أشجان العيد في الشعر والغربة: عيد واحد وأهلّة شتّى

العيد واحد

موسى الزعيم

يشكّل عيد الفطر لدى عامّة المُسلمين محطّة اجتماعيّة ودينيّة، لها خصوصيتها بعد صيام شهر رمضان، والعيد بكلّ تجلّياته بما يحمله من رمزيّة وقدسيّة، وبما يُفترض أن ينطوي عليه من محبّة وتآلف، وإحساس بالآخر، هذا الآخر الذي أكّدت عليه ثقافة العيد وكينونته ودعمت كلّ ذلك التّعاليم الدينيّة الخاصة به، والآخر بالمفهوم العام حسب ثقافة المحبة هو الأرحام والأقارب، ومن ثم تتسع الحلقة لتشمل حتّى الذين غادروا دنيانا، فلهم نصيب من الذكرى والوقفة المتأمّلة الطيبة لهم صباح العيد، بينما ينال الجيران والأصدقاء حصّتهم من المحبة والفرح في هذا اليوم المُفترض أن يكون فيه الناس على قلبٍ وشعورٍ واحدٍ..

إذاً هذا ما يُفترض أن يحمله العيد بين جناحيه، وينثره على الوجوه المتعبة، والتي أمضت شهراً كاملاً في التعبّد وامتحان الصبر.

 هذا ما لم تختلف عليه طائفة، أو فئة تعتنق الإسلام أو غير ذلك، فالعيد محبّة، العيدُ أن ترى البسمة على وجه من أحببتَ، أن تشعر بمن سُرِقت منهُ هذه البسمة، في هذا اليوم من مرض أو فَقد أو فقر أو غير ذلك الكثير وتتساءل لماذا ؟. 

 وللعيد في الثقافة العربية شجون كثيرة، فمن خلال قراءةٍ واعيةٍ لثقافتنا العربيّة وخاصةً التّراث الشعريّ منها، نجد عناية عددٍ كبيرٍ من الأدباء العرب، وخاصة الشعراء بالعيد، باعتباره حالة إسلامية ذات أبعاد اجتماعية ونفسية وتراثية ترتبط مباشرة بذات الفرد العربي والمسلم، وتغدو أهميته من خلال ارتباطه بأحاسيس ومشاعر الناس مباشرة، وبحالة نقاء هذه المشاعر في تلك الفترة، فقد شكّل مادّة أدبيّة غنيّة، للأدباء بشكل عامٍ والشّعراء بشكلً خاصٍ؛ فالشّعراء بما يحملون بين جوانحم من إحساس نبيل تفيض مشاعرهم في ذلك اليوم..يقرؤون بدقّة تفاصيل الحزن والفرح في الوجوه، تغدو قصائدهم لسان حال من جاءه العيد وفي نفسه آلاف الأوجاع، وخاصّة من ترك دياره وأهله، واستقرّ في بلاد الغربة.

 أما قضيّة العيد في الغربة، فقد توقّف عندها الكثير من الشعراء العرب، إذ شكّل العيد عندهم ملهماً مهمّاً لعددٍ كبيرٍ منهم عبر العصور،حتّى غدت القصيدة التي تتحدّث عن العيد مألوفةً، ومُنتظرَة أحياناً عند بعض الشعراء.

هذا اليوم بما يحرك لواعج الشعراء ويثير قرائحهم وشجونهم وأشجانهم، وخاصة إذا كانوا بعيدين عن أهلهم وذويهم، حالهم كحالنا اليوم في بلاد المهجر تضاربت مشاعرهم، فمنهم من يغدو حزينا مهموماً في هذا اليوم الذي تفرح به العامة، يثير العيد في نفسه آلام الغُربة يلهب ذكرياته، ويُشعل في نفسه الحنين فيتساءل الشاعر العربيّ الكبير “المتنبي” إن كان العيد يحمل بين جناحيه شيئاً من الفرح أم كما عوّده على الحزن والفقد بسبب بعده عن أحبته وغربته عن أهله واغترابه في زمانه، ومن منّا لا يذكر أبياته والتي أصبحتْ من عيون الشّعر العربي، والتي يحمّلها ما ضاقت به نفسه فيقول:

عيدٌ بأيّةِ حالِ عُدتَ يا عيدُ …… بما مضى أم لأمرٍ فيكَ تجديدُ

أمّا الأحبّةُ فالبيداء دونهمُ ………..فليتَ دونكَ بيداً دونهم بيدُ

لم يتركِ الدّهر من قلبي ومن كبدي … شيئاً تتيّمهُ عينٌ ولا جيد ٌ

 والسؤال هنا إلى أيّة درجة ينطقُ المتنبي عن حالنا في غربتنا اليوم، وقد تركنا أهلنا وذوينا و حرمنا مُتعة العيد بينهم.

ما قاله المتنبي، تردده أرواحنا في كلّ صباح عيد في المهجر.

 من جهةٍ أخرى يعبّر الشاعر العربيّ عن مأساته في العيد، حينَ يشرق عليه صباح ذلك النهار، بينما هو يقبع في سجنه رهن الاعتقال، مما تزيده هذه الحالة حزناً وألماً كيف لا؟! وقد انقلبتْ حاله من الفرح المُفترض إلى الحزن المخيّم على ذاته، ووجدانه  فالشاعر أبو فراس الحمّداني عاش تلك المِحنة في سجن الروم أسيراً بعيداً عن أمّه التي تنتظرُ أن تفرح به في ذلك اليوم المبارك

حيث يقول: مصوراً قدوم العيد، بينما هو بعيدٌ عن كلّ جميلٍ مفرحٍ في هذه الحياة، محجوبٌ عن التواصل مع الناس وخاصةً أمّه.

يا عيد ما جئت بمحبوب.. على معنّى القلبِ مكروبِ

يا عيد قد عدت على ناظرٍ .. عن كلّ حسن فيك محجوب

 ألا تذكّرنا أبيات الشاعر بآلاف المعتقلين والأسرى المغيبين عن أهلهم وذويهم؟!

أولئك الذين لا يُشعرهم العيد سوى بغصّة الألم، ومرارة الانتظار، وفي هذا المقام نستذكر أبياته التي يخاطب فيها أمّه في سجنه.. الأم المنتظرة على الجمر عودة ابنها، والابن الأسير الذي يُحّرم على نفسه الفرح أو يُحرم من أدنى درجاته  فيقول مخاطباً إياها:

أيا أمّ الأسير سقاكِ غيثُ … بكرهٍ منكِ ما لقي الأسير
إِذا اِبنُكِ سارَ في بَرٍّ وَبَحر    فَمَن يَدعو لَهُ أَو يَستَجيرُ
حرامٌ أن يبيتَ قرير عينٍ  .. ولؤمٌ أن يلمّ به السرور

أمّا الشّاعر الأندلسي المعتمد بن عباد الذي فقد شهد الحزن والذل في عيده عندما كان مسجوناً في سجن (أغمات) في الأندلس  وقد تبدلت أيام سعده تعساً، ودارت به الدنيا دورتها، فبعد أن كان أميراً يحظى بترف العيش هو وأسرته، غدا اليوم قعيد السجن محبوساً عن كل ما هو جميل، يعاني مرارة الألم  بينما انقلبت حياة أسرته رأساً على عقب فيقارن الشاعر بين أحواله في الإمارة وما آلت إليه حاله اليوم واصفاً وضع بناته اللواتي يعانينَ الحاجة والفقر.

فيما مضى كنتَ في الأعيادِ مسروراً        وكان عيدك  باللّذات معمورا

وكنتَ تحسبُ أنّ العيد مسعدةٌ        فساءك العيد في أغمات مأسورا

وكنتَ تحسبُ أنّ الفطر مبتهجٌ           فعاد فطرك  للأكباد  تفطيرا

ترى بناتكَ في الأطمارِ جائعةً ..     يغزلنَ للناسِ لا يملكنَ قطميرا

من جهة أخرى ربطَ عدد من الشعراء فرحة العيد ورمزيته بالقضايا السياسيّة والاجتماعيّة الكبرى التي تعاني منها الأمّة كقضيّة فلسطين ومأساة القدس وغيرها من القضايا التي تقض مضاجع الشعراء والأدباء العرب، فالشاعر عمر أبو ريشة يربط فرحة العيد بهمومِ الأمّة، وتحديد قضيّة القدس، فهو يرى أنّ فرح العيد غائب عن تلك الروابي بسبب تعنّت الاحتلال فيقول:

يا عيدُ ما افترّ ثغر المجد يا عيدُ .   . فكيف تلقاك بالبشرى الزغاريدُ

طالعتنا وجراح البغي راعــفة         مالها من أساة الحي تضميدُ

يا عيد كم في روابي القدس من كبدٍ   لها على الرّفرف العلوي تعييدُ

 بينما تصور الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان حالة المشرّد، المُهجّر البعيد عن أهله، ساكن المخيمات، كيف يمرّ عليه العيد، وما حالهُ في بعدهِ عن موطنهِ الذي اقتلع منه، فتقول في قصيدتها “مع لاجئة والتي تصوّر فيها هذا البؤس، وخاصة عدم إحساس أصحاب القصور بالمشرّدين من البشر من أبناء أوطانهم، وكأنّ العيد ما مرّ على من يعيشون في المُخيمات، أو كأن لم يكن لهم يوماً بيوت وذكريات طفولة..

أختاهُ هذا العيدُ عيد المترفين  الهانئين

عيدُ الألى بقصورهم وبروجهم متنعّمين

عيد الألى لا العارُ حرّكهم ولا ذلّ الضمير

فكأنّهم جثثٌ هناك بلا حياة أو شعور

أختاه لا تبك فهذا العيد عيد الميتين!

قصيدة الشاعرة فدوى طوقان  تثير في أنفسنا الكثير من التساؤلات والشجون عن مدنٍ بأكملها اليوم تقبع في المخيمات نتيجة الحروب والصراعات الداخلية، عن قوافل كبيرة من الأطفال المهجّرين المُبعدين عن مدارسهم وبيوتهم وأحلامهم.

 وبالعودة إلى  العيد في الغربة أو المهجر فالشاعر المهجريّ إيليا أبو ماضي يرى أن العيد موجودٌ بمظاهره وتجلياته إلاّ أنّ الفرحة غائبة عنه، فيغدو شكلاً فارغاً دون مضمون، وذلك لانشغال الناس بهمومهم وصراعاتهم وخوفهم من الآتي فيقول بنبرة ساخرة لا تخلو من الطرافة: 

أقبلَ العيدُ .. لكن ليس في النّاس المسرّة

لا أرى إلاّ وجوها كالحات مكفهرّة

كلهم يبكي على الأمس ويخشى شرّ بكره

فهم مثلَ عجوزَ ضيّعتْ في البحر إبرةً

أمّا حالُ عيدنا هنا ففيه شجونٌ وشجون، فمنْ يعيش تفاصيل العيد هنا في برلين يلحظ أن بيئة العيد موجودة قائمة بذاتها، بدءاً من التفاصيل الصّغيرة والكبيرة من صلاةٍ العيد إلى زيارة المقبرةِ وأفراح الأطفال وملابسهم  وطبق الحلوى وغيرها، إلاّ أنّ نكهة العيد تغدوا باهتةً مسروقةً، ربّما أنّ يداً عن قصد أو غير قصد امتدت لتعبثَ بها، ربّما عن جهلٍ أو ربّما أنّ الأمر خارجَ حدود التوافق الإسلاميّ هنا بين مكوناتِ المجتمعِ، والمؤسف أنّ هذا حالنا في غالب الأحيان، أحياناً اضطراب التوقيت في تحديدِ يوم العيد يفقده نكهته، ومتعة الفرحة به، ومن منّا ينسى ما حدث العام الماضي أو الأعوام السابقة إجمالاً من اختلافٍ على هلال شهر رمضان، حتى غدا كلّ واحدٍ منّا يتبع هلالاً خاصا به، وتكثر التحليلات والتأويلات، وتظهر الولاءات و التبعيّات لدول دون أخرى، ونتوه بين الدقائق عند الغروب، وبين خطوط الطول والعرض، حتى يغدو لكلّ فئةٍ عيد، ولكلّ طائفةٍ عيدٌ ” بعضهم روى لي:إنّه في إحدى السنوات اختلف الناس هنا ولثلاثة أيام ( كلٌّ يعّيد على هلاله) أو أنّ الرجل يخرج ليقول لجارهِ أو صديقه: كلّ عام وأنت بخير ليردّ الآخر عليه بأنّه مازال صائماً ولم يثبت العيد بعد؛ حتّى أنّ الأمر يؤول إلى المشاحنات أحياناً.

 وهذا يذكرنا بقول الشاعر ساخراً ومخاطباً القاضي الذي لم يثبتْ هلال العيد أو أنكر ظهوره..

أترى القاضي أعمى أم يتعامى؟!

سرق العيد كأن العيد أموال اليتامى

كلّ ما نتمناه أن يأتي العيد، هذا العام يحمل الفرح في صباح واحدٍ للجميع تتآلفُ فيه قلوب المسلمين جميعاً ربّما كان الأمر أفضل حتى لأطفالنا في المدارس ولصورتنا أمام الآخر،وإنّ اتفاق المسلمين وتوافقهم على يوم محدد للعيد يكسبه ثقةً وجماليّة وتيسيراً في أمور العباد وتغدو الفرحة أكمل.

.