رقص المُضطهدين

موسى الزعيم

عنوان الكتاب الصّادر مؤخراً عن دار الدليل للطباعة والنشر في برلين.

يقع الكتاب في مئة وعشرين صفحة من القطع المتوسّط للمؤلفة المصريّة نورا أمين.

في الكتاب تتبع نورا أمين مسيرة الرّقص الشرقيّ  منذُ نشاته الأولى، وكيف هاجرحاملوا هذه الفكرة الجماليّة، ليعبروا بها أصقاع الأرض، بحثا لها عن منبتٍ جديدٍ، بعد أنْ ضاقت بهم السّبل في شمال الهند.

 في رقص المُضّطهدين، ترصد المؤلفة حركاتِ ولفتاتِ الراقصات الأوائل وهنّ يعبرن دروب العذاب من أقاصي الأرض ليس في عبر طرق الجبال مع قبائلهن المهاجرة فحسب، بل إلى فضاء الحريّة والكينونة، إلى حيّز الوجود العام، كيف خرجن عن السّلطة الأبويّة في مجتمعاتهنّ  ليتربّعن حيناً على منصّات التّتويج العالميّة، أو يخونهن القدر فيُستعملْن، ويصبحن ألعوبة في يد السياسيين، هي سيرة عبور الجمال في تركيبتهِ الحركيّة والجسديّة والموسيقيّة والروحيّة أيضاً إلى حيّز الوجود العام، رغم كلّ الآلالم والمواجع، والمكائد التي لحقتْ بربّاتِ الخصور النّاعمة.

 في رقص المضطهدين تركّز المؤلفة دائماً على انتصار الجسد، على قيد السلطة بكل محدداتها في المجتمع.

قسّمت أمين كتابها إلى عدّة عناوين فرعية وهي حسب التسلسل ( الرّقص، هجين، الرّقص كهويّة،  الرّقص الأنثويّ كتهديدٍ سياسي، كباريهات القاهرة صناعة الرّقص المُبكّرة، تسليع الرّقص، السينما و تحوّل جديد للهويّة، تحيّة كاريوكا، سُعاد حسني، تصميم الرقص، الاجنبانيّة في الرّقص البلدي اليوم ) بالاضافة الى مجموعة من النّصوص الشعريّة النثريّة للمؤلفة في آخر الكتاب ومجموعة من الصور  لراقصات مشهورات.

تفتتح المؤلفة الفصل الأول بالسؤال التالي ما الرقص ؟ هل هو الجسدُ المُتحرّك حركة ايقاعيّة، أو الجسد المحتفي بنفسه هل هو الجسد بكامل كينونته، من خلال ذلك تعرّف الباحثة الرّقص من مُختلف احتمالاته وجوانبه إلى أن تصل إلى المُسمّى المعروف اليوم بالرقص الشرقيّ أو البلديّ.

 فالرّقص حسبَ مخيالنا العربيّ هوالحركة السّعيدة المَصحوبة بالموسيقا، يرتبط دائماً بالفرح والسّعادة وخصب الحياة، في حين أنّه ارتبط في بعض الثقافات القديمة بالموت أو النّحيب أو الطقوس الدينيّة المقدسة.

 ترى المؤلفة أنّ الخيال الجَمعي عن الرّقص تشكّل من خلال الإعلام الرقميّ، ومن خلال العروض الحيّة، ومن خلال المسرح والسينما أيضاً.

مكانياً تُعتبر القاهرة عبرالزمن قِبلة الرّقص الشرقي، قياساً بعواصمَ أخرى في شمال إفريقيا وتركيا فقد ارتبط الرّقص الشرقيّ في القاهرة بالتّسلية والترفيه، هي مَقصد مئات المُتدرّبات من أجل حصولهنّ على تدريبٍ احترافيّ في الأسلوبِ المصريّ للرقص.

كانت التّسميات تختلفُ بين الحينِ والآخر تبعاً للحالة السائدةِ، فرقصُ البطنِ، والرقص الشرقيّ والرقص البلدي…

 الرقص المصري هجين  هكذا ترى المؤلفة في مكان آخر من الكتاب فحسب رأيها إن بعض حركاته مستوحاة من الرقص الهندي، فيمكن ملاحظة ذلك من خلال حركة الرقبة والرأس والأصابع واليدين.

 في الهند كانت البدايات وفي إطار البحث عن ذلك تبرّر المؤلفة قلّة المعلومات حول أُصول الرّقص الشرقيّ بقلّة المَصادرالتي تطرّقت لهكذا بحث، كيف انتقل هذا النوع من الرّقص من شمال الهند إلى شمال  أفريقيا؟!  

ترى أنّ تاريخ هجرةِ “الهنود الرومانيّ” من بلادهم وطردهم كقبائل، حجر أساس ٍ للتّعرّف على حلقةِ الوصلِ الغائبةِ في تاريخ الرّقص البلديّ المصريّ، فحسب رأيها، فإنّ جود بعض الحركات  في الرقص البلديّ ليستْ مُستوحاة من الرّقص الهنديّ وإنّما هي نتيجةُ “تناسج”ِ هذه الحركات من الهند  وليستْ نتيجة تأثيراتٍ ثقافيّة  مُتبادلة.

 فمهاجرو الرّومانيّ القادمون من الهند لم يظلوا غرباءَ بل كانوا يختلطون، ويكتشفون الأماكن ويتفاعلون معها، نتيجةَ ذلك تناسَجتْ حركاتُ أجسادهم مع الواقع ” تصرّ المؤلفة على استخدام مُصطلح التناسج ” في هذه الحالة تعدّلت رقصات الرومانيّ وتماهتْ مع الأمكنة التي مرّوا بها وظهرت هذه الحركات كهجين حسب مواقع ترحالهم.

 بالعودة إلى أصول تلك القبائل “الروما أو الروماني” والتي كانت تعيش في شمال الهند وتحديداً في (راجاستان وهاريانا وبونجاب) هذه الجماعة فرّت من موطنها الأصليّ منذُ قرابة ألف وخمسمئة عام  فهجرةُ هذهِ القبائل كانتْ قسريّة، بسبب ما تعرّضت له من إبادة جماعيّة وتهجير، هذه الهجرة المُتقطّعة والتي كان المهاجرون فيها يحطّون رحالهم في البلدان التي يرتاحون فيها، ويجدون مصدر رزقهم، فقد وصلوا إلى العراق، وتركيا، ومصر، ومنهم من وصل إلى أوربا الشرقيّة.

ففي مصر استقرت جماعة “دوم” وهي إحدى القبائل الهنديّة المهاجرة وقُسمت إلى “النَوَر ، الحَلب ، والغَجر “

يُقال أن الغجر اندمجوا سريعاً في المُجتمع المصريّ، أمّا النَوَر فظلّوا مُنغلقين واحترفوا السّرقة والنشل  بينما تحوّل الحَلب إلى الرّقص والموسيقا، ويرجّح أنّ الرقص البلديّ ولد عند هذه الطائفة.

اسهمتْ هذه الجماعات بكافّة تقسيماتها في بناءِ تاريخِ الرّقص البلديّ في مصرمن خلال مشاركتهم في الأفراح والاحتفالات ومن خلال تجوالهم وإقامتهم خارج المدن، وعملهم في الرقص والوشم وقراءة الطالع، في حين كانت نساء الحَلب هنّ المسؤلات عن إعالة الأسرة، وقد أطلق عليهنّ (الغوازي).

 ترى الباحثة أنّ كلمة غوازي  ليست من الجذر اللغويّ “غزا، يغزو” وإنّما من اللفظة الهنديّة (جوار)  التي كانت تُطلق على فنانيّ البونجاب..!!

من جهة أخرى بعد أن كان الرقص البلديّ نشطاً في الرّيف، يتحوّل إلى المُدن، ويغدو شبه مؤسساتيّ، ففي عام 1834 يصدر محمد علي باشا حاكم مصر مرسوماً يحظر فيه رقص الغوازي في شوارع القاهرة لأنّهنّ يُشكلن تهديداً على الأخلاق العامة، هنا تظهر تسمية جديدة لهنّ ” عَوالم “فقد غيّرن من لباسهن ورحن يبتعدنَ عن الفضاء العمومي فالرقص، صار في السيرك والمولد، لينتقل بعدها إلى الكباريهات والملاهي الليلة.

في حين كان النظام القانونيّ المصريّ يَحرم الراقصة من حقّها المشروع كمواطنةٍ كاملةِ الأهلية، فلا يُعتدّ بشهادتها في المحاكم.

 في مكان آخر من الكتاب تتحدث أمين عن الرقص كهويّة والرقص الأنثويّ كتهديدٍ سياسيّ

في هذه المرحلة، راح يُنظر إلى رقص النساء  في الفضاء العموميّ على أنّه تهديدٌ للأخلاق العامّة، ففي هذه المرحلة يدخلُ الرقص في مواجهةٍ مع الفعل السياسيّ بين ماهو مسموحٌ ومحظورٌ، فراح السّلطويّ ينظر إلى رقصهنّ على أنّه تمرّد على سلطته الأبويّة بشكلٍ عامٍ وتحدٍّ واضحٍ من خلال أجسادهن.

 في خيمة المولد يولد استقرارٌ جديدٌ “للغوازي” حيثُ صار لهنّ مكانٌ ثابتٌ لأداء فعلهنّ الجمالي والاتصال بالجمهور ..

رغم اختلاف المكانين -الشارع وخيمة المولد-  إلاّ أنّ الثاني يعدّ مرحلة جديدة في ادخالهن المنظومة التجارية.. هنا في هذه المرحلة تدخل الراقصة مرحلة الأداة الأليفة بعد أن قلّمَ السياسيّ والاجتماعي أظافرها، وجعلها طيّعةً، ترتبط بالفعل السياسيّ والثقافيّ والتجاريّ للمجتمع بشكلٍ عام ٍ.

  هنا أيضاً تحوّل المُتفرّج السلبيّ في الشارع إلى عميلٍ تجاريّ، يطلبُ راقصةً بعينها تأتي إلى قصرهِ أو إلى منزلهِ لترقص في حضرةِ ضيوفهِ، ويبقى التصورالأبوي للجسد الأنثوي كمصدرٍ أليف للمُتعة حيثُ الجسد المؤدي إلى التسلية.

 من جهة أخرى وفي عنوان آخر لأحد فصول الكتاب ترى المؤلفة أن للكباريهات دورٌ في صناعة الرّقص المُبكر في القاهرة هذه الكباريهات نمتْ مع صناعة الترفيه بالتدريج خلال النصف الأوّل من القرن العشرين، هذه النظام المُستعار من الغرب كان على عكس نظام العائلة الترفيهي، كما كان في السابق في المولد والأعراس والحفلات، والسرك والكباريه بنظامه الجديد وما يحويه من صناعةٍ ترفيهيّة موسيقا،غناء، وترفيه، رقص، طعام، مونولوج، كلّ ذلك دخل ضمن السّوق الاستهلاكيّ التجاريّ تزامن  ذلكَ كلّه مع ما اصطلحت عليه السلطة آنذاك بتحديث مصر أو تحويلها إلى باريس أخرى، في هذا السّياق يُذكر أنّ الخديوي اسماعيل حاول إظهار مِصر بالمظهر الحضاريّ مُجاراة للغرب كما فعل في حفل افتتاح قناة السويس حين استقدم أوبّرا عايدة “لفيردي” وكذلك بناء أول دار أوبرا مصريّة ” ترى نورا أمين في استقدام فنانين غربيين لهكذا حدث انتقاصٌ من قيمة الفنّ المصري، وسلباً لهويته ووصف الفنّ المصري بالفرجويّة والغير حداثيّة.

من جهة أخرى ترى المؤلفة أنّ حقبة الخديوي اسماعيل كانت فترة مهمة للرقص الشرقي حيث دعا الخديوي “العَالْمة شوق” للرقص في إحدى حفلاته، لتظهر شوق كفنانة صاحبة مشروعٍ على عكس صورة الراقصة الأداة في مرحلة لاحقة تأتي شفيقة القبطية والتي ليست من أصول الروما وإنّما ابنة أسرة مصريّة وهذا يعد تحولاً لافتاً في تاريخ الرقص البلديّ، حيث قامت شفيقة بجولة في أوروبا ورقصت في باريس وظهرت صورتها برداء الرقص كأوّل صورة عالميّة للراقصة المصريّة وهي محفوظة في أرشيف المكتبات الألمانيّة.

في مكان آخر من الكتاب ترى المؤلفة أن دخول الرقص عالم الكباريهات أدخله الطابع التجاريّ وصار ضمن منظومة العرض والطلب، وغدا شارع عماد أمين مقصداً، لكن الاضطهاد من قبل المجتمع  للمرأة الراقصة ظلّ ماثلاً في وجدان السلطة الأبوية من خلال الوصم، النبذ والعقاب الجماعي .

و يدخل الرقص باب السياسية وتغدو الراقصات ضمن ألاعيب الجاسوسية، هنا يظهر اسم “بديعة مصابني” وقصتها المعروفة عندما كان يرتاد أحد الجواسيس البريطانين إلى ملهاها في حين فشل عملاء هتلر في كسب ودّها، وكذلك الراقصة حكمت فهمي أيضاً التي اتهمت بالتجسس لصالح ألمانيا وقد حكم عليها بالسجن عام 1942  هنا نرى أن الراقصة طرقت باباً جديداً وهو باب العمل في الشأن الحربيّ لكنها لم تكن سوى أداة لتحقيق نزوات ومطامع الساسة والعسكريين.

بعد ذلك  تتحدث الباحثة عن رائدات الرقص البلدي في مصر مثل تحية كاريوكا وسعاد حسني تتحدث باعجاب وانبهارعن تجربة هاتين الشخصيتين، ترصد بعض الخفايا في علاقاتهن مع السلطوي المخابراتي وخاصة القضية التي اشتهرت باسم “انحرافات المخابرات العامة” في مصرعام 1957 ففي فترة استقلال مصر وانتقالها الى النظام الجمهوري كان الرقص شأنه شأن الفنون الأخرى خاضعاً للسلطة   تلك النظرة التي تعطي للحاكم الأحقيّة في امتلاك النساء لخدمة النظام.

 تنتقل الباحثة بعد ذلك للخوض في تحليل تصميم الرقص بحرفية وخبرة عالية تتحدث عن آليات وحركات الراقصات والاستراتيجيات المُتبعة على الخشبة، تتحدث باسهاب عن حريّة هذا الجسد وخروجه من شرنقة  السلطة وانتقاله إلى الفضاء الحريّة، فضاء ما تحركه الأنا الداخلية للراقصة ومن خلال روحها وذاتها لا من خلال ما تفرضه عليها المؤثرات الخارجيّة والاجتماعية السلطوية واالتسليعية في هذا السياق تتحدث عن تاريخ تأسيس فرقة ” الأخوان رضا” للرقص الشعبي هذه الفرقة التي قدمت الكثير في خدمة الفنّ الشعبي المصريّ، وقد استطاعت تقديم نموذج مغايرعن صورة المرأة الراقصة.

في نهاية الكتاب ترى الباحثة أنّ الرقص البلدي تمّ تغريبهُ واحتلاله من قبل الأجساد البيضاء، بعد  2011 حيث دخلت طائفة من الراقصات الغربيات على خطّ الرقص الشرقيّ، الراقصات الجدد أتين ببعدٍ جديدٍ مغاير وهو وضع الجسد الأنثوي الأبيض الغربي في مقدمة مظاهر الفُرجة والطلب بالاضافة إلى أنّ هذه المرحلة تشهد ظهور حركات ايحائية أكثر جرأة .

المؤلفة بذلت جهداً كبيراً في رصد تاريخ الرقص الشرقيّ، ليس ذلك فحسب بل إن القارى يرى أن نورا أمين تكتب بعين المُحب، وقلب الملهوف وبخبرة مهنية عالية بموضوعها، لكنني كنت أتمنى عليها -الناحية الفنيّة – في كتابها أن تراعي بعض القضايا منها أنّ فقرات الكتاب جاءت دون ترتيب أو تسلسل، كان يمكن تقسيم الكتاب إلى فصول أو أقسام، فقد جاءت عناوين الفقرات يتميةً مفردة، من جهة ثانية الكتاب يخلو من فهرسٍ لموضوعاته، وكذلك أسماء المراجع التي اعتمدت عليها، خاصة وأنّها ذكرت في متن الكتاب بعض هذه المصادر، ثم أنني أفهم تماماً احتفاء الباحثة بقضايا تحرير جسد المرأة وكيانها وذاتها لكن جاءت بعض النصوص النثرية ” الشعريّة ” اقحاماً كان يمكن أن يُفرد لها فصلٌ مستقلٌ فالنصوصُ تخدم فكرةَ الكتاب بلا شكّ.

من جهة أخرى تحدّثت الباحثة بانبهارعن شجاعة (تحية كاريوكا) في أغلب مواقفها عبر مسيرة حياتها الفنية والشخصية، حسب رأيي قرار ارتداء تحية كاريوكا الحجاب كحدث لايقلّ أهميّة عن بقية قراراتها  وهذا ما أغفلته الباحثة؟

 في المُحصلة الكتاب وثيقةٌ وجهدٌ كبير يردفُ المكتبة العامة بموضوع له خصوصيته على الصعيد الثقافي والفني والتاريخي. نورا أمين: كاتبة ومخرجة مسرحية ومصممة رقص مصرية مقيمة في برلين.

.