شهرزاد تروي حكاوي الكوكب

موسى الزعيم

هو عنوان الكتاب الذي صدر مؤخراً عن دار الدليل للطباعة والنشر في برلين، للكاتب السوداني محمد صديق محمد توم.

 يقع الكتاب في 176 صفحة من القطع المتوسط. ويضمّ مجموعة من السرديات هي أقرب إلى الحكايات التوثيقية بأسلوب شيّق.

حتى يومنا ما زالت شهزاد تلهم الكثيرين بالبوح ومن هنا استلهم الكاتب جزئية العنوان في موضوع معاصر، لكن يبدو أنّ شهزاد التي روت حكايا السمر والامتاع عبر ألف ليلة وليلة لشهريار، قد هاجرت إلى كوكب آخر وراحت تسرد لسكانه ما خبّأت جعبتها من أوجاع كوكبناً.

 لكن مهلاً!! الكوكب ليس في مجرّة أخرى، إنّه “السودان” بمساحته العظيمة.   

ضمّ الكتاب عدداً من النصوص، أطلق عليه الكاتب اسم حكاوي، يقول في المقدمة ” الحكاوي قيّدت الواقع بالخيال وحوت على عِلل الزمان التي تعكس واقعاً مريرا”

جاءت بعض نصوص الكتاب تحملُ روح السّخرية ومنها ما مزج بين الجدّ والهزل، تعكس تقلبات الأمزجة لدى الناس. ومنها ما اعتمد على التشريح الوصفي والتوثيق الاجتماعي والمقارنات بين التاريخ العظيم والإرث الراسخ وبين الحاضر المرير المترع بالألم، أطلق الكاتب على كلّ حكاية، اسم حلقة وكان شهريار شريكاً لشهرزاد في السرد.

شهرزاد المُعاصرة

تروي شهرزاد حكاياتها “المودرن”  هي هنا” الراوي العليم” عارفة بالثقافة والسياسة والفلسفة والإعلام تقرأ الصحافة الرياضية، تعرف أخبار الفنّ والدّجل وما يخفيه الشيوخ وما تغنّيه القونات، تتقن الحديث عن التعليم وثقافة الأكل والصّحة والهجرة من الكوكب، بالإضافة إلى ذلك هي تعرف السيلفي و الترند و اللايكات تشرب ” الريدبول” مشروب الطاقة، لتنشط ذاكرتها وإذا غفت يناولها الخادم فنجان قهوة لتروي حتى أذان الفجر.

يصفها شهريار بقوله” أعرفُ رجاحةَ عقلكِ ومدى حكمتك، وانتقائك لحديثك، وكلماتك..”

لكن لهول وغرابة ما ترويه وتسمعه من تناقضات وخفايا هذا الكوكب يصيبها الدوار والاغماء مما يستدعي نقلها إلى خارج المملكة.

يبدأ الراوي سرد حكاويه من خلال ارهاصات ليلة تشتّت فيها أفكاره فيها تأخذه مخيلته شرقاً وغرباً تسري إلى دواخل أعماقه تنبش بعض الأوجاع والانكسارات، تتوه اللغة في البداية من بين يديه ثم يستعيد اتزانه من خلال تذكّره لمثل ألماني ” Einmal ist  Keinmal  والمقصود أنه إذا حدث ذلك لك مرّة واحدة فقط في حياتك، فأقنع نفسك أنه لم يحدث أبدأ.

هذه الفلسفة التي اعتمدها الراوي ليقنع ذاته أنّ ما كان وكأنّه لم يكن، تسوقه الأحلام المزعجة، نحو التاريخ، فتبدأ ذاكرته عملية الاسترجاع الموجعة. 

شهزاد تروي عن بلد المليون ميل الذي بدأ يقفد جزءاً من جسده ويتضاءل، لنكتشف من خلال تلك الحكاية إنه كوكب السودان العجيب بما يحدث فيه من قصص من تجارة السيارات إلى فتاوى تحيل الحرام حلالاً” مال التحلل”  إلى الفقر والجوع و الطرق العجيبة التي تُسنّ فيها القوانين إلى تهريب المعدن النفيس خارج البلاد وغيرها من العجيب المدهش.

 كلّ ذلك تجد شهزاد نفسها متخمة به تروي ولا تملّ، يوجعها الحكي، فتأخذ نفساً أو ربما غفوة لتقول ” هذا ما سأرويه لكم في الحلقة القادمة .

تعود شهرزاد من  استشفائها من سويسرا وتصف الممرضات والمشافي هناك وتشكر شهريار على باقات الورد المرسلة.

تروي له حكاية شيوخ الكوكب من خلال مقارنة  بين حكايات الشيخ الناصح “فرح ود تكتوك”  الذي عاش في القرن السابع عشر الميلادي. و”بين الشيخ الذي يظهر في الميديا فهو خبير بالقانون، والسياسة، وهو داعية إسلاميّ ورئيس أئمة مساجد الكوكب ويعمل كمحامٍ ومدرب تنميةٍ بشريةٍ وناشط مجتمعيّ والأهم من ذلك أنه تاجر أو له من تجارة غيره نصيب.

 تسعى شهزاد دائماً أن تطعّم حكاويها بكلّ ما هو جديد، عاقدةً المقارنات بين الماضي الذهبي لهذا الكوكب وما آل إليه الوضع الجديد من انحدار في الذوق العام شعرياً وفنياً، فتتحدث لشهريار عن الأغاني الهابطة والحفلات الفارغة والبرامج التلفزيونية خالية المضمون والتي تسهمُ في تسفيه ذوق الشباب.

لا تقف شهرزاد عند هذا الحدّ، بل تتجاوز تابوهات السرد فتحكي عن فساد التعليم والرياضة والسحر والشعوذة وعن العادات والتقاليد.

حتى أصاب هذا المسّ الاجتماعي ذات شهريار فتقول مخاطبة إياه”  يسعد مساك سيدي ومولاي بالعافية وكما أصبحت تفضل أن اناديك ب”حوووب”

يتوالى السرد في مجلس شهريار حيث لم تترك شهزاد صغيرة ولا كبيرة في هذا الكوكب المنسيّ إلاّ وتحدثت عنها بعين الناقد المتألم على واقع يوشك على الانهيار وعلى المعاول التي تعجّل في هدم صرح هذا الكوكب وحضارته عن شخصيات تتحلى بقدرٍ كبيرٍ من اللامبالاة وعدم المسؤولية.

كما تبدو شهرزاد أحيانا ساخرة من بعض المواقف هذه السخرية تمزجها بالألم

لم يترك الكتاب صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ عالجها وسلّط الضوء عليها في واقع هذا الكوكب من خلال السرد الذي بدا في كثير من الأحيان مشوّقاً يغري القارئ بمتابعة نهاية كلّ حلقة.

جاءت لغة الكتاب متنوعة الإيقاع  بين العربية الفصحى واللغة المطعّمة بالعامية المحلية مما يُشكل على القارئ فهم معانيها لكن حسب رأيي كانت هذه الكلمات والمصطلحات لازمة فهي مثل الأوتاد أو الروائز التي تثبت الحدث من خلال انتماء هذه الالفاظ والسرديات إلى مكان الروي وبالتالي تعطيها التأكيد والمصداقية، من جهة أخرى يستفيد الكاتب من خبرتهِ اللغوية الألمانية والإنكليزية من خلال تطعيم حديث شهزاد وشهريار بالكثير من الكلمات الأجنبية التي تناثرت في الصفحات.

شهرزاد وحكاوي الكوكب يكشف لنا ويخبرنا بوضوح عن سعة اطلاع الكاتب وإلمامه بالحالة الثقافية والسياسية والاجتماعية  لبلده، يحكي بعين المحبّ المتألم وبأسلوب حكائي سلس، يسهل الخوض في تفاصيله، فالكثير من القصص لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير فهي تشرح ذاتها بذاتها تحكي عن واقع  السودان الذي كلما شاء أن ينهض أثقلته المواجع وها هي الحرب قد عادت  تمزّقه من جديد.

الرسومات داخل الكتاب للفنان ” أنس آدم” *محمد صديق محمد توم / كاتب سوداني مقيم في ألمانيا.

.