رواية خيط البندول ـ هوامش ومتون

موسى الزعيم

منذ الجملة الأولى في الرواية حتى نهايتها، تنوسُ حركة البندول، على مدى صفحاتها، تتأرجح الأحداث كما المواقف بين الخيبة و الأمل بين الانكسار والرغبة في النهوض من جديد.

في الرواية، يعالج طبيب الأمراض النسائية أسامة نساء مدينته زعفران، يُشرف على حملهن وولادتهن وبما يمليه عليه شرف المهنة، يحفظ أسرارهن، لكن مشكلةً طارئةً تنغّص عليه حياته مع زوجته المهندسة نداء، بسببِ خطأ طبيّ تعرضّت له عند إسعافها إلى المشفى، حين كان أسامة في الخدمة العسكرية.

تفقدُ نداء القدرة على الحمل والإنجاب، تتوالي أحداث الرواية في البحث عن حلّ مُساعدٍ لتنجب طفلاً، من خلال عمليات ووسائل حمل جديدة، تتوالى عربة المُحاولات، تحدوها أفراس الرغبة، مرّة، مرتين.. عشر، بل أكثر. تتغير الأمكنة والمشافي والأيدي الرحيمة، ويبقى الطفل هو المُشتهى البعيد، فيقف أسامة عن عجزه البشري والطبي أمام عناد رحم “نداء”

ضمن هذه السيرورة السردية في الرواية  تتقاطع قصص الحمل والإنجاب لأكثر من أسرة وبطرقٍ مُختلفةٍ بعيدة عن التوقّع و الحسابات الطبية.

كما ينوس البندول المعلّق، تُشرّق الحكايات وتغرّب، حالها حال الأمل الذي يدنو قابَ صرخةِ وليد، بل أدنى ويبقى الراوي مُمسكاً بخيط السّرد حتى آخر سطر.    

تغوص الرواية في عوالم الطب النسائي من خلال شخصية الدكتور أسامة وأستاذه الدكتور مختار الذي يقدّم له استشاراته ويوحي له بالحلول وإن عسر عليه نوالها.

أسامة الذي يقدم الكثير من الحلول لمشكلات الحمل والانجاب لمريضاته، يكتشف أيضاً ذاته الإنسانية والاجتماعية، وإن تعارض ذلك مع القوانين التي تحكم حياة الناس.

تنقله مشكلة نداء من ضفة الطبيب المُعالج إلى ضفة المكتوي بنار ما تعانيه قاصدات باب عيادته ومرافقيهن المترعين بالأسئلة.

تشغلنا الرواية منذ صفحتها الأولى في البحث عن حلّ  لشغف نداء في حصولها على طفل لكن من وجهة نظري هنالك الكثير من القضايا التي تبدو صغيرة بالمعني السرديّ لكنها تكشف عن جوانب لها أهميتها الاجتماعية والفكرية  في معمار النص الروائي وقد توزعت عبر صفحات الرواية وهنا سوف أتوقف عند أهمها:

خلق الحياة / إبداع قصيدة

“كل حياة، جنيناً بشرياً كانت أم قصيدةً، نعمة كبرى ومن شروط كينونتها الجمال

تقدم الرواية هذه السرديّة بطريقة جمالية إبداعيّة، تبسّط المعلومة العلميّة من خلال مقارنة إرهاصات خلق الجنين| إبداع قصيدة، قاربت ذلك جمالياً  ” خلق الجنين، مثل خلق القصيدة ” هذا التناظر الجماليّ وهذه الارهاصات الطويلة المخفيّة في الدواخل، تنتجها الطبيعة البيولوجية للبشر في جسد الذكر والأنثى، تشبه مخاض ولادة قصيدة”  لكن كيف ؟

“كما يحشد الشاعر ذهنه سنيناً يقرأ آلاف القصائد، يمضي أياماً وشهوراً يحفظ بعضها، ويخزّنه في ذاته تأتي لحظة الإلهام في نصف ساعة .. في لحظة خاطفة لتولد قصيدة..”

كذلك الإلقاح، خلق الجنين، تتكاتف ملايين النطاف لتؤازر واحدة منها في تلقيح البويضة واطلاق “حياة قصيدة ” ما كانت لتومض لولا احتشاد إخوتها حولها في مشقة الرحلة.. “..في الطريق يموت منها الكثير كما تموت القصائد الضعيفة “

 من جهة أخرى فإن تناسل الانسان، أقرب إلى أشكال تناسل الأسماك في أعماق البحار حيث تسبح الأسماك آلاف الكيلو مترات قاصدة مكان تزاوجها الموسمي.

بالعودة إلى الجنس البشري وبعملية حسابية، بسيطة تسرد نجاة عبد الصمد السلسلة الحسابية لتوالد البشر

” في الشهر الخامس يمتلك مبيضا الجنين؛ الأنثى خمسة ملايين جريباً، كلّ واحدٍ منها مشروع بويضة أي كائن، ..عند ولادة البنت يبقى منها مليون أو إثنين، يصمد منها عند عمر بلوغها أربعمائة، لا تنجب في أحسن الأحوال أكثر من خمسة عشر طفلاً ، وقد لا ينجبن أبدا”

من جهة أخرى تطرح الرواية أسئلة ” الانجاب المُساعَد وتقنياته المعاصرة والتي بدأت تتطور بشكل سريع ومذهل، تاركة ما قبل ذلك السبق العلمي في فراغ، ليتساءل المرء عن حال أولئك الذين هدّهم اليأس وهم في شهوةِ طفلٍ. فانسحبت كلمة العقم من قاموس الطبّ لتستبدل بنقص الخصوبة.

فصارت الأبواب مفتوحة أمام طفل الأنبوب وبنك النطاف وبنك البويضات وتأجير الأرحام والاستنساخ

وتجميد خزعة المبيض.

وصارت الطّرفة السمجة التي كنّا نتداولها يوماً “عن جنديّ أمريكي ترك زوجته لثلاثِ سنوات ثم عاد من حرب العراق ليحضنُ ابنه الرضيع..” صار ذلك مقبولاً ومفسراً علمياً ولم تعد مجرّد نكتة ساخرة.

الموت

عالجت الرواية قضية الموت من زاوية الوعي، وليس من خلال فلسفة الموت، توقفت عند الموت من زاوية طبية، لتمرير رسائل كثيرة وأسئلة عالقة حول علاقة الطب بالموت في الرواية ثلاث شخصيات يخطفها الموت  ” موت يوسف والد أسامة، موت فريدة، وموت نمر” لكلّ من هؤلاء حكاية  مختلفة

فقد فتح موت والد أسامة عليه أسئلة وجودية كثيرة، صارت الهواجس والأفكار تعبر مخيلته ارتدّ إلى بدائيته الأولى في علاقته مع عالمه المحيط، وهي المرة الثانية التي تحيل الرواية إلى ضفة أخرى من اختصاصه وحياته المهنية هو الآن المُختبر، والآن تعريّه لا بالمعني الحسي وإنما تنزع عنه مريول الطبّ الأبيض. أوقعته الأسئلة في حفر وأخاديد حاول النهوض منها وكان رائزه الألم.

هو في لجة الحزن، ممزق بين مكانته الاجتماعية وتماسكه أمام المعزين ووصيّة أبقراط ” اضبط أعصابك وازجر ما يقلقك، وكنْ على استعداد لفعل ما يجب فعله” في الليل يبكي أسامة على صدر نداء لكن الطبيب في ذاته لا يتوقف عن أسئلة المنطق والعلم، فوالده لا يعاني من أية أعراض مرضية سابقة.

يتمنى للحظة لو إنه لم يكن طبيباً، كانت أمّه تؤمن أنّه يصنع المعجزات و في لحظةٍ ما يؤمن أسامة  بصديقه الطبيب حسان كما تؤمن أمه به ” هل سيصنع حسان معجزة”

ينسحب الطبيب من ذات أسامة تصير الأسئلة طفلية بكرية، تلوب عن جواب مثل أسئلة مرافقي المرضى المتوترين ” كأنني خرجت من كوكبة الأطباء ودخلت حشد الأهل المذعورين

رفاقه الأطباء عجزوا عن انقاذ والده صاروا في نظره الغرباء الذين لم يعد يعرفهم ولم يعد يُطيقهم

“كلهم لم يعيدوا إليّ أبي خالياً من ثقوبٍ حفروها في جسده”

الخرافة

كثيرة هي المقولات والأفكار التي حفلت بها الرواية مثل:

” إذا قابلتِ المرضعةُ مرضعةً مثلها، تدوس إحداهما على رجلِ الأخرى كي لا تكبسها ؟

وليس مسموحاً للنفساء أن تخرج من البيت لأربعين يوماً. إن الولد الذي لا ينال هدية من أقاربه في الزيارة الأولى ينشأ سرّاقاً. وإذا أردت زيارتك مثلاً يكفي أن نتبادل أنا وأنت أساورنا قبل اللقاء عَبر شخصٍ موثوق ليزول عني الخطر.

إذا خرجت من بيتي قبل نفاسي يصيبونني بالعين!! في الرواية مازالت إسراء تؤمن بخزعبلات أمها وحماتها ” تضع الرواية تلك السرديات على محكّ العلم، فالنفساء سابقاً لا تخرج من بيتها خوفاً من البرد ونقص التغذية.

أما أسامة فيرى الأمر مختلف تماماً  “هذا هراء البسي جيداً واخرجي بابنك إلى الهواء والشمس”  

من جهة أخرى عادة ما تنتقل تلك الخرافة من الاطار النظري إلى حيز الممارسة العميلة  من خلال ممارسة الطبّ الشعبي والمعتقدات الشعبية ..

فنداء المهندسة  تذهب خِفية عن أسامة تقصد أبواباً ينكرها الطبّ في غالب الأحيان.

 لكن لديها ما يبرر ذلك فكل تجربة خاضتها سبقتها نصيحة مجرب حصل على مراده، وهي المعذورة في طرق أبواب الأمل أنّى لاح لها بريقه ولو سراباً.

فبعد فشل المحاولة  الخامسة راحت إلى شجرة الأماني وعلقت قطعة من ثيابها على غصن أخضر وتضرعت إلى أمّه الشجرة “ارزقيني بأطفال فديتك”

بعد فشل المحاولة السابعة طبّقت وصفة المُداواة الشعبية ” حبّة حمّص ومرهم أسود …” لسبعة أيام

بعد المحاولة العاشرة، كتبت آيات من القرآن ألف مرّة ووزّعتها في خزانة ثيابها..

ثم تكررت المحاولات فلجأت إلى مزار الشيخ البطّاح، وطبّقت وصفة داية شعبية، ثم ماءً مقدساً من نهر في أثيوبيا كما تبعت وصايا الشيخ في المنام وختمت القرآن ثلاث مرات..

وهي على حدّ قول الراوي المهندسة نداء ” المهندسة”

في الطبّ الشعبيّ

بالتوازي مع المعتقدات الشعبية والخرافة تطرح الرواية قضية الطبّ الشعبي من خلال شخصية الخالة جدعة، التي تثق به، وتعيش على مردوده الماديّ وتتفاخر بخبرتها وتتحدّى بها الأطباء.

نال هذا الطبّ الحظوة في المجتمعات الفقيرة والمتوسطة، حيث يلجأ إليه الناس لبعدهم عن المراكز الطبية ولتوارث القناعات لدى البعض بأنّ يداً مباركة تلمس أوجاعهم من جهة أخرى هناك الكثير من القضايا الطبية لم يتم البتّ بها علمياً  فياتي الطب الشعبي كحالة أولية بديلة لتجريب العلاج لعل كل ذلك يمهد ويفتح الباب أمام الاجتهاد العلمي لكن لا أحد ينكر أنه حقيقة واقعة ويقين لدى البعض.

فأدوات الخالة جدعة سنّارة لعلاج كلّ مرض وحجر خفّان جلبته من مزار الشيخ العجمي تخرمُ الظهر بالسنارة وتعالج بنات الأذان والبيضة النطاطة عند الطفل وبواسير الرجال وغير ذلك.

تراهنت مع الدكتور سالم على أنها ستشفي أخته من الحزازة بعد أن عجز هو عن شفائها

فآمن الدكتور سالم أن الخالة جدعة أمهر منه في ذلك.

عالم زاهي الخاص

 هذه الشخصية تضفي على جوّ الرواية قليلاً من البسمة الساخرة، لكنك في المحصلة تجدك منجذباً إليه متعاطفاً معه.

زاهي الذي أعطته الحياة بقدر ما أخذت منه تصالح معها ولو بالتدخين، مثل هذه الشخصية موجودة في المجتمع لكنها تظهر بأشكال مختلفة، تحمل في جوانيتها هذا المنطق الساخر الرافض المُبرَر بالحجة.

فبعد أن خرج من مشفى الأمراض النفسية، عمل في البلدية عامل تنظيفات، لكنه يصرّ على أن يلبس طقمه البني الذي كلحت ألوانه وربطة العنق الحمراء ويعقف شاربيه.

زاهي الشخصية المتفردة في شكلها وتفكيرها ينجز أبحاثاً في الأدب العربي مقابل ثلاثة كروزات دخان في الشهر يعطيه إياها أستاذه ثم ينشر الأبحاث باسمه، زاهي؛ كيّف الواقع كما يريد هو حتى في منطق رفضه وتبريراته، خلق لنفسه حياة مضادة لخط سير الواقع مدعومة بمنطق وتكنيك في التفكير لا يسعك إلاّ أن تحترمه، هنا أيضا تطرح الرواية سؤال استغلال ذوي الاحتياجات الخاصة بأشكال وطرق مختلفة.

الفساد الاجتماعي والإداري

تسلطّ الرواية الضوء على هذه القضية من خلال شخصيّة ضابط الشرطة” عمّ وردة ” والذي يدير منظومة التهريب والفساد والذي بات معروفا لرفاقه في السلك وكأن الأمر من خصوصيات هذه المهنة.

وشخصية نقيب الأطباء ” “من خلال انتخابات نقابة الأطباء وما يدور في الكواليس من مساومات حول منصب النقيب وما يناله منن حظوة ومكانة، أهمها سيارة النقابة ” والبنزين المجاني” حتى ولو كان ذلك على حساب ابتزاز زملائه فب الانتخابات، بحيث تخرج النقابة عن سياقها الخدمي للأطباء لتغدوا بابا من أبواب الكيديات والتباهي والاستثمار.

في اللغة والسرد

تنتج الروائية لغة سردية بسيطة عالية الدقّة والتركيز، تلعبُ مع القارئ لعبة سرديّة لطيفة من خلال التفاعل بين اللغة والحدث، بحيث توهمنا في كثير من الأحيان أننا نقرأ نصاً إبداعيا مشغول بلغة بلاغية عالية خالية من التعقيد من خلال هذا الايهام تمرّر المعلومة الطبيّة أو العلميّة مهما كانت دقتها إلاّ أنها تصل إلى القارئ بيسر وسهولة مهما كانت درجة ثقافته، نجد ذلك عندما تتحدث نداء عن فضاء المخططات الهندسية، وكذلك عن طفلة الأنبوب الأولى و تكاثر الأسماك وقسم أبقراط وفي الحديث عن الأجنة والقصيدة والموال الشعبي وغيرها الكثير من القضايا قد البست لغتها رداء شخصياتها.   

جاءت لغة الرواية سهلة بعيدة عن المعجمية والتعقيد من خلال استخدام اللغة الموحية ومعمار اللفظة في الجملة ذاتها، مما يكسبها رشاقة ودقّة وحركة  تجعل القارئ يتفاعل معها ومن خلال الانتقال عبر زمنين في جملتين قصيرتين متتاليتين، وحسب رأيي تؤسس نجاة عبد الصمد للغة روائية عالية التركيز

والتكنيك يمكن دراستها وتفكيكها كبنية لغوية مستقلة في الرواية  العربة الجديدة، بعيداً عن الطروحات والأفكار الروائية المعلبة نقداً وتنظيراً.

رواية خيط البندول صدرت عام 2023 عن دار نوفل في لبنان عام وتقع في 310 صفحة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نجاة عبد الصمد : طبيبة و روائية و مترجمة سورية تقيم في ألمانيا

.