طلب بعض علماء الاجتماع الألمان- مقاطع طويلة من مقدّمة ابن خلدون، بعد ذلك بدأت التدريس في «كلية الإلهيّات» في جامعة أنقرة عام 1954.

عادت إلى مدينة بون، وعملت في أكاديميتها ومن أهمّ الأعمال التي قامت بها  في تلك الأثناء أنها تشاركت مع (ألبرت تايلله) في إصدار  مجلّة فِكر وفنّ عام 1963.

في مجلّة فنون نشرت عدداً من النصوص الشعريّة لشعراء عرب معروفين واحتفت بأسمائهم، مثل نازك الملائكة والسيّاب والفيتوري ونزار قباني وفدوى طوقان وأدونيس وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور. صار  القارئ الألماني  يعرف محمد إقبال وجلال الدين الروم يوغيرهم من الشعراء.

كذلك صار بعض الدارسين والقراء العرب يأخذون بكتاباتها دراساتها وأحكامها النقدية.

فيما بعد حققتْ أعمال الشاعر والمستشرق فريدريش روكارت، باعتباره أهمّ ناقل للآداب الشرقية إلى اللغة الألمانية فمنحت جائزة فريدريش روكارت والتي تقدمها مدينته (شفاينفورت) في جنوب ألمانيا.

فيما بعد انتقلت إلى العمل في جامعة هارفارد، لتدّرس الثقافة الهندوإسلامية عام 1967 فقد كان اختيارها لهذا المكان نتيجة لترجمتها أشعاراً عن اللغة الأورديّة للشعراء “ميردارد الدّهلوي وأسد الله غالب” ومن جهةٍ أخرى كان اختيارها للعمل في هذه الجامعةِ أيضا  لأنّها بعيدة عن الانتماء السياسّي وهي من دولة مُحايدة ليست من شرق آسيا أو لا تنطلق أفكارها من وجهة نظر استشراقية غربية، أي أنّها ستقدّم معارفها بلغةٍ حياديّة بعيدة عن الانتماءات والتحزبات الضيقة.

فكانت تلقي محاضراتها عن التصوّف الإسلامي في تلك الجامعة، هذه المحاضرات، جمعتها فيما بعد في كتاب “الأبعاد الصوفية في الإسلام“.

وكذلك واصلت اهتمامها بالشعر الفارسي فألقتِ العديد من المحاضرات وقدمت الكثير من الأبحاث حوله كما واصلت اهتمامها بفنّ الخطّ الإسلامي وجمالياته.

كان مدار بحث آنا ماريا شيميل تاريخ الإسلام في شبه القارة الهنديّة والدراسات التي تدور حول ذلك بالسندية والأوردية وكانت تكتب كلّ ذلك وتدونه باللغتين الإنكليزية والألمانية، مما عزز عامل الثقة بأبحاثها أنها لا تقرأ الترجمات عن اللغات الشرقية، بل تقرأ النصوص بلغتها الأم.

بعد ذلك حصلت عام جائزة السلام الألمانية 1995 رغم اعتراض الكثيرين عليها كأول مستشرقة ودارسة للإسلام، هذه الجائزة  يمنحها اتحاد الناشرين الألمان، وقد سلّمها الرئيس الألماني هذه الجائزة.

كرست حياتها لدراسة الأدب العربية وخاصة فيما يتعلق بالشعر الصوفي ترجم عبد السلام حيد كتابها إلى العربية الذي يلخّص سيرة حياتها ” حياتي بين الشرق والغرب ” الغرب شرقية ” .

تعتبر آنا ماري شيميل أشهر ممثلي الاستشراق الألماني المعتدل على المستوى الدولي حتى وفاتها في بون في 26 من يناير2003.

وحول مكانة آنا ماري شيميل في الفكر الإنساني  يرى الدكتور محمد الذكري القضاعي وما قامت به دارت ابن الذكري للنشر المعرفي:

احتفلت دارة ابن الزكري الألمانية، والتي تتخذ من ألمانيا مقراً لها، وذلك عبر سلسلة تجديد النّظر في الدين والسلوك التي يرأس تحريرها د. خالد التوازني، بالذكرى العشرين لرحيل الباحثة المستشرقة الألمانية الشهيرة البروفيسور آنا ماري شيميل (7 أبريل 1922 ـ 26 يناير 2003) من خلال إصدار كتابين مهمين عن حياتها في هذه المناسبة.

الكتاب الأول يحمل عنوان: “الاستشراق في مواجهة الاستشراق: آنا ماري شيميل وسيغرد هونيكة” للكاتب المغربي السيد أيوب الذهبي، ويتعمق هذا الكتاب في إبراز الجدل البيني بين المستشرقين. كما يتطرق الكاتب إلى توضيح كيف فرض العلماء الغربيون تصوراتهم المسبقة على الثقافات العربية والإسلامية، كما وصفها إدوارد سعيد في استنتاجاته في كتابه “الاستشراق”. ويركز السيد أيوب الذهبي على كتابات آنا ماري شيميل وسيغريد هونيكة، وكليهما كاتبتان مستشرقتان لم يقدما رؤى قيمة عن الإسلام فحسب، بل تحدّيا أيضًا افتراضات وتحيزات المستشرقين الآخرين وخاصة الألمان. من خلال تحليل أعمالهما، يعرض الكتاب نهجيهما الفريد الذي أنتج استشراقاً وقف في مواجهة الاستشراق. وتبدو أطروحة الكتاب مبتكرة وجريئة، حيث تفتح بذلك باباً لدراسات جديدة تحت عنوان “الإستشراق في مواجهة الإستشراق”.

والكتاب في فكرته مضمونه هدية لروح النبيلة الألمانية  الباحثة آنا ماري شيميل في ذكرى رحيلها العشرين.

أمّا الكتاب الثاني فيحمل عنوان: “الأبعاد الصوفيّة غير المُغلقة وتأنيث الفضاء الروحيّ” من تحرير الأكاديمي المغربي الدكتور خالد التوزاني والمفكر البحريني الدكتور محمد الزكري القضاعي. وقد تعمّد المحرران إصدار هذا الكتاب لما يحمله الموضوع من أهمية بالغة، حيث استلهما أفكاره من الكتاب الرائد الذي وضعته آنا ماري شيميل، “روحي امرأة – عن الأنوثة في الإسلام”، والذي صدر عام 1995.

واليوم في ذكرى رحيلها العشرين يأتي كتاب الأبعاد الصوفية غير المغلقة، ضمن سياق المشروع العلمي الرائد للنبيلة آنا ماري شيميل. حيث يسبر هذا الكتاب أغوار “الأبعاد الصوفيّة المفتوحة وتأنيث الفضاء الروحي” ليقف على دور المتصوّفات في الروحانيّة الإسلاميّة، ولاسيما تجاربهن التعبديّة. كما تضم المجموعة أبحاثًا ومقالات كتبها أكاديميون وصحفيون، وتقدم وجهات نظر متنوعة حول كيفية قيام الصوفيين بخلق مساحات روحية ودينية شاملة للنساء. ويدرس الكتاب بشكل نقدي جذور الخطاب الذكوري وأصوله الكبرى في الثقافة الفقهية، ويلقي الضوء على تأثير بعض المبالغات الفقهية في فهمها للشريعة وإحداث شيء من عدم المساواة بين الجنسين في العالم الإسلامي من خلال تحدّي العادات والتقاليد القديمة التي همشت حضور المرأة في التعليم وفي الممارسات الدينية، كما يكشف الكتاب عن الدور الإيجابي الذي تلعبه المرأة الصوفية المعاصرة في الإسلام.

آنا ماري شيميل، باحثة مشهود لها بالنبوغ والتميّز دوليًا، ولديها أكثر من خمسين عامًا من التفاني في فهم العالم الإسلامي، كانت رائدة في دراسة دور المرأة في الإسلام. ترفض جميع أعمالها  الفكرية تلك الصور النمطية المرسومة في الذهنيات المغلقة وتسلط الضوء على المساواة بين المرأة والرجل في الروحانية الإسلامية. بالاعتماد على مجموعة واسعة من المصادر العربية والتركية والفارسية والهندية الإسلامية، تكشف شيميل كيف يتشابك الحبّ والتصوف في التقاليد الإسلامية، وتؤكد على الدور العميق للمرأة باعتبارها من مظاهر الله. من خلال البحث الدقيق والأمثلة المضيئة، تتحدى شيميل المفاهيم الخاطئة وتقدم فهمًا ثريًا ودقيقًا للروحانية الإسلامية.

بشكل عام، يحيي هذان الكتابان تراث آنا ماري شيميل ويعملان على تقديم إسهامات معرفية قيمة، بعد عشرين عاماً على رحيلها، كتابان يثبتان أنّ المكتبات العلمية لم تفِ بكامل حقّ هذه الألمانية النبيلة، ولعل هذان الكتابان عربون وفاء لتخليد ذكراها الرائدة.

يروي الدكتور محمد الذكري قائلاً: شاءت الأقدار أن أكون مرشداً ثقافياً لـ آنا ماريا شيميل عندما زارت البحرين عام 2000م

 لتلقي عدّة محاضرات في بيت القرآن في غضون أسبوع كامل،  تحدثت فيها عن تاريخ الإسلام في بلاد السند من بواكير وصول الجيش الإسلامي بقيادة  القائد الفاتح محمد ابن القاسم الثقفي، كما تحدثت عن دور التصوف في نشر الإسلام في  بلدن فيها ديانة قديمة ذات قواعد تاريخية مرتبطة بالمنطقة جغرافياً وقد كتب أكثر من كتاب حول ذلك.

يرى الدكتور الذكري: أنّ أهمية  الباحثة شيميل تأتي من فهمها العميق لدور التصوف في شبه القارة الهندية، ولها دور رائد في رفض الصور النمطية التي روج لها بعض المستشرقين تحت شعار العلم والمعرفة، بحيث كسرت من احتكارهم المعرفي بثقافة الشرق من خلال تعدد مصادرها اللغوية والمعرفية التي استندت إليها في أبحاثها فكانت كتبها في مضمونها موجهة ليس للقارئ  فحسب، بل للدارسين والمستشرقين .

من جهتي كنت أتمنى لو من باب الإنصاف والتقدير لمنهجية آنا ماريا شيميل أن نقوم أكاديمياً بإعادة اكتشاف مساهمات هذه الباحثة  من زوايا مهمة وغير مطروقة كونها مستشرقة واجهت الاستشراق.

كنت أتمنى لو أن هناك جائزة سنويّة عن الاستشراق تحمل اسم هذه الباحثة أو إقامة مركز بحثي باسمها أو حتى فعاليات ثقافية في الإطار البحثي الذي أمضت حياتها تعمل فيه، لاكتشاف الإسلام والتصوف من زاويا غفل عنها الكثير من الدارسين العرب والمستشرقين الألمان.

وما قامت به دارة ابن الذكري في هذه السنة سوى شيء من ردّ الجميل لها. نذكر  هنا بعضا من أعمالها مثل ” عنادل تحت الثلج” الجميل والمقدر ، الشمس المنتصرة، روحي أنثى ، أبعاد صوفية في الإسلام وغيرها الكثير من الكتب والدراسات والأبحاث .