حينما تصبح الصين القوة الأعظم !!

الصين والحرب التجارية

مصطفى مصيلحي

بحسب الكثير من المؤشرات والتحليلات، فإن الصين في طريقها لأن تصبح القوة الأكبر في العالم على الأقل فيما يتعلق بالاقتصاد والقوة العسكرية. هذا التغير العظيم من شأنه أن يغير وجه العالم بطريقة لم تعهدها الأجيال الحالية من قبل، ليس على مستوى محدد وسهل التنبؤ به مسبقًا، بل على مستويات عدة، بدرجات مختلفة تجعل القدرة على رسم معالم هذا العالم الجديد شبه مستحيلة.

مع ذلك فإن هناك الكثير من الخطوط العريضة التي يمكن أن يصبح التنبؤ بها أقل تهورًا؛ إذ إن الفوارق بين سياسات الولايات المتحدة، القوة الأولى حاليًا، والصين تبدو جلية في الكثير من الملفات الاقتصادية والسياسية. يحاول هذا التقرير أن يرسم صورة أكثر وضوحًا لعالم ما بعد أمريكا، عالم لن يكون الدولار فيه هو المهيمن على الاقتصاد، بل ستصعد فيه قوى جديدة، وتنحصر أخرى، وستتشكل فيه تحالفات جديدة بمعطيات جديدة ستساهم في رسم الصورة الأقرب لواقع هذا العالم الجديد.

محنة الدولار.. العالم بعد سقوط العملاق

تكاد تسيطر العملة الأمريكية الآن على كل التعاملات داخل نطاق الحراك التجاري في العالم، ويُنظر إلى الدولار على أنه العملة الأقوى في العالم الحديث؛ ما يعطي الجميع كامل الثقة في إمكانية تحويله إلى الذهب في أي وقت، وهو الأمر الذي يجعله المعيار المنطقي للذهب. كيف يؤثر هذا الأمر على الاقتصاد الأمريكي؟ قوة الدولار الأمريكي تجعل الاقتصاد الأمريكي أكثر النظم الاقتصادية استقرارًا في العالم، وهذا الأمر يؤثر بشكل مباشر على مستويات التنمية المحلية، وينعكس أيضًا على الاستقرار المجتمعي.

خطط الصين بشكل علني لاستبدال عملتها المحلية (اليوان) بالدولار في هذه المكانة الاقتصادية، وتحويل هذه الهيمنة بالكامل إلى الاقتصاد والعملة الصينيين، وحال حدوث ذلك، فمن المتوقع أن تعاني الولايات المتحدة واقتصادها ويلات دمار لن يكون من السهل السيطرة عليه. سيفقد الدولار هذه الثقة التي تجعله العملة الأقوى في العالم؛ وحينها سيبدأ الجميع في محاولات التخلص منه، ومن بينهم الحكومات الأجنبية التي تمتلك حصة في سندات الخزينة الأمريكية؛ وهنا يبدأ الانهيار في الخروج عن السيطرة. لا أحد يستطيع الجزم بحجم هذا الانهيار، لكن هذا النمط المتكرر في التاريخ يخبرنا بأن الولايات المتحدة سوف تعاني كما لم تفعل من قبل في تاريخها الحديث.

لإعطاء لمحة عن سمات هذا الانهيار، إليك هذا السيناريو البسيط: يبدأ الأمر بقرار لأحد أهم الدول التي تمتلك حصصًا ضخمة من الدولار بالتخلي عن مخزونها والاتجاه نحو الاعتماد على عملة جديدة، ولتكن هذه الدولة هي الصين، حينها تقل الثقة في ثبات قيمة الدولار فتقل قيمته ويبدأ الانهيار. يحاول الجميع التخلص من كل مخزونهم من الدولار الآخذ في الانهيار أو جزء منه، ولا يوجد طلب كاف على العملة لإيقاف الانهيار أو السيطرة عليه؛ يقود هذا الأمر لانخفاض حاد في قيمة العملة الخضراء؛ ويؤدي هذا الأمر إلى ارتفاع درجة التضخم إلى مستويات قياسية لا تقود إلا إلى المزيد من الانهيار.

صعود الصين يجعل أفريقيا الرابح الأكبر

في الوقت الذي تستمر الولايات المتحدة في تبني نموذج ثابت للتعامل مع القارة الأفريقية منذ قرابة خمسة عقود، بدا أن الصين قد حطت رحالها في أفريقيا واستقرت لها الأمور في صفقة رابحة يبدو أن الطرفين قد وجدا فيها ضالتهم. ترى الولايات المتحدة القارة الأفريقية بعين الطفل الذي يحتاج إلى المساعدة طيلة الوقت، فتعتمد علاقاتها الاقتصادية مع أفريقيا على برامج المساعدات والتمويل والطاقة، بينما تنظر الصين إلى القارة السمراء على أنها شريك اقتصادي مهم يمكن التعاون معه على خلق المزيد من فرص الاستثمار والنمو الاقتصادي.

بدأت خطط الصين في الدول الأفريقية في الظهور بشكل مكثف خلال العقود الثلاثة الماضية، وهو الأمر الذي أدى إلى تغير كبير في شكل العلاقة بين الصين باعتبارها قوة اقتصادية كبرى، والدول الأفريقية التي تعاني الفقر وتحتاج إلى شكل من التعاون يحقق لها نموًا اقتصاديًا بما يستتبعه من خلق فرص عمل للرجال والنساء في تلك الدول. خلال هذه السنوات القليلة أصبحت الصين أكبر شريك اقتصادي للقارة الأفريقية بشكل عام، مع نمو كبير تحققه هذه العلاقة يصل إلى 20% سنويًا.

بنظرة أعمق إلى تفاصيل هذه العلاقة الناجحة، فإن هذه العلاقة توجتها أعداد كبيرة من الشركات تصل إلى 10 آلاف شركة صينية، هذه الشركات نجحت في خلق فرص عمل لملايين الرجال والنساء من الأفارقة؛ وهو الأمر الذي قدم دفعات قوية لاقتصادات هذه الدول وساهم في صناعة نسب تاريخية من النمو بالنسبة لهذه البلدان. تبقى ملكية هذه الشركات بالكامل لمواطنين صينيين، لكن الأدوار التي يقوم بها الأفارقة في الدرجات المختلفة من الإدارة والإنتاج جعل تأثيرها على اقتصادات تلك الدول بهذه القوة.

يرى آخرون أن التعاون المشترك ليس هو الوجه الوحيد لهذه العلاقة الاقتصادية التي تجمع الصين بهذه الدول الأفريقية، فمع النمو الحقيقي الذي حققته هذه الدول، إلا أن هناك بعض التخوفات التي أشارت إليها بعض التحليلات بشأن اختيار الصين لدول أفريقية وتجاهلها لدول أخرى. يرى البعض أن هذه الشركات الصينية التي تعمل في قلب الأدغال الأفريقية يمكن اعتبارها شكلًا من أشكال الاستعمار الاقتصادي، إذ تدفع هذه الدول الكثير من مصادرها وأرباحها للصين في المقابل. تختار الصين أيضًا الدول الأفريقية التي تظهر استعدادًا للتماهي مع النموذج الاقتصادي الذي تتبناه الصين فقط، وتصبح هذه الدول هدفًا للحكومة الصينية.

رغم وجود هذه الانتقادات لهذه العلاقة التي تجمع الصين بالدول الأفريقية، يبقى شيء واحد محل اتفاق، وهو أن هذه المعدلات الكبيرة من النمو الاقتصادي الذي حققته هذه الدول في السنوات والعقود الأخيرة ستكون مرشحة للازدهار الاستثنائي حال تحولت الصين إلى القوة الأولى في العالم، وأصبحت عملتها الأقوى بين عملات العالم.

من يدافع عن الديموقراطية؟

تمتلك الولايات المتحدة تاريخًا كبيرًا من التدخل في شؤون الدول الأخرى لأسباب متعددة، لكن حماية الديموقراطية كانت العنوان الأكبر الذي تحاول دائمًا الحكومات الأمريكية تسويقه في الداخل والخارج. ـ«أمريكا حامية الديموقراطية والشعوب»، هكذا كانت تحب أن يراها العالم، ودفعت الرغبة في تثبيت هذه الصورة الولايات المتحدة للتدخل ومحاولة نزع الأنظمة الديكتاتورية من السلطة في مرات عديدة تاريخيًا.

اعتمدت الولايات المتحدة أساليب متعددة لإسقاط الديكتاتوريات والضغط على الأنظمة السلطوية من أجل تبني النموذج الديموقراطي الغربي، وتنوعت هذه الأساليب بين التهديد باستخدام القوة ومساندة مرشحين معينين في الانتخابات، وإعادة صياغة العلاقات الثنائية وأحيانًا التلويح بتطبيق عقوبات دبلوماسية واقتصادية أو تطبيقها بالفعل على هذه الأنظمة التي لا تستجيب للتهديدات وأحيانًا أخرى تتدخل الولايات المتحدة عسكريًا لإنهاء حكم ديكتاتور، أو تتدخل تحت هذه اللافتة لتحقيق أغراضها ومصالحها الاقتصادية.

اعتمدت الولايات المتحدة الطريقة المناسبة لكل نظام ديكتاتوري بناء على مجموعة من المعايير، أهمها هو القيمة الاستراتيجية للدولة، وكذلك ثروتها النفطية فيما يبدو. هذه المعايير على وضوحها لم تكن كافية للمحللين بتوقع الطريقة التي ستتعامل بها الحكومة الأمريكية في كل حالة، خصوصًا أنها كانت تقيم علاقات قوية للغاية مع أنظمة ديكتاتورية تمتلك سجلات سيئة فيما يتعلق بحقوق الإنسان.

منذ عام 2001، تدخلت الولايات المتحدة عسكريًا للتخلص من الأنظمة الديكتاتورية في ثلاث مناسبات، آخرها كان القرار الأمريكي بقيادة حملة عسكرية رفقة حلفائها في حلف الناتو للقضاء على نظام الرئيس الراحل معمر القذافي، والذي قُتل لاحقًا على يد مواطنين ليبيين. بررت الحكومة الأمريكية تدخلها عسكريًا في ليبيا بالمسؤولية الإنسانية في حماية المواطنين العُزّل أمام بطش السلطة الديكتاتورية. تدخلت الحكومة الأمريكية بنفس الطريقة في حالتي العراق وأفغانستان، وإن اختلفت فترات هذا التدخل ونتائجه في كلتا الحالتين.

كانت الأمور أقل حدة في الكثير من الأحيان، فمع الكثير من التوترات التي تحكم العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران على خلفية برنامجها النووي والكثير من القضايا السياسية الأخرى، اكتفت الولايات المتحدة بالتلويح من وقت لآخر باستخدام القوة في الوقت الذي اعتمدت فيه وسيلة توقيع العقوبات الاقتصادية. في حالات أخرى، تغض الولايات المتحدة الطرف عن غياب الديموقراطية والسجلات السيئة في مجال حقوق الإنسان؛ ويحدث ذلك عندما تكون هناك شراكات اقتصادية كبيرة مثل علاقتها مع جمهورية الصين الشعبية.

الصين لا تعطي دروسًا في الديمقراطية

تعتمد الصين في علاقاتها السياسية مع حلفائها سياسة معاكسة تمامًا لسياسة الولايات المتحدة، قوام هذه السياسة هو مبدأ «لا قيود سياسية مرفقة» (no political strings attached)، كما صرح الرئيس الصيني شي جين بينج بعد ضخه لمليارات الدولارات للاستثمار في القارة الأفريقية، ليرسم بذلك خطوطًا واضحة بين السياستين الأمريكية والصينية فيما يخص الشراكات الاقتصادية.

أصدر الرئيس الصيني هذا التصريح إلى قادة الدول الأفريقية في القمة الأفريقية الصينية التي استمرت ليومين وأعلن خلالها الرئيس الصيني ضخه استثمارات تصل قيمتها إلى 60 مليار دولار في القارة الأفريقية. تهدف الصين من وراء هذا التصريح إلى تعزيز دخولها إلى أسواق أجنبية جديدة وكذلك موارد غير محدودة تمتلكها هذه الأسواق. يأتي ذلك إضافة إلى تعزيز نفوذها السياسي في هذه البلدان التي من الممكن أن تشكل شراكات استراتيجية محتملة ستزيد من القوة الصينية في التفاوض حول الكثير من الملفات الأخرى.

سيكون صعود الصين إلى القوة الأولى عالميًا الفرصة الذهبية للديكتاتوريات والأنظمة السلطوية في القارة الأفريقية والشرق الأوسط؛ فمع انتقال الشراكات العسكرية والاقتصادية من الولايات المتحدة إلى الصين ستسقط كل القيود التي تساهم ولو بالقليل في بقاء بعض الديموقراطيات حتى الشكلية منها. مع الصعود الصيني، ستجد هذه السلطويات نفسها أمام ساحة عالمية تخلو من نداءات الديموقراطية وحقوق الإنسان والمؤسسات الدولية التي تضغط في هذه الاتجاه، والتي ستتغير بدورها من حيث الوظيفة والتأثير على الأرجح.

انخفاض ملحوظ في القدرات الأمريكية..

ترجح الكثير من التقديرات خفوتًا واضحًا في التفوق التكنولوجي والحربي للولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على بقية دول العالم، وخصوصًا الصين وروسيا، وسط توقعات باستمرار تقلص هذا التفوق، وربما انعكاس الوضع لتفوق الصين في الكثير من الأمور التقنية في مجال الأسلحة والحروب. ولقد اعترف وزير الدفاع الأمريكي، جيمس ماتيس، بتآكل هذه التفوق الأمريكي في معظم المجالات على الأرض وفي الجو، وحتى الابتكار التكنولوجي والفضاء الخارجي، وقد حذر من استمرار هذا الانخفاض في القدرات التقنية الأمريكية، وتحول دفة التفوق إلى أحد المنافسين أو أكثر، وقد ذكر الصين باعتبارها أكثر المنافسين تقدمًا.

لم يكن هذا الحديث من قبيل التهويل أو المبالغة، خصوصًا مع التقارير التي ترصد المجالات التي أصبحت تتفوق فيها الصين على نظيرتها الأمريكية بوضوح؛ إذ تقوم الصين الآن بمراحل إنشائية في أكثر من 30 محطة للطاقة النووية، لتصبح بذلك أكثر دولة في العالم تمتلك عددًا من المحطات النووية، مع تسارعها في الأبحاث المتعلقة بتقنيات الجيل الرابع للمفاعلات النووية، مؤكدة بذلك تفوقها على كل دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية.

إلى أين ينتهي الصراع؟ ليست الطاقة النووية هي المجال الوحيد الذي تفوقت فيه الصين على كل دول العالم، فاستثمارات الصين في مجال الطاقة المتجددة هي الأكبر من بين كل دول العالم، بإنتاجها أكثر من 40% من الطاقة الكهروضوئية في العالم، وهي موطن لثلاثة من أكبر 10 مصنعين لتوربينات الرياح في العالم، وخمسة من أكبر شركات صناعة الخلايا الشمسية لإنتاج الطاقة الكهروضوئية القائمة على منتجات السيليكون في العالم.

.