"النور الذي خبا "جرد الحساب

تقديم د.  حامد فضل الله

.

يبدأ الكتاب بجملة مقتضبة ، “الماضي كان أفضل من المستقبل”. وتأتي شرحها بإسهاب لاحقا. “

يقع كتاب الأستاذين كراستيف وهولمز الصادر عن دار اولشتاين في برلين عام 2019 من القطع المتوسط، في ثلاثة فصول بجانب المقدمة والخاتمة واستحوذ على 366 صفحة.

لقد اعتقدنا أن عام 1989 فصل الماضي بوضوح عن المستقبل مثلما فصل جدار برلين، الشرق عن الغرب” ، ولا يمكننا أن نتخيل عالماً أفضل بشكل أساس من العالم الذي نعيش فيه أو نتخيل مستقبلاً لا يتشكل بشكل ديمقراطي ورأسمالي”. أننا نفكر اليوم بشكل مختلف، و يواجه معظمنا الآن مشكلة، في تخيل مستقبل في الغرب يظل مستقراً بشكل ديمقراطي وتحرري. وكما يمكن تحميل المسؤولية إلى سلسلة من الأحداث السياسية، التي هزت العالم من أساسه: هجوم 11 سبتمبر 2001 على مركز التجارة العالمي في نيويورك، حرب العراق الثانية، الأزمة المالية في عام 2008، ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وغزو شرق أوكرانيا، عجز الغرب عندما عانت سوريا من كابوس إنساني، أزمة اللاجئين في أوروبا في عام 2015 ، استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب دونالد ترامب.

إن الوهج اللامع للديمقراطية الليبرالية قد فقد سحره بعد الحرب الباردة بسبب المعجزة الاقتصادية الصينية، وبفضل قيادتها السياسية التي لا شك في أنها ليست ليبرالية ولا ديمقراطية. إن محاولات إنقاذ الاسم الجيد للديمقراطية الليبرالية عن طريق التمييز الإيجابي بينها وبين الاستبداد غير الغربي قُوضت من خلال انتهاك القواعد الليبرالية في الغرب ، مثل تعذيب السجناء أو السماح لمؤسساتهم الديمقراطية بالفشل. يهتم العلماء الليبراليون اليوم، إلى حد كبير وبشكل خاص بمسألة كيف تَضمُر أو تموت الديمقراطيات. حتى “المجتمع المفتوح”، كمثال أعلى قد فقد وهجه. وتثير كلمة العالم المفتوح اليوم، بالنسبة للعديد من المواطنين المحبطين، خوفًا أكثر من الأمل.

عند سقوط جدار برلين، لم يكن هناك سوى 16 سياجًا حدوديًا حول العالم. أما اليوم فقد تم الاِنتهاء من 65 من الحدود المحصنة أو بعضها قيد الإنشاء، وتبني ثلث دول العالم تقريبا، حواجز على طول حدودها.

لقد أظهرت الثلاثون عاماً، بعد عام 1989، بوجود مشهد زمني قصير خالٍ من العوائق بين السقوط الدرامي لجدار برلين، والأوهام الطوباوية المثيرة لعالم بلا حدود، وبين حمّى بناء جدار عالمي، حيث يجسد البناء الخرساني والأسلاك الشائكة مخاوف وجودية (وأن كانت وهمية بعض الأحيان).

عندما غادر أوباما البيت الأبيض، كان منشغلاً بشيء واحد: “ماذا لو كنا مخطئين؟” لم يفكر، “ما الخطأ الذي حدث؟”، أو “من فعل شيئا خطأ؟” كان الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة له هو السؤال، “ماذا لو كنا مخطئين؟” أو قل: ماذا لو أن الليبراليين أساءوا فهم هذا العصر بشكل أساسي بعد انتهاء الحرب الباردة؟        

في فقرة ” من نهاية التاريخ ” وهي اشارة الى فرنسيس فوكوياما. قبل ثلاثة عقود، في عام 1989، لخص فوكوياما روح العصر في صياغة موجزة: قبل أشهر قليلة من رقص الألمان بسرور على بقايا جدار برلين المحطّم، وأعلن نهاية الحرب الباردة فعليًا.  وأن الإصلاح الاقتصادي والسياسي، الذي بدأه دنغ شياو بينغ في الصين و ميخائيل غورباتشوف في الاتحاد السوفيتي، حسم النصر الليبرالي الشامل على الشيوعية. إن “إزالة النهج الماركسي اللينيني، البديل للديمقراطية الليبرالية” تشير إلى “الاستنفاد التام للبدائل في مواجهة الليبرالية الغربية”. لقد تحولت الشيوعية، التي توج الماركسيون بأنها تتويجا “للتاريخ” بالمعنى الهيجيلي، فجأة إلى غير ذات أهمية.  واصبحت “الديمقراطية الليبرالية الغربية”، بأنها “نقطة النهاية للتطور الإيديولوجي للإنسانية”. وفي الممارسة؟ ماذا يعني الاحتفال بالديمقراطية الرأسمالية باعتبارها المرحلة الأخيرة من التطور السياسي للبشرية؟ لقد تجنب فرنسيس فوكوياما هذا السؤال، لكن حجته تعني بشكل لا لبس فيه أن الديمقراطية الليبرالية على النمط الغربي هي المثال الوحيد القابل للحياة والتي يجب على الإصلاحيين في جميع أنحاء العالم السعي لتحقيقها… ويكتب أن أخر “منارة للقوى غير الليبرالية” قد تم محوه من قبل الاِصلاحيين الصينيين والسوفيات، وإن المنارة الليبرالية الأمريكية، هي وحدها التي كانت تمهد طريق المستقبل.

عصر الثلاثين عاماً من التقليد.

لقد بشر عام 1989 بثلاثين عاماً من التقليد. أن النظام أحادي القطبية، الذي يهيمن عليه الغرب، جعل الليبرالية في عالم المثل الأخلاقية عصية على التحدي.

مع بداية تلاشي الآمال الكبيرة لاستيراد نموذج السياسة والاقتصاد الغربي، اصبح هناك تردد متزايد في تبني سياسة التقليد. ربما كان الهجوم المضاد المناهض لليبرالية رد فعل لا مفر منه لعالم يفتقر إلى البدائل السياسية والإيديولوجية. أن الروح المعادية للغرب السائدة في مجتمعات ما بعد الشيوعية يمكن تفسيرها بشكل أفضل من خلال عدم وجود البدائل، أكثر من جاذبية ماضٍ استبدادي أو كره تاريخي متجذر لليبرالية.

أن القول المتغطرِس: “لا يوجد طريق أخر” أعطى موجة كراهية الأجانب الشعبوية والعداء للمهاجرين التي كانت تتراكم في أوروبا الوسطى والشرقية، دافعاً مستقلاً. أن عدم وجود بديل مقبول للديمقراطية الليبرالية حفز للتمرد، لأن “الناس يحتاجون إلى خيارات أو على الأقل وهمْ وجود خيار”. لا يثور الشعبويون فحسب، ضد نوع سياسي (ليبرالي) معين، بل ضد استبدال الشيوعية بأرثوذكسية ليبرالية أيضًا.

لا يمكن بالطبع لعامل واحد أن يفسر سبب حدوث الاستبداد المناهض لليبرالية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، في وقت واحد وفي العديد من البلدان المختلفة. ومع ذلك ، فإن حقيقة أن الناس لم يعودوا يعترفون بالوضع القانوني للديمقراطية الليبرالية، وكذلك لعبت سياسة التقليد، دوراً حاسماً ، ليس في أوروبا الوسطى فحسب، بل في روسيا والولايات المتحدة أيضا.

لتبرير ما جاء في الفقرة السابقة، يقدم الكاتبان وجهة نظر أثنين من أقسى منتقدي الليبرالية في أوروبا الوسطى. يشعر ريزارد ليجوتكو ، الفيلسوف البولندي والعضو المحافظ في البرلمان الأوروبي ، بالغضب، وقائلا  “أننا نتعرض بشكل متزايد للوجود الديمقراطي الليبرالي” ، وأنها “أصبحت الطريق والطريقة المعترف بها الوحيدة لتنظيم الحياة المجتمعية بامتياز” ” لقد نجح الليبراليون والديمقراطيون الليبراليون في تهميش جميع الأفكار السياسية البديلة والأفكار غير الليبرالية وإسكات أصوات ممثليهم”.

وتوافق المؤرخة الهنغارية المؤثرة ومستشارة فيكتور أوربان، ماريا شميدت، قائلة: “لا نريد أن نكرر ما يفعله الألمان أو الفرنسيون، أننا نريد أن نواصل طريقتنا في الحياة”. ويشير كلا الموقفين إلى الرفض الشديد لفكر فوكوياما. لقد أصبح رفض الرضوخ للغرب الليبرالي سمة مميزة للثورة المضادة غير الليبرالية في جميع أنحاء العالم الشيوعي وما وراءه. أن مثل هذا رد الفعل، لا يمكن تجاهله ببساطة بالقول: بأنه من السهولة على الزعماء غير الغربيين إلقاء اللوم على الغرب، بدلا عن أن يتحمل الغرب مسؤولية سياساته الفاشلة. وكذلك الأمر أكثر تعقيدًا وإثارة للاهتمام، وهو يتعلق بكيفية تخلي الليبرالية عن التعددية لصالح الهيمنة.

إن الجهود التي بذلتها الدول الشيوعية السابقة لمحاكاة الغرب بعد عام 1989 قد استندت على مجموعة متنوعة من التسميات – الأمركة ، الأوربة ، الدمقرطة ، التحرير ، التوسع ، التكامل ، التنسيق ، العولمة … ولكن في الجوهر كان التحديث يعني دائمًا التقليد والتكامل يعني الذوبان.

“الشعبوية المجرية ــ البولندية والتظاهر الروسي بالديمقراطية“.

تكمن أصول الثورة المعادية لليبرالية التي تحدث في جميع أنحاء العالم اليوم في ثلاثة ردود أفعال متوازية ومتشابكة و بمرارة شديدة، على الوضع القانوني المفترض للنماذج السياسية الغربية بعد عام 1989.

أولاً ، هناك الطائفية المتعصبة للشعبويين من أوروبا الوسطى، والذين يتحدث باسمهم فيكتور أوربان و جاروسلاف  كازينسكي، في البلدان التي قبلت فيها النخبة الليبرالية مؤخرًا تقليد النماذج الغربية باعتبارها أسرع طريق للازدهار والحرية، ترى نسبة كبيرة من الناخبين فجأة، أن هذا التقليد يسير في طريق خاطئ. إن احتكار رموز الهوية الوطنية، والتي تم إهمالها أو تخفيض قيمتها في سياق “المواءمة” مع معايير وأنظمة الاتحاد الأوروبي، أدى إلى ظهور نظير مناهض للغرب، معظمه متجذر في اطراف المدن والريف، بدعم كبير من الناس. بالإضافة إلى ذلك، ساعدت عملية انخفاض عدد السكان في أوروبا الوسطى والشرقية الذي بدأ بعد انهيار جدار برلين، هذه النخب الشعبوية على اغتنام مخيلة جمهورها من خلال تصوير شمولية حقوق الإنسان وليبرالية الحدود المفتوحة باعتبارهما شيئًا يُظهر مدى عدم مبالاة الغرب للتقاليد الوطنية وتراث بلدانهم.  

ثانياً ، يجب ذكر مرارة روسيا، التي نشأت عن جولة التغريب الموصوفة. يشير انهيار الاتحاد السوفيتي، بالنسبة للكرملين، إلى فقدان وضعه كقوى عظمى وعواقب عدم الوقوف على قدم المساواة أمام العدو الأمريكي. لقد تحولت روسيا بين ليلة وضحاها، من منافس معادل مخيف إلى مشكلة تتوسل للحصول على الدعم وتتلقي المشورة من المستشارين الأميركيين ذوي النوايا الحسنة ولكن غير المؤهلين، بينما تتظاهر في عين الوقت، بأنها ممتنة. لم تر روسيا قط التقليد والتكامل كمترادفين. وعلى عكس أوروبا الوسطى والشرقية، لم يكن هذا البلد مرشحًا جادًا لعضوية الناتو أو الاتحاد الأوروبي، فقد كان كبيراً للغاية، وكان لديه الكثير من الأسلحة النووية، وكان مدركًا “لحجمه التاريخي”. كان رد فعل الكرملين الأول على التفوق العالمي لليبرالية بمثابة محاكاة لكيفية استخدام الفريسة الضعيفة نسبيًا لتجنب التعرض للهجوم من قبل الحيوانات المفترسة الخطيرة.  فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي مباشرةً، كانت النخبة السياسية في روسيا ليست متجانسةً على الإطلاق، لكن معظمهم وجدوا أنه من الطبيعي تماماً أن يتظاهروا بالديمقراطية مثلما تظاهروا بالشيوعية في العقدين الأخيرين قبل عام 1991. الإصلاحيون الليبراليون في روسيا، مثل يغور جيدار، كانوا من المعجبين حقًا بالديمقراطية، كما كانوا مقتنعين أيضاً، وعلى ضوء التوسع الهائل لروسيا والتقليد السلطوي، الذي شكّل المجتمع لقرون، من المستحيل بناء اقتصاد السوق.

من أجل خلق “ديمقراطية مُقلدَة” في روسيا في تسعينيات القرن الماضي، قامت روسيا ببناء واجهة للخارج، تشبه الديمقراطية. نجحت فترة انتقالية صعبة في تخفيف الضغط الذي كان الغرب يطالب به الكرملين لإجراء إصلاحات سياسية طوباوية. وفي عامي 2011/2012، انتهت هذه التمثيلية الديمقراطية المفتعلة. لقد انتقلت القيادة الروسية الآن إلى استراتيجية استفزازية مريرة وعدوانية. كانت روسيا ، منزعجة لما كان في نظرهم مطلب متعجرف، لتقليد صورة مثالية للغرب. لجأ بوتين بدلاً من التظاهر بتقليد النظام السياسي المحلي لأمريكا، تقليد الطريقة التي تتدخل بها أمريكا بشكل غير قانوني في السياسة الداخلية للدول الأخرى. وبشكل أكثر عمومية، يريد الكرملين من أمريكا أن تمتلك مرآة يمكن من خلالها النظر في مدى ميلها إلى انتهاك القواعد الدولية ذاتها التي تدّعي احترامها.

ترامب أو الولايات الأمريكية المتحدة كخاسرين للأمركة” و “صعود الصين وتراجع الطبقة الوسطى في الولايات الأمريكية المتحدة“.

لماذا يدعم الكثير من الأميركيين رئيسًا يعتبر أيضًا التزام أمريكا بعالم ليبرالي أكبر نقاط الضعف في البلاد ولماذا يقبل أنصار ترامب فكرة رئيسهم الضمنية والغريبة، حيث يجب على الولايات المتحدة أن لا تتوقف فحسب، عن كونها نموذجًا يحتذى به بالنسبة لدول أخرى، بل قد تعمل بشكل جيد لتقليد مجر أوربان وروسيا بوتين؟ لقد فاز ترامب بدعم كتلة واسعة من الجماهير ومن رجال الأعمال بإعلانه أن الولايات المتحدة هي الخاسر الأكبر في الأمركة على نطاق العالم. وبقيامه بذلك، انحرف بشكل كبير عن الاتجاه السائد المتباهي بالثقافة السياسية الأمريكية، وهذا يستدعي شرحًا لما وجده، من القبول العام والواضح لذلك. يبدو استياء ترامب غير طبيعي لعالم مليء بالبلدان التي تحاكي أمريكا، حتى أصبح واضحاً لمؤيديه الأمريكيين، بأن المقُلدِين يجسدون التهديد، حيث أنهم يحاولون استبدال الصورة بالأصل. هذا الخوف من استبداله ومصادرته له مصدران: المهاجرون من جهة، والصين من جهة أخرى.

إن صورة أمريكا كضحية لمعجبيها ومقلديها، التي جعلها ترامب من علامته التجارية في الثمانينيات، لم تُؤخذ على محمل الجد من عالم التجارة أو الجمهور. فلماذا تغير هذا، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟ يمكن العثور على الجواب في مشاكل الأميركيين البيض من الطبقة الوسطى وفي حقيقة أن الصين تبين أنها منافس اقتصادي أخطر للولايات المتحدة أكثر من ألمانيا أو اليابان. ساعد تصور الناخبين البيض وعالم الأعمال بأن الصين تسرق الوظائف الأمريكية والتكنولوجيا الأمريكية على التوالي، أن تكتسب رسالة ترامب الغريبة المتمثلة في الإيذاء أو الضرر الذي يصيب أمريكا، فجأة مصداقيتها. – على الرغم من أن هذا كان بمثابة انفصال جذري عن الصورة الذاتية التقليدية للبلاد. وهذا، يدل على أنه ليس الصورة، وانما الأصل يصبح قدوة يحتذى بها في سياسة التقليد، وحتى يمكن لزعيم البلد الذي أنشأ النظام العالمي الليبرالي، أن يقرر فعل كل شيء لهدم هذا النظام مرة أخرى.  

“يمثل نهوض الصين دولياً والاستعداد لتحدي الهيمنة الأمريكية، نهاية حقبة التقليد، كما نفهمها. يظهر تاريخ الصين، بالإضافة إلى نجاحه الحالي، أن استعارة وسائل التقنية يجلب الرخاء والتنمية والسيطرة الاجتماعية وفرصة لتجديد نفوذ الدولة ومكانتها، أما إدخال القيم الأجنبية، فإنها تثير معارضة وطنية. تغلّب الصينيون على الغرب بعدة طرق، دون محاولة أو التظاهر باتخاذ الأسلوب الغربي. وفي نفس الوقت، لا يتدخلون في نمط حياة الدول الأخرى، ولا يريدون إقناعهم أو إجبارهم على تبني “القيم الآسيوية”. ومع ذلك، يقدمون درسًا مقنعًا: الصين تثبت للعالم المزايا التي لا حصر لها المتمثلة في رفض المعايير والمؤسسات الغربية مع اعتماد التقنيات الغربية وحتى أنماط الاستهلاك، بشكل انتقائي”.

 إن تبادل الضربات المرتقب بين أمريكا والصين سيغير العالم: سيكون حول التجارة، والموارد، والتقنيات، ومناطق النفوذ، والقدرة على خلق بيئة عالمية مواتية للمصالح والمثل الوطنية المختلفة للغاية بين البلدين. لن يكون الصراع بين الرؤى العالمية المتنافسة لمستقبل الإنسان، في محاولة كل جانب فيه تجنيد حلفاء من خلال التحول الأيديولوجي وتغيير النظام الثوري، ففي النظام الدولي الحالي، يحل التباين العاري في القوة تدريجيا محل التباين الأخلاقي المزعوم. وهذا ما يفسر، لماذا لا يمكن وصف التنافس الصيني الأمريكي بشكل كاف بأنه “حرب باردة جديدة”؟  حيث تتفكك التحالفات وتعيد تشكيلها مثل مشهد، تتخلى البلدان عن شراكات أيديولوجية طويلة الأجل لصالح تحالفات قصيرة الأجل. يوحي الصعود المذهل للصين في نفس الوقت أن هزيمة الفكرة الشيوعية في عام 1989 لا يمكن اعتبارها في النهاية انتصارًا أحاديًا للفكرة الليبرالية، لقد اتضح، أن النظام الأحادي القطب، كان أقل ملاءمة لليبرالية مما توقعه أي شخص.

عالم بلا نفاق“:

… كان عصر التقليد نتيجة طبيعية للحرب الباردة. لقد حافظ على سحر التنوير لإنسانيتنا المشتركة. ويمكن تعميم شكل التنظيم الديمقراطي الليبرالي على جميع أنحاء العالم، لأن الناس جميعا، يتقاسمون نفس الأهداف الأساسية. وبأعجوبة، سمحت عولمة الاتصالات وحركة المرور والتجارة، للناس بالتعرف على بعضهم البعض بشكل أفضل، بعد انتهاء التقسيم الجغرافي للكوكب بعد نهاية الحرب الباردة. ومع ذلك، قد سقطت على ما يبدو، فكرة وجود إنسانية شاملة قادرة على متابعة الأهداف المشتركة. أن عودة الشعوب الى المجتمعات المحصورة في القومية والأثنية، هما نتيجة الحرب الشعبوية القائمة على الهُوية ضد العالمية. نحن نعيش بالقرب من بعضنا، لكننا فقدنا القدرة على رؤية عالمنا على أنه عالم مشترك.

الحديث عن نهاية عصر التقليد لا يعني أن الناس لم يبق لهم شيء من أجل الحرية والتعددية، أو أن الديمقراطية الليبرالية ستختفي. هذا لا يعني أيضًا أن ظاهرتي الاستبداد الرجعي والعداء للمهاجرين ستسيطران على الأرض. وإنما ، تعني هذه النهاية العودة – ليس إلى مواجهة عالمية بين دولتين تبشيريتين ، ليبرالية وشيوعية ــ وإنما إلى عالم تعددي وتنافسي بدون مراكز قوة عسكرية أو اقتصادية، تريد نشر نظام قيمها في كل مكان. مثل هذا النظام الدولي لم يسبق له مثيل، لأن السمة الأساسية لتاريخ العالم، هي التنوع الثقافي والمؤسسي والإيديولوجي وليس التجانس. هذا يعني في الأساس، بانتهاء عصر التقليد، تنتهي فترة شاذة من التاريخ.

يقول الكاتبان “ادعى بعض المعلقين بأن أحداث عام 1989 ألحقت أضرارًا جسيمة بمشروع التنوير ، الذي تجسد في الليبرالية والشيوعية ، من خلال القضاء على منافسة الحرب الباردة بين أيديولوجيتين عالميتين متنافستين. لقد ذهب الفيلسوف الهنغاري جي إم تاماس إلى أبعد من ذلك وأعلن أن “المدينة الفاضلة الليبرالية والاشتراكية” قد “هُزمت” في عام 1989 ، وهذا يشير إلى “نهاية” “مشروع التنوير”.  ويعلقان على هذه الفقرة ” نحن لسنا قدريين بهذا الحد، فلا تزال هناك فرصة لظهور قادة أميركيين وأوروبيين قادرين على إيقاف تدهور الغرب بشكل معقول. ربما يكون هناك طريق قابل للاستمرار في الانتعاش الليبرالي المبني على أسس جديدة. تبدو، في الوقت الحاضر، فرصة التجديد ضئيلة. ومع ذلك، فإن الأنظمة والحركات المناهضة لليبرالية يمكن أن تكون قصيرة الأجل وتاريخياً دون عواقب، ربما لأنها تفتقر إلى أي رؤية أيديولوجية جذابة بشكل عام. لقد علمنا التاريخ جيدًا، بأن الفترة التاريخية لعامي 1989/1990 ، كانت غزوة المجهول”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أكمل روديارد كيبلينج في عام 1890 روايته الأولى بعنوان ” النور الذي خبا”، إنها قصة حب عاطفية وتتعلق بطموحات فنية وفقدان البصر التدريجي. ظهرت الرواية في نسختين. القصيرة كانت نهايتها سعيدة وأما الطويلة فقد كانت فاجعة. لا يمكننا نشر كتابنا في نسختين مختلفتين، لكننا نعتقد أن نهاية عصر التقليد سيعني المأساة أو الأمل، اعتمادًا على كيفية تعامل الليبراليون مع تجاربهم بعد الحرب الباردة. يمكننا أن نحزن إلى ما لا نهاية على النظام الليبرالي العالمي الذي فقدناه ، أو يمكننا أن نحتفل بعودتنا إلى عالم من البدائل السياسية ونعترف بتلك الليبرالية النقية ، عندما تحرر نفسها من سعيها غير الواقعي والتعافي من التدمير الذاتي للهيمنة العالمية ، وأنها لا تزال الفكرة السياسية التي تتوافق مع القرن الحادي والعشرين.

الأمر متروك لنا، أن نفرح بدلا من أن نحزن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أختتم هذا العرض ــ الذي جاء خلافاً على عادة عرض الكتب، مُسهباً ومكثفاً في عين الوقت مقارنة بعدد الصفحات ــ بملاحظات مختصرة:

1 ــ يقدم الباحثان في كتابهما، حول التطورات السياسية والاجتماعية منذ عام 1989، وجهات نظر جديدة وتحليل سياسي جيد، وأن نهاية التاريخ المزعومة، ظهرت كبداية عصر التقليد على مدى ثلاثة عقود تقريباً.

 2ــ يرتبط عام 1989 على الفور بسقوط جدار برلين ونهاية الحكم السوفيتي على أوروبا الشرقية، لقد كانت هناك أحداث عالمية، ربما كانت ارهاصاً لهذا الانهيار، نذكر منها فقط المرتبطة بأوروبا، مثل: خروج الجيش الأحمر من أفغانستان، فشل الإصلاح الذي قاده غورباتشوف في الاتحاد السوفيتي  واتفاق بعض قادة الدول داخل منطقة النفوذ السوفيتي على بدء مفاوضات مع المعارضة، مثل الحوار الذي أجراه الجنرال جاروزياسكي في بولندا مع زعماء المعارضة في عام 1989 ــ والذين كان قد سجنهم خلال حالة الحصار المفروض في ديسمبر 1981 ــ وتمخض عن اتفاق ينهي الاحتكار الشيوعي للسلطة… إلخ

3 ــ أن القول، بأن انهيار حائط برلين وسقوط الجدار الحديدي، هي بداية عصر السلام العالمي الدائم، فتكفي النظرة الى الأوضاع العالمية الحالية، سوى في أوروبا، البريكسيت واحتمال تفكك الاِتحاد الأوروبي، أو في شمال أفريقيا أو الشرق الأوسط، بأن هذا القول، لم يكن الا حُلم طوباوي، “فنهاية الحرب الباردة”، اعقبتها حربا أكثر برودة.

4 ــ إن قولهما “بأن الأنظمة والحركات المناهضة لليبرالية يمكن أن تكون قصيرة الأجل وتاريخياً دون عواقب، ربما لأنها تفتقر إلى أي رؤية أيديولوجية جذابة بشكل عام”. هذه نظرة متفائلة، فاذا اتخذنا “حزب البديل لألمانيا”، كمثال، وهو حزب شعبوي ، فقد لقى الحزب زخماً شعبياً كبيراً، لمهاجمته لسياسة المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل الخاصة بقضية اللاجئين في عام 2015. وهو الآن مُمثل

تقريبا في كل برلمانات الولايات بينما كان يتمركز سابقا في ولايات شرق المانيا فقط ويمثل الآن الكتلة الكبرى للمعارضة في البرلمان الألماني الحالي (البوندستاغ) ، وهو يمثل خطورة كبيرة على الأحزاب التقليدية التي تخشى أن تخسر نسبة كبيرة جدا من أصوات الناخبين ، مما دفع بعض أعضاء الحزب الديمقراطي المسيحي، المطالبة بالتعاون مع هذا الحزب خوفا من فقدان الأغلبية في البرلمان القادم. كما أن بعض من قادة الحزب الشعبوي لا يشككون في النظام الديمقراطي أو ينكرون المنجزات الليبرالية بالإطلاق، فالحزب منقسم الى تيارين، تيار يميني وتيار يميني متطرف. ونشير في هذا الصدد الى الكتاب الصادر حديثا بعنوان “ما الشعبوية” للمفكر عزمي بشارة، يشرح فيها ظاهرة الشعبوية ومسارها، وكتاب الماني أخر، يعالج نفس الظاهرة.

 5 ــ لقد تردد أكثر من مرة عبر صفحات الكتاب، عن أزمة النظام الليبرالي. نعم هناك أزمة شديدة بين السلطة والمجتمع في مسألة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. هنا يمكن العودة للأزمة المالية في عام 2008 ، والتي ظهرت في البداية كأنها ازمة ترتبط بمجمل النظام المالي المصرفي وفقدان الثقة في البنوك، لتمتد وتصبح أزمة اقتصادية أيضا. وبالرغم من السيطرة النسبية لتجنب الانهيار المالي الكامل، الا أن الآثار الاقتصادية لا تزال ماثلة في افلاس الكثير من الشركات المتوسطة والصغيرة ، مما ادى الى تسريح الكثير من الأيدي العاملة وتراجع الطبقة الوسطى وأزمة السكن. وهنا يمكن الإشارة الى مقال حديث للاِقتصادي الأمريكي الشهير جوزيف ستيغليتز بعنوان “الاِقتصاد الذي نحتاجه، نداء للرأسمالية التقدمية”: إن الرخاء المشترك ومستقبل الديمقراطية التمثيلية في أمريكا كما في أوروبا، على المحك. إن انفجار السخط العام الذي عاشه الغرب في السنوات الأخيرة. هو تعبير عن شعور متزايد بالعجز الاقتصادي والسياسي بين المواطنين الذين يرون أن فرصهم في العيش في الطبقة الوسطى تتضاءل. تسعى الرأسمالية التقدمية جاهدة لكبح القوة المفرطة للأموال المركزة في الأعمال والسياسة … لذلك علينا إنقاذ الرأسمالية من نفسها”… ونشير ايضا الى نظيره الالماني ماكس اُوتْ وكتابه الصادر حديثا بعنوان “انهيار النظام العالمي، الأزمات ، الاضطرابات وولادة نظام عالمي جديد”: أن ارتفاع مستوى الدين في العالم إلى أعلى مستوى على الاِطلاق ، بفضل مختلف عمليات إنقاذ البنوك واليورو ، قد يعني تراجع الولايات الامريكية المتحدة ، الى جانب صعود الصين وعجز أوروبا ، سوف يؤدي إلى عواقب وخيمة علينا جميعاً. أن الرقابة المتزايدة، وعصر جديد من الشعبوية ، والأخبار المزيفة وسياسة الهجرة و تقسم المجتمعات الغربية”.

6 ــ القول بأن الصين لا تتدخل في شؤون البلدان التي تتعامل معها، لا يمثل هذا السلوك دائما محمدة، فهو يساعد احيانا الأنظمة السلطوية وخاصة في بلدان العالم الثالث، التي تنتهك الحريات وحقوق الاِنسان.

7 ــ أن التقليد التام لأوروبا الذي قام به محمد علي، والي مصر، لم يشفع له، فعندما شعر الغرب بأن مصر سوف تتحول الى قوة إقليمية مهابة، قام الغرب بتدمير محمد علي.

8 ــ هل يكمن عقد مقارنة بين صدام حسين ومحمد علي ، رغم اختلاف العصرين؟ فالتقليد الأعمى للتكنولوجيا الغربية ووهم امتلاك القوة وعدم الانتباه للرسائل الغربية المبطنة، دفعته الى التورط في حروب الخليج ، مما أدى إلى تدمير قوتين إقليميتين (العراق وإيران) ، يمتلكان الثروة وقوة بشرية متعلمة وقدر من التحديث ، لصالح الغرب ، صحيح أن كلا الدولتين أقامتا نظاماً سلطوياً وفاسداً وبعيداً عن طموح وأماني شعوبهم ، مما اتخذه الغرب ذريعة للتدخل أيضاً. وهل ستكون تركيا ، كقوة إقليمية صاعدة ومؤثرة في محيطها ورقم لا يمكن تجاوزه بسهولة ، المرشحة التالية؟ فالغرب لا يريد، من يقف امامه على قدم المساواة ، فأما الرضوخ والطاعة ، وأما التدمير ، لاسيما وأن النظام التركي يمارس نهجاً سلطوياً وتوسعياً ، مما أدى الى تآكل الديمقراطية والمزيد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية.

9 ــ تمثل قضية المهاجرين واللاجئين ، أكبر مأساة إنسانية في العصر الحديث. 70 مليون في العام خرجوا من ديارهم ، بسبب الفقر والجوع والمرض وعسف السلطة، 120 ألف منهم ماتوا غرقا في المتوسط. لقد ظهر للكثيرين في اوروبا بأن أزمة اللاجئين قد تم السيطرة عليها نتيجة أغلاق الحدود ، فهذه نظرة خادعة ، فلا تزال اسباب اللجوء قائمة والوضع في شمال افريقيا والشرق الأوسط الآن أكثر التهابا من قبل ، وتأمل الملايين من الناس في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، مغادرة بلادهم هروبا من وضعهم الاقتصادي والاجتماعي المزرى ، فأوروبا تنظر للقضية من جانب أمنها القومي فقط وليس من الجانب الإنساني وحق اللجوء الذي تكفله المواثيق الدولية.

10 ــ يشير الكاتبان الى قضية التلاعب في الانتخابات التي تمارسها بعض الحكومات ، بإظهار قوتها ، التي لم تكن تتمتع بها بالفعل ، وأن فلاديمير بوتين يمارس هذا الاسلوب بصورة صارخة. ويستشهدان بقصيدة طريفة لبرتولت بريشت ، بعد الانتفاضة الشعبية المناهضة لالستالينية في 17 حزيران \ يونيو 1953 في برلين ضد حكومة جمهورية المانيا الديمقراطية، بعنوان: 

الحل

بعد انتفاضة السابع عشر من يونيو امر سكرتير اتحاد الكتاب بتوزيع منشورات في شارع ستالين جاء فيها ان الشعب قد فرط في الثقة التي منحتها الحكومة له ولن يستطيع استعادة هذه الثقة الا بمضاعفة الجهد، اليس من الاسهل ان تقوم الحكومة بحل الشعب وانتخاب غيره؟

(المراجع)

ويقولان، بأن الحكام الروس يمارسون ذلك تماما ، وفي كل بضع سنوات و يستخدمون التدابير الاِدارية لتشكيل واختيار الناخبين وفقاً لأهدافهم.

أنني لا اعتقد بأن بوتين بحاجه لممارسة هذا الاسلوب الصارخ والمفضوح ، بعد النجاحات التي حققها وبعد الشعور بالمهانة والذل والسخرية التي عانى منها الشعب الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، والذي وصفه بوتين” بأنه أكبر مأساة جيوسياسية في القرن العشرين”. وبعد ان اصبحت روسيا من جديد قوة عالمية ولاعب لا يستهان به في توجيه السياسة الدولية، مهما اختلفنا في وصف روسيا البوتينية، بأنها قوة إمبريالية لا تختلف عن امريكا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 – Ivan Krastev und Stephen holmes: Das Licht, das erlosch, Eine Abrechnung,

Ullstein Verlag, 2019

2 – إيفان كراستيف ، من مواليد بلغاريا ، عضو في معهد العلوم الإنسانية في فيينا. تتركز ابحاثه حول مستقبل الديمقراطية.

3 – ستيفن هولمز يدرس  في كلية الحقوق بجامعة نيويورك: تتركز ابحاثه حول تاريخ الليبرالية.

صدر الكتاب باللغة الانجليزية تحت عنوان:              The Light that Failed, bei Allen Lane, Penguin, London, 2019، الترجمة عن الاِنجليزية قامت بها كارين شولر.  Karin Schuler)).

ــ عزمي بشارة ” في الاِجابة عن سؤال: ما الشعبوية”؟ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر ــ 2019

– Jan – Werner Müller, was ist Populismus? Suhrkamp Verlag Berlin 2016

– Joseph E. Stiglitz, Die Wirtschaft, die wir brauchen, Plädoyer für einen progressiven Kapitalismus, Blätter für deutsche und internationale Politik, 10`19   

– Max Otte, Weltsystem Crash, Kiesen, Unruhen und die Geburt einer neuen Weltordnung, by FinanzBuch Verlag 2019

.