الحياة الثقافية في مملكة البحرين

موسى الزعيم

مشَاهدات من زيارتي الأخيرة

لم يكن في خاطري ولو في المستقبل البعيد أن أزور مملكة البحرين، لكن كما يُقال: أجمل الحبّ ما لم يحسب له وأجمل اللقاءات ما يأتي مصادفة.

في جنّة (دلمون) كما كانت المصادر التاريخية تسميها، أمضيت أسبوعا كاملاً زاخراً باللقاءات والزيارات المكثفة والتي كانت تأتي غالباً دون ترتيب أو تخطيط مسبق.

البداية من مُتحف البحرين

افتتِح المتحفُ رسميّاً في 15 ديسمبر 1988  وسط أرضيته الواسعة، توضع خريطة البحرين  بأسماء مدنها وأحيائها وشوارعها تمشى عبها وكأنك تمشي على تراب هذه الأرض الطيبة أو على  طريق اللؤلؤ  الشهير، يروي  المتحف حكاية تاريخ البحرين  الممتدّ ستة آلاف سنة ، توقفنا مطولاً مع مرافقنا الشيخ صلاح الجودر عند قسم التراث الشعبي،  لكلّ معروضة ولوحة فنيّه  فيه حكاية تراثية  يحفظها الرجل ويرويها لنا كما لو أننا  نعود بالزمن معها. 

في ساحة المتحف  كرسي  مخملي أحمر هو الكرسي  الذي جلس عليه بابا الفاتيكان فرنسيس أثناء زيارته التاريخيّة لمملكة البحرين، في 4 نوفمبر 2022 حيث شارك في ختام “مُلتقى البحرين للحوار- بين الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني” كما عرضت السيارة التي تنقّل فيها في أنحاء المملكة .

كان برفقتنا أيضا الدكتور محمد الزكري الذي عمل ضمن الفريق في المشروع التأسيسي لطريق اللؤلؤ التراثي والذي نجح في أن يدخل في قائمة اليونسكو للتراث العالمي مع جهود البروفسورة الألمانية “بريتا رودلف” وطاقمها وبفضل جهود المسؤولين، رافقنا في تلك الجولة  من سلطنة عمان الصحفي صلاح البلوشي والروائية فائزة محمد، مما أعطى لهذه الزيارة طابعاً معرفياً خاصاً.

المكتبات

 البداية كانت من مكتبة وقت .. في مارس ٢٠٢٠ تأسست دار الوقت للثقافة والنشر في مملكة البحرين، بأهداف كبيرة عنوانها المساهمة بفعالية في الحراك الثقافي البحريني والعربي، وقد جاءت تسمية مكتبة الوقت باقتراح  الأستاذ إبراهيم بشمي رئيس تحرير جريدة الوقت التي كانت تصدر سابقاً.

وعبر صالونها الثقافي استقبلت دار وقت  ولا تزال، وجوهاً ثقافية محلية وعربية، أثروا الساعات والدقائق بالأنشطة الثقافية والندوات والمحاضرات القيّمة، ولا تزال الدار تباشر جهودها، مرحّبة بكلّ فعلٍ ثقافي من شأنه المساهمة في تنوير العقول والرقي بالأذواق، كان لي الشرف أنني كنت أحدَ ضيوفها ضمن برنامجها الثقافي من خلال  محاضرة ألقيتها  عن ” النشاط الثقافي العربي في ألمانيا”  اتسم النشاط  بكثير من المحبّة والألفة والحوار الفكري العميق، أدار الحوار فيه الناقد الدكتور على فرحان.

المكتبة الوطنية:

تقع مكتبة الوطنية في شارع المعارض في المنامة رافقني  إليها “الدكتور علي الصديقي”  وهي مكتبة أهلية  أسسها المرحوم إبراهيم محمد عبيد سنة 1929 في (سوق القيصرية بالمحرق) ونقلها إلى المنامة سنة 1937 في شارع باب البحرين إذ تذكر المصادر أن لعائلة عبيد دورًا بارزًا في تأسيس ونشأة المكتبات في البحرين .

تقع حاليا في شارع المعارض بالعاصمة المنامة، تبيع الكتب المتنوعة عربية ومترجمة، وتهتم اهتماماً خاصاً بالإنتاج الأدبيّ والفكري للكتاب والأدباء البحرينيين، وتولي اهتماما خاصا لأدب الطفل والفتيان.

ما يثير الدهشة في هذه المكتبة حديث  العم ”  محمد دانش أبو زهير” والذي يعمل  في المكتبة مذ أكثر من أربعين عاماً، سألته عن تاريخ المكتبة فراح يروي لي تاريخها ومن كتبَ عنها عدّد لي أسماء كتّاب وصحفيين ومطبوعات وبرامج تلفزيونية  تحدثت عن تاريخ المكتب، أذهلني الرجل بصدقه في محبته للمكتبة وتاريخها عندما خرجنا أخبرني الدكتور علي أنّ الرجل من الهند وهو أديب وله عددُ من المؤلفات أيضاً.

مكتبة جرير

وهي من أهمّ المكتبات الحديثة والمعاصرة في البحرين، وقد صممت بطراز معماري حديث على مساحة ضخمة ومؤلفة من عدّة طوابق، ما يميزها عن غيرها أنّها تحتوي على  كلّ ما يتعلق  بالكتب و القرطاسية ومستلزمات الكتابة ومن شتى أنحاء العالم ولمكتبة جرير فروع أخرى في عدد من الدول العربية.

مكتبة صوفيا

 تقع مكتبة صوفيا في  المحرق في سوق القيصرية التقليدي وتضم عدداً كبيراً من الكتب المعاصرة، تم تصميم المكتبة بشكل فنّي أنيق ، ويحتوي على مقهى خاص بها وبمساحة خارجية تطلّ على تفاصيل مدينة المحرق العمرانية وعلى أسواقها الشعبية، كما توفر المكتبة  تجربة “مغايرة” في طرح الكتاب وتداوله من خلال تقديمها لعددٍ كبير من العناوين التي تتراوح بين الرواية والفكر والفلسفة وغيرها من المعارف الإنسانية بعيداً عن  كتاب السوق المستهلك، إضافة على كتب من إصدارات دار صوفيا.

 أما تسمية المكتبة بهذا الاسم فذلك بسبب قصّة إنسانية درامية تتعلّق بصاحبتها، لكن ما عرفته عن ذلك أن لصوفيا صاحبة الاسم 10% من أرباح  المكتبة ذات الفروع الثلاثة في الكويت واسطنبول والبحرين.

أسرة كتاب البحرين

أسرة الأدباء والكتاب هي جمعية تعنى بالحراك الأدبي في مملكة البحرين، تأسست  عام 1969، تحت شعار  «الكلمة من أجل الإنسان». تهدف الأسرة إلى الحثّ على الإنتاج الجيد في مجال الأدب والثقافة والفكر، وتشجيع البحوث والدراسات الأدبية والفكرية، والعناية بالتراث العربي على الصعيدين المحلي والقومي، والاتجاه بالأدب اتجاهاً يخدم المجتمع، ويعمل على تنمية الوعي الاجتماعي، بالإضافة إلى العمل على رعاية الحركة الفكرية والعمل على ازدهارها.

للأسرة مجموعة متنوعة من الفعاليات الأسبوعية والنشاطات الثقافية التي تستقطب جمهوراً واسعاً من المثقفين والمهتمين، كما وتقوم بسلسلة من الإصدارات الأدبية لأعضائها في المجالات الإبداعية المختلفة. كما أنها عضو نشط في الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب وعضو في الاتحاد العام للكتاب الأفروآسيويين، يرأسها الدكتور راشد نجم المعروف بحفاوته وطيب ملقاه.

وقد تشرفت بأن كنت أحد ضيوفها وعلى منبر الأسرة في محاضرة بعنوان  ” الآخر  أو صورة  الألماني في الرواية العربية الحديثة في ألمانيا”  والتي أدار حوارها  الناقد أيمن جعفر وحضرها عدد كبير من أعضاء الأسرة.

حلويات شويطر

على طرفي سوف المحرق تنتشر عدد  محلات صنع الحلوى لافتات المحلات تشترك  بعبارة واحدة” “حلويات شويطر”  الأسماء تختلف  بعد العبارة  حين سألت مضيفي الدكتور محمد الذكري عن ذلك أخبرني أن أسرة شويطر تتوارث المهنة جيلا عن جيل، في زيارتنا لمجلس رجل الأعمال فؤاد شويطر اخبرنا أنه يمثّل الجيل الخامس من الأسرة التي توارثت مهنة صناعة الحلوى. والتي لها شهرتها أيضاً، ولا بد لزائر البحرين من أن يتذوقها أو يحمل معه “صوغة” شويطر كهدية  لمحبيه.

يحكي  فؤاد شويطر عن تاريخ صناعة الحلوى في البحرين : بأنها جاءت من النجف بالعراق، وأن جدّ والده كان يسافر إلى البصرة للتجارة وتعرف هناك على جماعة من أهل النجف وفي إحدى رحلاته إليهم عام 1850  قدموا له حلوى  طيبة المذاق، فسأل الرجل عن  كيفية صناعتها، فعلموه ذلك، عاد الجدّ من رحلة يحمل معه سرّ الصنعة التي صار لها فيما بعد مُتحف خاصّ بالأسرة  يضمّ الأدوات والأواني الأولى التي استخدمتها العائلة في تلك الصناعة، وطبع لأجل ذلك كتاباً مصوراً  يحكي تاريخ هذه الصنعة وقد أهداني نسخة منه، ما يلفت النظر في مجلس شُويطر ومحلات الحلوى هو كرم الضيافة والحفاوة التي يقابل بها كلّ من يدخل المحلات سواء كان سائحاً أو متسوقاً.

الأسواق الشعبية

 في مدينة المحرق يمكن للمرء زيارة الأسواق التراثية القديمة مثل سوق ملتقى الأياويد، سوق القيصرية  سوق  خاور، سوق الطيارة، وسوق كشيش وسكة محيش!! سوق النجادة سوق التمر وسوق التجار والكراشية  والذهب وعشيش الحدادين،  أمّا باب البحرين وسوق المنامة الشعبي، فكان قد اكتمل بناؤه سنة 1949 ويمثل المدخل الرئيسي لسوق المنامة، الذي يعتبر من الأسواق الكبيرة، حيث يضمّ محلات مختلفة مثل محلات الأقمشة والتوابل والأعشاب والمشغولات  اليدوية وغيرها.

في زيارتنا لسوق القيصرية  يروي لنا الشيخ صلاح الجودر أن سوق القيصرية من الأسواق الشعبية الشهيرة في البحرين وهو قديم يُرجح أنّ تاريخ إنشائهِ يعود إلى بدايات القرن التاسع عشر والسوق الموجود اليوم هو جزء من السوق القديم، كما أنه حسب موقع هيئة البحرين للثقافة والآثار هو “أحد الأجزاء المهمة من مشروع طريق اللؤلؤ، الذي أدِرج على قائمة التراث الإنساني لليونيسكو عام 2012 م.

بعد جولة الأسواق لابدّ أن تمتع نفسك بكأس شاي في قهوة ” بوخلف” المقهى الذي أسس عام 1937 امتاز المقهى ببساطته واحتوائه على الكثير من القطع التراثية التي زينت جدرانه  وإلى اليوم يرتاده الكثير من المثقفين عبر مختلف الأجيال كانوا يتداولون أخبار المجتمع ويستمعون إلى خطابات عبد الناصر من جهاز الراديو الذي مازال المقهى يحتفظ به الإضافة إلى جهاز  ” البشتخة” أو صندوق الموسيقى بأسطواناته الكبيرة.

المقهى يعتبره البحرانيون من تراث المنطقة وشاهداً على الكثير من التحولات الاجتماعية والعمرانية، هناك أيضا عدد من المقاهي التي لها روادها ومازالت تحافظ على أصالتها مثل قهوة الطواويش وقهوة العليوي.

في التعايش الدينيّ

في سوق المنامة الشهير، تتموضع عدد من دور العبادات  فمعبد الهندوس، يُذكر أن الوجود الهندوسي قديم في البحرين، بحكم تواصل البحرين مع شرق آسيا، كما فيها كنيس  للطائفة اليهودية، وكذلك مأتم العَجم الكبير الذي تأسس سنة 1881 م ، بالإضافة إلى  كنيسة القلبِ المقدس، تعيش البحرين حالة من التآلف والتعايش المجتمعي  من خلال صيغة وعقد اجتماعي يحترمه الجميع  يتجلّى ذلك من خلال فعاليات المجالس التي تشتهر فيها المنطقة والتي تؤدي دورها الاجتماعي والثقافي والديني.

مثل “مجلس بن هندي  وشويطر والدوى والجودر ومجلس بوزيون” ودور هذه المجالس المختلفة  في تقديم خدماتها للبحرينيين من خلال صيغة التعددية الطائفية والمذهبية وغيرها إلا أن أهم ما يجمعها هو  التعايش الإنساني بالدرجة الأولى.

كما أن للجمعيات النسائية  دورها في رفد الحركة الثقافية والمجتمعية مثل جمعية “أوال النسائية جمعية رعاية الطفل و الأمومة جمعية شجرة الحياة”.

من جهة أخرى يرى الزائر للبحرين حجم التنوع  في  ثقافة المطاعم والمقاهي إذ يعكس مطعم أو مقهى نكهة مختلفة، ولكن لوجبة الشواء في مطعم ” صبر أيوب” نكهة تراثية خاصّة أو وجبة مأكولات بحرية  في مطعم تبرز الشهير وغيرها من المطاعم التي تراوحت بين العصري ” المودرن” والتقليدي.

في حين يوقف المرء مطولاً عند في معرض وغاليري الفنان “حسن جناحي” فيسرق هذا الرجل المهووس بالجمال وقتك دون أن تشعر بمعروضاته التي يشتغلها بورشته، يمزج فيها متناقضات الحياة ” كالحرب والموسيقى والحياة والموت يحب الرجل الموسيقى، لذلك يدخلها في كلّ تصاميمه، وقد أفرد جناحاً خاصاً للوحات عمالقةِ الموسيقى العالمية كما أن في معرضه مقهى خاص، صمم  كل محتوياته بيده.

عدت من البحرين وقد فاتني الكثير الذي لم أستطع زيارته  من بيت القرآن وهو مركز ومُتحف  لكل ما يتعلّق بالقرآن الكريم ومخطوطاته. عدتُ منها وأنا أحمل في جعبتي الكثير من الكتب التي أهداني إياها عددٌ كبير من أدباء البحرين وشعرائها ومثقفيها الذين أحاطوني بالمحبّة وبجلسات الشعر الجميلة التي لا تنسى  مع  الشاعر أحمد العجمي وليلى السيد وكريم رضي وأيمان أسيرى..و غيرهم من الأدباء والنقاد.