المؤتلف والمختلف من قصيدة الشعر إلى قصيدة النثر

للدكتور فاضل العزّاوي

موسى الزعيم

يُعد  الشاعر والروائي فاضل العزّاوي شاهداً على مرحلة زمنية من الثقافة العربية في العصر الحديث والتي  شهدت تفاعلاً وحراكاً أدبياً صاخباً، ترك وراءه  هزّات وارتدادات مازالت إلى اليوم محلّ جدل ومراجعة منذ بداية ستينيات القرن الماضي .

كتبَ العزّاوي مع أقرانه” القِلّة المُجَددة ” يوم ذاك البيان الشعريّ الأوّل في العراق، والذي أصدرته مجموعة كركوك الشعريّة، حيث طغى جَدلهُ الأدبي على صوتِ السياسةِ وشغل الصحافة في تلك الأيام.

وذلك قبل البيان الشعري المعروف الذي تبنّاه أدونيس بسنوات.

في كتابةِ الجديد، الصادر حديثاً  تحت عنوان ” المؤتلف والمختلف في قصيدة النثر” يحمل العزاوي شهادتهُ ويقول كلمته من جديد في مفهوم الحداثة العربية ومشكلاتها، يكسر أصناماً  ويعيد تفكيك رؤىً  كنّا -على الأقل- ” دارسي الأدب العربي  ومثقفيه”  نعتبرها فتوحات أدبيّة جديدة وقواعد ثابتة كسرت أزمان التنميط في ثقافتنا..

ينطلق الكاتب من خلال فاعليته مع الأحداث الأدبية في عِراق الستينات ونضاله التحرري منذ بداية حياته المدرسية، إذ ينشر  له “يوسف الخال” قصيدة في مجلّة شعر البيروتيّة  وهو في الرابعة عشرة من عمره، يتيح له ذلك فيما بعد أن يكون صوتاً متفرداً، يفتحُ له عالمه الشعري  باب العمل المُشترك مع كِبار شعراء العراق والعالم العربيّ ويكون مؤسساً لحراك حداثويّ شعريّ عربيّ جديد.

لم يكن الكتاب عودة إلى البدايات، بقدر ما هو  رؤية نقدية ومراجعة لما أنتجه الفعل الثقافي والشعريّ العربي خلال المرحلة الماضية حتى يومنا، وهو محاولة في  فتح الأفق واسعاً أمام رؤيا شعرية عربية مُتجددة، في مقدّمة الكتاب يطرح الكاتب رؤيتهُ عن الكتابة الجديدة  والمزلق الحضاري الذي وقعت فيه، فيعود إلى ستينات القرن الماضي، حيث أثيرت في تلك الآونة  فِكرة الكتابة الجديدة، جيل من الشباب -يمثّلهم الكاتب- يبحثُ عن آفاقٍ جديدة للكتابة العربية، مُقابل جيلٍ من الحرس القديم ” يزعقُ بوجه هؤلاء الفتيان الباحثين عن قارات جديدة” .

في كتابه الجديد يرى العزاوي أنه وفي مرحلة لاحقة، صارت الكتابة الحداثية  ذريعة لا نتاج أعمال هابطة بل  مُضطربة  إذ غدتْ مطبخاً للتيارات الأدبية والفكريّة معاً، مما أوقعها في مأزق حضاري، عندما لم تميّز نفسها عن الاتجاهات الطليعيّة في الأدب الأوربي المعاصر.

يرى هنا أن اختلاف المهمات الجديدة للكاتب العربي، تختلف عن الكاتب الأوربي، بسبب طبيعة المجتمعات  لذلك عجزت الكتابة العربية عن ترسيخ مفاهيمها، فثمّة ما يفصل بين التجديد الشكليّ والكتابة الجديدة ” الحداثة ” فقصيدة النثر خلال ربع قرن استهلكت نفسها، هرمتْ وشاختْ، إذ  ليس الشكل الشعريّ من حوّل القصائد إلى مومياءات وإنما العقل  الشعري.

و أنّ كلّ تعريف للشعر هو تحديد له، فالشعر له فضاءه الخاص الذي يختلف عن فضاء العلم حيث يبدأ الشعر من حيث ينتهي العلم، وهنا تقترب القصيدة من الدين بمعنى أنّها توجد في فضاء الأسئلة التي يعجز حتى العلم عن الإجابة عنها..

هذه الحرية صارت وسيلة لدى بعض الشعراء لإخفاء الركّة في قصائدهم، باسم لغة تتشكّل من تركيباتٍ لغويةٍ وذهنيةٍ مجردةٍ..

لذلك فإنّ الحداثة لا تكتشف ينابيع الإبداع في الماضي فقط، وإنّما تشقّ أمامها الجداول والقنوات لتصبّ في النهر الكبير الذي يهدرُ الآن هنا، متدفقاً نحو المستقبل فالشاعر “يروي ذكرى نفسه في العالم”

الشعريّة العربية الحديثة من قصيدة الشعر إلى قصيدة النثر

يعود الكاتب إلى بدايات ظهور شعر التفعيلة  أو الشعر الحرّ، فيرى أنّه” من خطأ معرفيّ ارتكبتهُ الشاعرةُ نازك الملائكة في العام 1947 وخطأ آخر وقعتْ فيه مجلّة شعر اللبنانية في العام 1960، اقتبست حركة الحداثة الشعرية العربية مُعظم أفكارها ومفاهيمها المرتبكة عن نفسها، فاقدةً القدرة على تمييز معنى المصطلح الذي يرتبط بها.

فقد أطلقتْ نازك الملائكة كلمة الشعر الحرّ على شعر غير حرّ، فعندما نظمت قصائدها القائمة على تعدد التفعيلة بين بيت وآخر، اعتقدتْ أنها تُعيد بذلك انتاج قصيدة الشعر الحرّ المعروفة في اللغات الأوروبية، في حين أنّ ما فعلته، وفعله آخرون قبلها وبعدها، هو أنّها انتقلت من شكلٍ معينّ للقصيدة العربية التقليدية( الشكل العمودي) إلى شكل شعريّ تقليديّ في اللغات الأوروبيّة، وُجد دائماً ضمن ارتباطه بالوزن والقافية، هذا يعني أنّ نازك  الملائكة استبدلت بالتقليديّة الشعريّة العربيّة تقليديّه شعريّه أوروبية أطلقت عليها اسم الشعر الحرّ المقتبس من الإنجليزية أو الفرنسية  ضمن خطأ في فَهم معنى المصطلح نفسهِ.

وإذا كان الغرب يمتلك شعراً حراً وقصيدة نثر؛ فها نحن نمتلكها أيضاً مثل ما نمتلك كلّ شيء آخر من الغرب ..لذلك فإن الالتباس ليس في معنى المصطلحات وإنما بالمعنى الثقافيّ الذي يرتبط بها، ويحدد عبرها علاقتنا بحداثة الكتابة.

قديماً استمدت القصيدة العربية صوتها من البيئة المحيطة، كانت أحادية الإيقاع، في حين أن القصيدة الحرّة هي أقرب إلى الموسيقى السيمفونية التي تمتلك أصواتاً متعددة، هي ايقاعات الآلات وانتقالاتها الصوتية من مستوى إلى آخر، “هبوط ارتفاع صمت” ضمن العلاقات التآلفيّة للعمل كله.

لذلك أصبح قول الشاعر الجديد مختلفاً، وهذا يرتبط بالأفق الفكري والروحي والأخلاقي للعصر الجديد وتحرره من الايقاعات القديمة يعني تحرره من الأفكار المرتبطة بها أيضا.

بعد ظهور النص القرآني بما يمتلكه من قوّة نثرية صارت الغلبة لما هو ديني، عاد الشاعر العربي إلى تكريس دوره كشاعر يحتاجه البلاط يمدح الأمير..، أمّا الشاعر الحرّ الذي يعتبر الشعر عمليّه إبداعيّه لم يظهر إلاّ في القرن العشرين، هذه الحريّة التي حصل عليها أبعدته عن أبواب السلاطين، ما جعله  ينظر إلى شعره من خلال عينيه وروحه ويجدد أشكاله ويقول ما يريده دون خوف أو خساره  تلحق به.

من جهة أخرى فإن دراسة الأشكال الشعرية هي مفتاح معرفة تطور المجتمع فكرياً وروحيّا وثقافيّا، لأن جمود الأشكال الشعريّة يعني جمود الأفكار وتعطل الحركة داخل المجتمع.

وهذا لا ينطبق على الشعر العربي وحده وإنما على الشعر في المجتمعات الأخرى.

فبعد ظهور الإسلام واصل الشعر العربي، مسيرته المألوفة طوال 14 قرناً دون أيّة تغييرات جوهريّه، رغم محاولات التجديد، لكنّها لم تترك أثراً كبيراً في السياق العام، والسبب هو أنّ الحياه الفكريّة العربيّة لم تشهد طوال تلك القرون ثورة أخرى، ظلّت البنية الدينية بأبعادها الفكريّة والروحيّة والاجتماعيّة، تشكّل المحتوى الذي لا يتغير مهما تغيرت أسماء الأنظمة والحكام.

علماً أنّ ابن سينا قد انتبه إلى ظاهرة  وزن النثر في اللغة العربية  قبل ما يقرب من ألف عام، عندما أوضح أنّ أشكال الوصل والفصل في الجملة هي أوزان الكلام، مؤكداً أنّ النبرات تقرّب النثر من الشعر الموزون.

يتساءل العزاوي: .. والآن وبعد مرور عقودٍ على بدءِ حركة الحداثة الشعريّة العربيّة والتي تمثلت في ظهور النماذج الأولى من القصيدة الحرّة القائمة على النثر، و قصيدة التفعيلة التي كسرت هيمنة الشعر العمودي،  يرى أنه حان الوقت لكي ننظر إلى إشكالات الشعر العربي الجديد، ومدى اقترابه أو ابتعاده عن الحداثة.

وفي الإجابة عن هذا التساؤل يرى  أن الأرضيّة التي تقفُ عليها الحداثة هي أرضيّة اجتماعية تاريخيّه تتجلّى في التطور الذي حققته بين الانتقال في بنية المجتمع القديم إلى العصر الحديث وتتجسد في مستويين الماديّ والروحيّ.

بناء على ذلك يثير الكاتب عدداً من الأسئلة استناداً إلى المرحلة العربية السابقة  والتي اتسمت بالفوضى واللاعقلانية وتداخل القيم واختلاط المفاهيم  والأزمنة بالإضافة إلى القضايا المفروضة من الخارج ومن هنا يبدو السؤال:  في هذا الخضمّ المتلاطم كيف تكون الحداثة؟ من يُعبّر عنها؟ كيف تظهر في الشعر العربي ؟

إذاً ليس كلّ ما يحدث في الحاضر ينتمي إلى الحداثة، فالحداثة لا ترتبط بظاهرة ما لأنها تحدث في الحاضر، وإنما لأنها تعبّر عما ينتمي إلى المستقبل. لذلك يرى الكاتب أنّ “الشعر الجيد هو ما يبقى منه بعد صياغته نثراَ”

في قسم آخر من الكتاب يطرح سؤال  الشكل و اللغة:

فقد ظلّت قصيدة التفعيلة جزءاً من القصيدة التقليدية واستمراراً لها، عند نازك الملائكة والسيّاب ومن عاصرهم، لكنها مع نازك الملائكة  والسيّاب بالذات صارت ذات طابع شخصي، نظرت إلى موضوعها من زاوية شعرية أكثر  لكن تلك النظرة بقيت تقليدية خطابية أو مسرفة في الغنائية. ملتزمة  بسفح العواطف والبكائية  

ظلّ السيّاب حتى النهاية أسير ماضيه الشعري كشاعر تقليدي ينظر إلى موضوعه من خلال انفعالاته حيث كتب  أشهر قصائده “أنشودة المطر”  تحت تأثير قصيدة “ايدي ستويل” بالغزل على طريقة الشعر العربي القديم دون أي مبرر موضوعي، يبدأ قصيدته بـ” عيناك غابتا نخيلٍ”  وهو تقليد لنشيد الإنشاد “عيناك حمامتان”.

يرى العزاوي أنّه ومنذ عقود تحوّل الشعر إلى تابعٍ ذليل للنظام أو الحركة السياسية، فلا يُعتَرف بالشعر أو الشاعر إلاّ إذا أعلن ولاءه .

يبدو هذا واضحاً من مأساة السيّاب، التي تكشف لنا طبيعة هذه الجريمة التي انتهكت ضمير الكتابة العربية، السياب الذي نشر قصيدة عمودية يمدح فيها عبد الكريم قاسم ليرسله إلى العلاج في إنجلترا، بعد شهرين أو ثلاثة  أُطيح بعبد الكريم قاسم فاضطر السيّاب أن  يشتم عبد الكريم قاسم و يمدح قاتليه. وهذا يكشف عن مرضٍ قاتلٍ شمل الثقافة العربية فترة طويلة، فالقيمة لا تنبع في الأغلب من داخل الإبداع وإنما تأتي من الخارج لأسباب سياسيّة. “لأن الشاعر الذي لا قبيلة له يجب أن يبحث عن قبيلة وإلا نهشته الكلاب”

أمّا كيف نكتب نصّاً مُبتكر اً

من وجهة نظر العزاوي أنّ لكلّ نصّ إبداعي قصّته التي لا يعرفها سوى الكاتب “نحن نفكر عادة فيما يقوله الكاتب، وليس فيما جعله يقول ما قاله.

السؤال الذي يوجه إلى كلّ كاتب يؤلف كتاباً لماذا كتبتَ هذا الكتاب؟ ما الذي تريد أن تقوله فيه.

يقول العزاوي إنه في البداية المبكّرة لحياته ” عرفت أن كل العلاقات البشرية منذ البداية وحتى الآن تقوم على قصص، كل معركة وحرب في  ضوئها  يُقرر النصر أو الهزيمة؛ قصة، لا يمكن أن أتحدث عن الحبّ دون قصة.

وعن اختياراته لموضوعاته يقول : شخصيّاً أتابع دائماً كل ما يحدث في العالم من صراعات سياسية تحولات اجتماعية، التطورات الكبرى في العلوم و الفلسفة والفنون، أجهد ألاّ يفوتني شيء من الأدب العربي وحده، وإنما في العالم كله، وأني أستمدّ مادتي من الواقع الذي يتسع عندي ليشمل الكون كله.

العودة إلى الشعر المرئي واللامرئي

السؤال الآن: هل الشعر المرئي الحديث محاولةٌ حداثيةٌ جديدةٌ أم أنّه عوده إلى أشكال الفنّ في القرون الوسطى ؟

في القرن العشرين تُعتبر الثورة الفكرية  شيئاً نادراً في تاريخ البشرية كلّه، راح الانسان يجرّب كلّ شيء كما لو أنّه امتلك أسرار الوجود كلّها دفعةً واحدةً.

 بدأ الفنان يكسر القوالب التقليدية التي تُؤطّر حركة الفنّ وحريته واجتاحت الفنانين والشعراء رغبة عارمه في الوصول إلى المنطقة السحرية في العمق الإنساني، راح المبدع  يختزل فيها المسافات ويقدم نفسه كمكتشف لقاراتٍ جديده نائية.

وعليه فإنّ الشعر المرئي الجديد هو امتداد لتجربة تاريخية طويله في التوحد بين النصّ والصورة بحيث يؤلف الاثنان معاً شكل النص وجوهره.

الالتزام السارتريّ و القصيدة  الصحفية

يرى العزاوي أنّ القصيدة في الماضي كانت تعليقها عاطفياً ذمّاً ومدحاً أمّا الآن فإنّ أيّ حدث سواء كان سياسياً أو غير سياسي، يتطلّب معرفةً علميةً وتحليلاً يقوم  على الحقائق الموضوعية ويلغي أي موقف عاطفي لأن الموقف العاطفي سوف يعكس فهماً سطحياً عن الواقع

في عالمه الإبداعي لا يعرف العزاوي حدوداً أو مسافة فاصلة بين شكل الكتابة ومعناها

في المحصلة  ثمّة نمطان من الكتابة داخل الثقافة العربية المعاصرة، كتابة ترتكز إلى التاريخ دون أن تكونهُ وأخرى تؤسس واقعاً خارج الواقع نفسه وفي الحالين تكون الكتابة مُستلبة من خلال الوعي الخاطئ الذي ينتجها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدكتور فاضل العزاوي شاعر وروائي  عراقي مقيم في برلين ترجمت أعماله اشعرية والروائية إلى عدّة  لغات، كان آخرها ديوان شعر بالإسبانية .