“الحنين” .. أقوى من كل منبهات العالم

قراءة في مجموعة “الرقص مع الريح” القصصية، للكاتب موسى الزعيم

.

إياس بياسي

بين أيدينا الآن، كتاب جمع بين دفتيه، مجموعة قصص توصف بالقصيرة، لكاتب سوري، لن يشكّ كل من يمر بأثر منها – إن كان ذاك المهتم الذي يبحث عن الفرق بين “كُتّاب الشهرة والساعين للعالمية والجوائز” وبين أولئك الذين ينبتون ويترعرعون في الريف والقرى الخصبة، فيكبرون على هيئة أشجار، تحمل مهما امتلأت غير ثمارها وورقها، عدداً لا حصرَ له من العصافير- أقول لن يشك كل من يمر بأثر منها، بأنها تنتمي لتلك البلاد، التي كانت تكنى في أحلام الكثيرين ببلاد الكرز، فلا تكاد تخلو قصة من عصفور، أو أشجار، أو من كل ما من شأنه أن يحملك من برجك العاجي على أكف الراحة، فيحطّ بك على هذه اللوحات الطبيعية البديعة، المنتشرة بين الصفحات، بيد قاص، وليس بيد رسام … هكذا بكل بساطة.

وكانت “افتتاحية الربيع” افتتاحية المجموعة: “ممزوج برائحة الزهر هذا الصباح الآذاري المشرق، ككل الصباحات الجميلة في بلادي.. أفتح باب حديقة المنزل، أملأ صدري بنسمات هواء منعشة.. أحاول أن أضمّ كل هواء الكون لأدخله في مسامي الجافة.

فتنبَه، إن كنت من أولئك الساعين لاقتناء الروايات والقصص المُرمّزة والمفخخة بأسرار التابو، أو كنت من الباحثين عن الجريمة الكاملة، التي لن تقرأ في نهايتها ما يقودك لفكّ اللغز، والوقوع في المزيد من الهياج، والمزيد من التساؤل، والمزيد من الإثارة، لأن هذه الصفحات ستصيبك بخيبة كبيرة، فمحتواها هو أبسط من أي يسمح لدماغك، أن يرسل بالسيالات العصبية بأوامر تصيب عضلاتك بالتشنج .. إنها بعبارات أبسط، إيقاع رغيف الحب، ويمكنك أن تختزل الصورة، بهذه القطعة المرمية في إحدى الصفحات: “لاشيء يشبه صوت أكفّ النسوة الخبازات على التنور، لطقطقة الأكفّ على أقراص العجين إيقاع واحد يحفظه السكون، يتناغمن .. يتبارزن من توصلُ صوت أكفها أكثر، من تنور أم جمعة إلى تنور رأس الدرب أو بيت العيون، وتنعش رائحة الخبز موائد الفطور”.

هنالك ثمة إستراتيجية في توزع القصص بجغرافيا مدن الكرز في سوريا، مروراً ببشرها وحجرها، لكن القاسم المشترك بينها جميعها، هو كيف تفننت هذه الحرب اللعينة في تخريب هؤلاء جميعاً، وإخراجهم عن النسق الحياتي المعتاد، فابتداءً من القصة الأولى “افتتاحية الربيع” التي يفترض أن تخرج منها، مقالة افتتاحية محبرة، لتُنشرَ في الصحيفة، فتخرج منها مدمّاة، ليُنشر عبرها ثقافة “الدخان الأسود”، وليس انتهاء بـ “قارئ العدادات”، نشاهد كيف استولت أدوات وأيديولوجية الحرب، والأرض المحروقة، وسطت على كل عفوي وبرئ وجميل، وفي سيرة هذه الأخيرة، نكتشف فيها صورة أخرى لـ “الصعلكة”، التي يُبنى مفهومها عامة على الإغارة على ممتلكات الأغنياء عامة، أو ممن يملكون ما لا يستحقون، فتقسيمها على الفقراء المحتاجين، أو من يستحقونها، ويتضح ذلك جلياً، مع قارئ العدادات عبد الله، الذي يقبل طوعاً أو كرهاً، أن يزور ويغير أرقام العدادات في البيوت، ليتحصل على مبالغ زهيدة، نجده في نهاية القصة، يقسّمها بين المحتاجين، فلا يقتسمها هو معهم .. “أدمنت قراءة تعابير الوجوه، وأصبحت أرى ما في دواخل أصحابها وبيوتهم..” ثم “أبدأ بالبيوت الأكثر حاجة، فتدق المطرقة مرة أخرى قاع رأسي.. لكنني أتجاهلها، وأنا أتذكر أن ما قدمته أصبح ثمناً لعلبة دواء، أو أرغفة خبز”، “أدمنت البحث وقرع الأبواب، حتى صرت أعرف أولئك الموسرين الذين اعتادوا امتصاص نسغ المدينة”، “الهوة تتسع بين الطرفين .. أعباؤك تزيد وتزيد، تكاثرت بيوت الصفيح في رقعة عملك.. وبات العمر قصيراً”.

وسنعترف مع آخر السطور في آخر قصة لاحقاً، أن “دين الحرب” لا يضاهيه دين على الأرض، سماوي كان أم وضعي، فرسل هذا الدين، هم أنفسهم المبشرون به، وهم أنفسهم، الذين سيقضون على أعتابه.

لا يفوت “الزعيم” إلقاء بقعة ضوء، على أقنوم الحرب الثاني “المخابرات”، حيث يعيش الناس حقيقة في هذه البلدان، ضحايا حرب معلنة ذات دخان أسود، وحرب خفية، تتمثل بتسلط رجال السلطة عليهم، لضمان انقيادهم الأعمى، وتوحيد ولائهم للإله الأعلى “الرئيس”، عبر الكثير من الوسائل المعروفة لكل الشعوب المبتلاة بمثل هذه الأنظمة، أو كما يرد في السياق “مبتلى بمحنة الجلوس على الخازوق”، فيكتب في “أبو الطبل”: “صفعني بكفيه على خدي.. أحسست الشرر يتطاير من عيني المصوبتين ومن أذني.. كانت كفّاه كقطعتي خشب صلب.. ثم صاح بغضب: تسخر مني يا ابن ال.. خذوه ولا تحضروه إلي، حتى تصنعوا من جلده طبلاً، عندها يعرف أين الطبل” وفي “دقائق من الزهايمر”: “هناك من يرفع لنا أيدينا نحن العرب في المؤتمرات والاجتماعات التي تحدد مصيرنا، في اللحظة التي يشاء وكيف يشاء .. همس صوت آخر .. بجانب كل عضو مجلس شعب ووزير عندنا عنصر مخابرات مشفّر يرفع له يده في اللحظة التي يريد. بينما رئيس المجلس له عنصران عن يمينه وشماله..”، ثم في “زيارة خاطفة” يحكي فيها عن نائب لسانه طويل يضطر رئيس الجلسة لإسكاته كل مرة، ثم وعده بأن يعطيه الوقت الكافي للكلام، وحين جاء ذلك الموعد، حمل هذا النائب لوحة مكتوب عليها بالأحمر العريض: “أعتذر منكم أيها السادة، لن أستطيع التحدث إليكم، فقد كنت في زيارة خاطفة عند طبيب الأسنان، ثم مسح فمه المدمي ونزل”.

ما أن وصلت بتصفحي إلى قصة “الرقص مع الريح” وهي القصة التي أعطت المجموعة اسمها، حتى خُيّل إليّ أنني مررت يوماً بما يشبه تلك الأحداث، ولكن مع كاتب آخر، وقصة أخرى، تستعمل الممثل نفسه، في تمثيل ذاك الدور الذي يختفي وراءه الكاتب، ليطلق لخياله العنان، فكل ما يختفي خلف الستائر، تسعى العيون دءوبة لتصويره وتفحصه، بمنطق يحكمه الفضول الإنساني اللامتناهي، وهذا بحد ذاته فكرة إنسانية، قد تجدها في كل اللغات وعبر الجغرافيا المتعددة، يديرها الكاتب من وراء الكواليس ويحمّل شخوصها معانٍ وأماني وأحلام، قد ل يستطيع التعبير عنها بشكل مباشر، ويمكننا هنا أن نقتبس من القصة: “في كل ليلة تتقلب على نار الترقب ولهيب الحسرة والانتظار، تتفنن في مسح مسافة الفراغ بين نافذتين مضاءتين، حتى آخر قطعة من العتمة .. تستهلك وقتها وبقية ألقها الأنثوي .. تراقب النافذة المضاءة بعد منتصف الليل ……، “هو هناك يراقبها .. خلف النافذة .. تلمح ظله يصفق لها بعد انتهاء رقصتها. يرمي لها وردة جورية حمراء، لكن الريح العابثة بين نافذتين مضاءتين تسرقها عبر جسر الظلمة”.

قد تقرأ ما يحاكي فكرة هذا النص أيضاً في مجموعة “منزل تحت القمر” للكاتب د. أمير حمد، والصادرة أيضاً عن دار الدليل للطباعة والنشر، في قصة عنوانها “النافذة”، حيث يكتب د. أمير: “اللحن نفسه ينساب من نافذتها المشرعة قبالة شرفتي، نغمات مموسقة بدربة تنداح متقاطعة كخفق موج من بيانو وكمانات الأوركسترا. الليل واللحن والستار الشفيف، وامرأة ترقص خلفه وحيدة، تدور وتقف مرنّحة خصرها فيسقط شعرها الطويل، على كتفيها شبه الدائريين. أبصرها وراء الستار المموج الشفيق طيفاً ساحراً لا يمل المرح والأنس”.

 وفي منحى آخر، ينسى المؤلف، أو يحاول أن يتناسى أنه يكتب القصة أصلاً، ربما في محاولة لاستراحة “كاتب”، هذا ما لحظته عندما قرأت قصة “حلم من زبد”، فهذه القصة في الحقيقة، قد تعرت من لباس القصص المتعارف عليه، وحلت بين قصتين كخاطرة جميلة، يبدو أن “الزعيم”، قد تقصد فعل ذلك لإراحة القارئ من عناء الحبكة، وفتحِ فضاء السؤال.

إذا كانت مجموعة هذه القصص هي محاولة تأريخ سردي متقطع لتاريخ ما في سوريا، فقد تعثر الكاتب – برأيي الشخصي- في إيجاد الرابط المناسب بين المأساة والسخرية، في قصة “لا تثريب عليه” التي حاول فيها، إيجاد رابط مرضٍ ومقنع بين حدثين في متن القصة، هما ترك الأم لطفلها صغيراً، وهروبها مع عشيقها، ثم عودتها إليه بعد موت عشيقها، – الذي أصبح زوجها-، محاولة استعطاف ابنها الذي كبر وشب من دونها، بأنه – أي زوجها- قد مات برصاصة في رأسه على يد جنود النظام، في إحدى المظاهرات، وهذا سبب وجودها معه الآن، مما جعل ابنها يحزن لحزنها، وينسى كل ما خلّفته له من آلام عبر عشر سنين فارقته بها، وينسى كذلك قسوة زوج أمه في حبسه إياها عنه، مقابلاً بهذا خطأ نزوة الأم، واستشهاد عشيقها لأجل الحرية التي سعى الثوار لها، والأسوأ من هذا وذاك، أن الأم نجحت منذ البداية في اتّباع غوايتها، ثم نجحت بعد مضي سنين، بإعادة استمالة ابنها واحتضانه لها، عبر حجة، قد تكون كافية للبعض، لكنها بالتأكيد لن تكون لكثيرين.

ويستمر في هذا أيضاً في قصة “شمة هواء” التي لا أعرف حتى تاريخ كتابتي لهذه القراءة، كيف دست بين مجموع القصص المتروكة المتن للتداعي الحر، لنكتشف أنه عبر أكثر من صفحتين، يريد أن يقول لك بالعامية: “الي بشوف مصيبة غيرو بتهون عليه مصيبتو”.

يمكنني أن أقول الآن أن التوصيف الحقيقي لمجموع هذه القصص، أو لنقل السمة العامة لها، أنها تعتبر حسب مقياس اللغة والحبكة -وليس الطول والعرض- ، قصصاً لليافعين، لكن دون أن يدوّن هذا على غلاف المجموعة صراحة.

إن ما في هذه القصص، لهو أبسط بكثير مما كتبت عنه سابقاً، إن كان ذلك في السرد والوصف والحبكة، أو في مآلات هذه الأخيرة، لكن لكل قارئ عين ترى، ولب يهوى.

الرقص مع الريح تتألف من خمس وعشرين قصة، تتمدد على مئة وأربع عشرة صفحة هي بالترتيب:

  • افتتاحية الربيع.
  • حقيبة الدفء.
  • أبو الطبل.
  • شهادة ميلاد.
  • الشاهدة.
  • الغيمة الحنون.
  • لماذا عدت؟
  • القلوب البيضاء.
  • قارئ العدادات.
  • الرقص مع الريح.
  • دقائق من الزهايمر.
  • الزحف.
  • النافذة والجدار.
  • الذباب.
  • لا تثريب عليه.
  • مزمار الجن.
  • شمة هواء.
  • حلم من زبد.
  • رحم الله أيام النظارة.
  • أحب الضباب يا أبي.
  • امرأة على حدود النص.
  • زيارات.
  • التمثال.
  • صندوق بريد المقبرة.
  • مقامات صباح عتيق.

 من إصدارات دار الدليل للطباعة والنشر في برلين عام ٢٠١٩.

.