أوراق طبيب سودانيّ مُقيم في برلين

“ذكريات وقصص ووجوه وقضايا فكريّة وأدبيّة”

موسى الزعيم /

كشهادةٍ توثيقيّة، على مرحلة زمنيّة وتجربة حياتية غنية بين الطب والثقافة، يُصدر الدكتور حامد فضل الله الطبيب السوداني المقيم في ألمانيا ” أوراق طبيب سوداني مقيم في برلين”.

ويأتي بعد كتابه أحاديث برلينية الذي أصدره عام  2013 وكان قد تناول فيه عدداً من القضايا الفكريّة والتي تتعلق بحياة العرب في ألمانيا خلال الفترة الزمنية التي عاشها فضل الله في ألمانيا طالباً و طبيباً ومتابعاً لنشاطات الحركة الفكرية وتفرغه للكتابة والترجمة بعد تقاعده.

يقع الكتاب في 384 صفحة وهو ليس تأريخاً ذاتياً لحياة المؤلف بقدر ما هو تأريخ للحياة الثقافية والفكرية والاجتماعية وبالتالي يندرج ضمن المذكرات العامة والتي عادة ما تحفل بحياة المجتمع وحركته الثقافية والاجتماعية، والتي يرصدها الكاتب من خلال موقعه في هذا المجتمع، وبالتالي هو معني بتغيرات الواقع من حوله، والدكتور حامد في أوراقه يرصد واقع مُجتمعَين والجسور الواصلة بينهما وبالتالي يغدو الكتاب شهادة واقعيّة حقيقية على العصر يدعمها بالنقد والتحليل لواقع الحالة التي يتناولها.  

جاء الكتاب في ستة فصول متتالية منفصلة الموضوعات، يجمعها خيط واحد وهو علاقة المؤلف بالأحداث المدونة وبالشخصيات المذكورة في المتن. 

في الباب الأول من الكتاب حقيبة الذكريات: في هذه الحقيبة يتحدّث عن ذكريات الصبا وتطلعات الشباب، وجامعة الخرطوم والحلم الأول، أضواء القاهرة المبهرة، ثم إلى لايبزج في ألمانيا والنشاط السياسي في مدينة هالا سالا ومن ثم عودته إلى جوبا في السودان كطبيب وبعد ذلك العودة الثانية إلى ألمانيا والاستقرار فيها.

يفتتحُ الدكتور حامد كتابه بحقيبة الذكريات، كتسلسل منطقي لرحلة البدايات في منتصف خمسينيات القرن الماضي، حيث درس في جامعة الخرطوم ومن ثم انتقل إلى القاهرة في

تلك المرحلة كان ضمن العشرة الأوائل الذين انتقلوا من كلية الأقباط بالخرطوم إلى مدرسة الخرطوم الثانوية المصرية ” فاروق سابقاً ” يصف تلك المدرسة “ببنائها الحديث وفصولها العديدة ذات النوافذ العالية والميادين الفسيحة، ثم يذكر بعض معلميه في تلك المرحلة ومنهم مدرس الفرنسية يوسف الشاروني الذي صار واحداً من أبرز كتاب القصة القصيرة في تلك الفترة”.

بعد ذلك يتعرّف إلى القاهرة من خلال رحلة المدرسة، تبهره آثارها وحداثتها، ثم ينتقل إلى مدينة لايبزج في ألمانيا، وهنا يذكر الكثير من رفاق الدّرب السودانيين الذين التقى بهم، وفي مدينة هالا سالا تبدأ بواكير النقاشات السياسيّة الحادّة والمُتشعبة بين أعضاء التيارات المُختلفة بين الطلبة السودانيين الموفدين إلى ألمانيا.

بعد التخرج يعود الكاتب إلى السودان، يعمل فيها كطبيب امتياز ثم كضابط مدني في الجيش السوداني، لكنه يحصل على منحة اختصاص، فيعود إلى ألمانيا ليستقر في برلين، ومن هنا تبدأ رحلته المهنية والثقافية. في حقيبة الذكريات يفرد الكثير من الصفحات لعلاقته مع الروائي الكبير الطيب صالح وزيارته إلى برلين.

أمّا في الباب الثاني من الكتاب فيضمّ عدداً من القضايا الفكريّة.

يبدو فيه الدكتور حامد مشغولاً بهذه القضايا بشقيها العربي والألماني ومواقف الألمان من العرب والإسلام والقرآن والدولة العلمانيّة والحضارة العربية وقضايا الاستشراق.

لكنه يُفرد أبحاثاً خاصة لما يتعلق بقضايا الاندماج والصعوبات التي تواجه ذلك من الطرفين طرف الوافدين إلى ألمانيا وبيروقراطية القوانين الألمانية فيها، ومعروف عن الدكتور حامد نشاطه في هذا المجال أيضاً.

فيعقد أحياناً مقارنات بين الواقع والمُتخيل عن ألمانيا حسب ذهنية العرب، وما يعيشه الوافد الجديدُ هنا من صعوبات تواجهه.

هذه القضايا لم يكن الدكتور حامد مؤرخاً لها في أوراقه وإنّما شاهد عليها، فاعلٌ فيها يشارك في كثير من الأحيان في تحرير وجهة النظر العربية وأحياناً ينتقل إلى الضفة الألمانية

من أجل إيصال الصورة الجلية للطرفين العرب والألمان ومن خلال دعم أفكاره بالحجج والبراهين، مستشهداً بآراء كبار المفكرين الألمان ورواد النهضة الألمانية، لربما يجدُ  المشتركات التي توصل إلى عيش آمن فيه كرامة الانسان وحريته.

من تلك الموضوعات التي يقاربها هذا الباب: “إشكالية اندماج المسلمين في المجتمع الألماني، الاستشراق الألماني، الفكر التقدّمي في الإسلام المُعاصر، وإدوارد سعيد ماذا قالوا عنه في الشرق والغرب؟ وأوربا والقرآن. 

من جهة أخرى يبقى الدكتور حامد مشغولاً بالقضايا السودانية، إذ يبذل جهداً مهماً في هذا المضمار ومن مثل ذلك إصداره مع مجموعة من الكتاب السودانيين لكتاب ” كتابات سودانيّة” وهو سابقةٌ جديدة على صعيد الأدبين السوداني والألماني.

وقد كتبت مقدمة هذا الكتاب البروفيسورة “أنجليكا نويفرت” مديرة معهد الدراسات العربية السابقة في جامعة برلين الحرّة.

تأتي هذه المقدمة كشهادة لها أهميتها على مُنجز إبداعي لعدد من الكتاب والفنانين السودانيين المقيمين في ألمانيا من أجل أن يكون جسراً يعكس الحالة الثقافية في السودان أو من خلال نصوص لكتاب عاشوا حياتهم في المجتمع وشكّلوا وجهة نظرهم عن المجتمع الألماني.

كذلك يبقى الدكتور حامد وثيق الصّلة بقضايا السودان السياسية، فيتحدث في كتابه عن بعض الحوارات ما قبل انفصال الجنوب من خلال عددٍ من الشخصيات السودانيّة الفاعلة في المجتمع الألماني التي كانت تحاول نقل وجهة نظرها، لكسب تعاطف الألمان من خلال الحركة الشعبية لتحرير السودان مثل “عزّ الدين حسن” أحد مؤسسي فرع الجبهة ألمانيا وغيره.

كما يعرض الدكتور حامد قضايا الشعر السوداني من مدرسة الإحياء إلى قصيدة النثر من خلال عرضهِ لكتاب “الشعر السوداني” لعبد المنعم عَجب الفَيا.

وفي مقال طويل، يستعرض فيه فصول الكتاب بعين الناقد والمُتتبع لحركة تجديد الشعر السوداني حتى قصيدة النثر المعاصرة، مَنْ هُم روّاد كلّ مرحلة، وخصائصهم الأسلوبيّة كذلك عارضاً بعضَ النّماذج من أسماء الشعراء تبعاً لكلّ مرحلة، وما هي الإشكاليات التي رافقتها، وفي النهاية، له ملاحظاته النقديّة على الكتاب وعلى الشعر السوداني عامة، مثمّناً جهد المؤلف.

أمّا في الباب الثالث من الكتاب

و فيه يتحدّث عن شخصيّات التقى بها، تعرّف إليها خلال حياته في ألمانيا، بعضها عربيّ وبعضها ألمانيّ هذه الشخصيات كانت فاعلة ومؤثرة في الحياة الفكرية والثقافية وهو لم يعرض الجانب الشخصيّ في تلك العلاقات، فقط  بل كان معنياً بفكر تلك الشخصيات ومُنجزها الفكري وأثرها في الحياة العامة ومن هذه الشخصيات:

الباحث الاقتصادي العراقي الدكتور العراقي كاظم حبيب: حيث ساهم معه في تأسيس المنظمة العربية لحقوق الانسان عام 1991و لتصبح فيما بعد، منظمة حقوق الانسان في الدول العربية، وللدكتور حامد قصيدةٌ في أخلاق وسيرة حبيب كاظم، ألقاها في عيد ميلاده الثمانين وقد ثبّتها في الكتاب.

كما التقى بالشاعر الفلسطيني سميح القاسم عند زيارته إلى برلين عام 1996  وفي مادة ٍطويلةٍ يتحدّث فيها عن شعر المقاومة لدى سميح القاسم عارضاً نماذج من تلك النصوص وكذلك له مداخلة في تأبين الراحل عام 2014.

كما يذكر في الكتاب عدداً من الشخصيات النقديّة من دول عربية عدّة، التقى بها مثل الأستاذ الجامعي المصري سيّد بحراوي، وسمير أمين المفكر الاقتصادي العالمي الذي تمّ تكريمه في مؤسسة ابن رشد في برلين حيث ألقى فضل الله كلمته فيها.

وكذلك صبري حافظ أستاذ الأدب العربي المقارن في كلية الدراسات الشرقية في جامعة لندن ومحمود أمين العالم والشاعر العراقي صبري هاشم والكاتب الفلسطيني محمد محمود شاويش وناجي نجيب والشاعرة المصريّة عزّة حسن والروائي صنع الله إبراهيم.

يتحدّث  فضل الله في كتابه عن دور هذه الشخصيات الفاعل في المجتمع وخاّصة أنّها ساهمت في نهضة وتجديد الخطاب الفكري العربي.  

أمّا على صعيد الشخصيات الألمانية، فيعدّ “أودو شتاين باخ” المدير السابق لمعهد الشرق في هامبورغ عام 1992 من أهم تلك الشخصيات.

قدّم الدكتور حامد “ولايزال ” العديد من الترجمات والمُراجعات لكتبهِ لأهميتها على الصعيد السياسي والفكري ولما تتمتع به أبحاث الرحل من أهمية حول قضايا الشرق العربي كما أن له مكانته بين مفكري العصر الحديث.

من تلك الشخصيات أيضاً هايبر بيلافيلد، وانيتا فيبر، ورومان دكرت، لاهتمامهم بالوضع السياسي السوداني.

في الباب الرابع من الكتاب  “حكاوي ومواقف”

في هذا الباب تظهر مقدرة الدكتور حامد على اقتناص المواقف الساخرة الصادمة من خلال المفارقات في الحياة وخاصة في ألمانيا.

يعرض في هذا الباب مجموعة من الحكايات والمواقف الوجدانيّة والتي تشتغل على قضية المفارقات، إن كان على صعيد موقف الألمان من العرب أو الصورة الذهنيّة التي يشكلونها دائماً عن العرب عامة والأفارقة خاصّة، وغالباً ما كانت هذه الحكاوي تنتهي بمفارقة ساخرةٍ أقرب إلى الابتسامة، هي موجعة أحيانا، لكنها في سرديات حامد فضل الله تمرّ بسهولة والنصر فيها دائماً لما هو إنساني.

عادة ما يكون أبطال تلك المواقف من الألمان معارضي وجود الأجانب في دولتهم أو من العرب الذين تكلّست ذواتهم ولم يستطيعوا أن يتقدّموا خطوةً واحدةً، فتظهِر تلك المواقف انكشاف غرورهم أمامَ ذواتهم وأمام الآخر، بالمحصلة هذه المواقف والحكايات الطريفة ما هي إلاّ خلاصة تجربةٍ وخبرةٍ طويلةٍ في الحياة، استطاع الكاتب صياغتها بلغةٍ أدبيةٍ شفافةٍ  تدخل قلب القارئ وتداعب وجدانه من خلال تجاور المتناقضات في عناوين تلك الحكاوي” “شويعر وشاعر، شرق وغرب، الحياة والحياء، البصر والبصيرة المنفى والوطن، الوجد والألم، أشواق وحنين..

أمّا في الباب الخامس من الكتاب

فيتحدث فيه عن عدد من الشخصيات السودانية والتي خلفت أثراً في ذاكرة الدكتور حامد وحياته من هذه الشخصيات الدكتور محمد محمود المدرس في كلية الآداب في جامعة الخرطوم والذي التقى به في فرانكفورت عام 1990

وكذلك حيدر إبراهيم علي والذي عرفه عبر كتاباته في مجلة الوحدة والذي تكررت اللقاءات به في القاهرة، أما خالد موسى دفع الله الذي عمل دبلوماسيّا في السفارة السودانية في برلين والذي شارك في محاضرة عن الإسلام السياسي في برلين مع المفكر السوري صادق جلال العظم.

وكذلك يذكر الدكتور حامد علاقته بالدكتور خالد فرح والذي اقترح عليه ترجمة كتاب الرحالة الألماني “إدوارد روبيل” ومن الأسماء السودانية أحمد إبراهيم أبو شوك وهو أستاذ التاريخ المعاصر عرفه من خلال زياراته المتكررة لبرلين.

وغيرهم من الأسماء أمثال عبد السلام نور الدين، والدكتور صدّيق الزيلعي، بهاء الدين حنفي، كمال حنفي، والدكتور هجوعلي هجو.

باب القصص القصيرة  

هنا يعرض الدكتور حامد لنصوصه الإبداعية في القصة القصيرة وقد استفاد في نصوصه من تجربته في الحياة الطبيّة وقد عمل طبيباً للأمراض النسائية في ألمانيا لفترة طويلة. فجاءت القصص القصيرة مشغولة بعناية من حيث البناء واختيار الشخصيات القصصية  والحبكة والنهاية الصادمة، لذلك تأتي قصص فضل الله بنكهةٍ فريدةٍ

فالقارئ لقصصه يلحظُ اهتمامه بموقف الآخر منه، والآخر يبدو هنا الألماني الذي تكونت في مخيلته صورة نمطية عن “الآخر” هذا ما نجده في أكثر من قصّة مثل ” الآخر ” “الأجنبي” “المصير ” بينما هناك عدد من القصص تدور في عيادته وخبرته في الطبّ النسائي ومحاولته الغوص في نفوس شخصياته، واعتماد تقنية البوح. ما يحسب لتلك القصص أنّها استطاعت أن تقترب من دواخل المرأة الألمانية ومن خلال ثقتها بالطبيب الأجنبي، استطاع الدكتور حامد أن يفتح مساحات جديدة، لم تصل إليها القصة القصيرة العربية من قبل، فيفتح لها أفقاً خاصاً من خلال التجربة المباشرة مع شخصياته وبالتالي عندما ترجمت هذه القصص إلى الألمانية وصدر عدد منها في كتاب ” كتابات سودانية” قيل عنها: إنه من خلالها يمكن للألماني أن يرى صورته الحقيقية في أدب الآخر “الأوسلندر ” حسب تعبيرهم.

أمّا قصتي “عنبر دُقدق” و”بين نارين” فهي مستقاة من تجربة الكاتب في عمله كطبيب في  السودان.

كتاب أوراق طبيب سوداني، وثيقة تاريخية فكريّة لها أهميتها، ترصد اسهام الدكتور حامد الفكريّ في إزالة ما علق بالصورة النمطية العربية في الذهنية الألمانية ومن خلال تراكمات الإعلام المشوش الذي دأب على محاولة إبقاء الصورة ضبابية، ولعلّ العاقل يدرك تماماً مدى تقصيرنا في إزالة الترسبات عن تلك الصورة.

* الدكتور حامد فضل الله طبيب وأديب سوداني مقيم في برلين.

.