أدب الطّفل بين المحاباة للغرب والخوف على الهويّة

.

 موسى الزعيم

يعدّ أدبُ الطّفلِ جسراً معرفيّاً مهمّاً في نقل القيم والأفكار والمُتعة ففي السّنوات الأخيرة على الصعيد العربيّ بدأ الاهتمام بأدب الطفل كأدب له كيانه واستقلاليته وحضوره وتخصصّه في “المسرح والقصّة  والشّعر”، تشكلت كينونته  المنفصلة عن باقي  الأجناس الأدبيّة التّي ولد منها وهذا الجسّر يحمل على ظهره الكثير من الحساسية والأهمية، خاصة اليوم مع قدوم أعداد كبيرة من الأطفال العرب إلى أوروبا.

وإذا كانت الفكرة المُسيطرة على عقول  بعضهم أننا سنترك أطفالنا لهم يوماً ما هنا !!  يتربون في أحضانهم، ينهلون من معرفة الغرب العلميّة والثقافيّة، إلاّ أننا في الحدّ الأدنى علينا الحفاظ على الهويّة والثقافّة، أو أن نقدم لأطفالنا ما يليق بهم على الصعيد الفني والإبداعي، ولا يخفى على أحد الدّور الذي يقوم به الأدب على المدى البعيد من غرسٍ للمفاهيم والأفكار وخاصّة ما يتمّ نقشهُ في صفحةِ الطّفل البيضاء ..

ولعلّ المُهمة تغدو أصعبَ إذا كانت هذه الصّفحة قد تلوثت بمخلفات الحرب وشوهتها صور الفظائع والألم.

هنا تبدو المهمة أكثر تعقيداً وتبدو عملية الإزالة لهذه التراكمات لا تقلّ أهميّة عن إعادة البناء، وإعادةِ الصّفاء لذات الطفل، بعدها يمكن الاشتغال على المفاهيم التي تمّكن الطّفل بناء شخصيته السّويّة .. إذا سلّمنا بالدور الرّيادي الذي يقوم به أدب الأطفال بعيدا ً عن النّدب أو جلد الذات أو “عقدة الخواجة” كما يسمّيها بعضهم .

من هنا يأتي السؤال: ما مُهمة أدب الطفل بشكل عام، وهل للطفل العربي في أوربا خصوصيته في ذلك؟

هنا سوف أتوقف قليلاً عند ثلاثة نماذج أدبيّة من أدب الطفل،هي ثلاث مجموعات قصصيّة، من خلالها نلحظ حجم التّباين فيما يُكتب لطفلنا اليوم.

 مُغامرات كبريتة مجموعة قصص للأطفال للكاتبة كفاح علي ديب ، تتألف من تسع قصصٍ صادرةٍ عن دائرة الثقافة في الشّارقة، وهي موجهة للأطفال ما بين سن 10الى 12 سنة رسم اللوحات الفنية المرافقة للقصص الفنّان أيهم حويجة.

تتحدث الكاتبة في هذه المجموعة بلسان الأشياء، من خلال بطلةِ القصص (كبريتة) وفريقُ مغامراتها،حيثُ تبدأ هذه المُغامرات من طاولة المطبخ.

 في القصّة الأولى تتعرّف كبريتة إلى نفسها، ومن ثم تبدأ بالتّعرف إلى أصدقائها في المحيط الذي تعيش فيه مثل (شمعة ، فنجان ، سكريّة ، دفتر ، قلم ، مِنفضة… ) وبعد ذلك وفي قصص جديدة متسلسلة تتعرف كبريتة وأصدقاؤها إلى أصدقاء جدد مثل طبق القش، فزّاعة، الساعة ، الضفادع والنمل، الحصان  الكلب أبيض وغيرها.

ومن خلال أنسنةِ الأشياء تسعى الكاتبة إلى بثّ رسائل معرفيّة فنية علميّة وغيرها لتصل إلى عقل وذائقة الطفل بأسلوب سهلٍ رشيقٍ ممتع، دون ما تكلف، فأبطال القصص هي مفردات الحياة اليومية التي يتعايش معها الطفل وتظهر على ساحة معرفته البكر يتعرف إليها بالنظر أولاً يدخلها إلى ساحة خياله ..يحاورها بأسلوبه الخاصّ كما حدث ذلك في قصّة ليلة السّباحة، حيث يحاور طفل صغير الأشياء الموجودة على الطّاولة ويخبرهم بأنّه يعرفهم يحدّثهم بلغته الأولى “المكاغاة”.. هذه اللغة التي تعرف الأم من خلالها أن طفلها يشعر بالسعادة ( التفت الأمّ باتّجاه الطّاولة والحبّ يطفحُ وجهها، ترنو إلى ابتسامةٍ كبيرةٍ ترتسم على وجه صغيرها وتصغي إلى مكاغاته الصّاخبةِ… كاغى الصغير قائلا ” اششش !  اهدؤوا!  لقد نبّهتم أمّي إلينا ” عادت الأشياء تتحدّث بصوتٍ خفيضٍ بينما الصغير يشرح الخطّة..)

في القصص تنقل الكاتبة الأشياء إلى مكان ولادتها الطبيعي، فكبريتة تأخذ أصدقاءها في نزهة إلى الغابة ليتعرّف الأصدقاء إلى أمّ عيدانها “الشّجرة” .

كذلك يأخذنا طبقُ القش إلى الحقل  لنتعرف إلى أسرته هناك ، نتعرف في الحقل إلى النمل الذي يأخذ حاجته فقط من حبوب السنابل  وعلى الفزاعة التي تخيف وتبعد فقط الطيور المخرّبة، بينما نعرف أن القبّرة لا تبني أعشاشها فوق الشجر وإنّما في حفرةٍ في الأرض .. ففي كل قصّة مغامرات جديدة حتّى نصل إلى قصة “السّرّ” فنعرف أين كان يختفي قلم و دفتر!!  كانا عند الصديقة كفاح التي تدّون الأحداث.

كفاح علي ديب لا تحصر مُهمّة أدب الطفل في مكان وزمان محدد،  تشتغل على المتعة والفرح والإدهاش والقيم المشتركة بين كلّ ما هو إنساني على بقاع الأرض، تعمل على تقديم  كلّ هذه الأشياء دون أن يشعر الطفل بثقلها تحمل أدواتها الفنية وتكتب لنا من هناك من مخيلة طفل يجلس قبالتها، تسكن فيه حتّى تنهي قصتها، بعدها ربّما تختفي في خيال فتاة أخرى .

أمّا المجموعة القصصيّة الثانية فهي مجموعة (وطنُ نون ) للكاتب السّوداني الدكتور حسن حُمّيدة وهي مجموعة قصص كما – أراد أن يسميها الكاتب – موجهة إلى الأطفال من أجل تعزيز التواصل بين الثقافات.

هذه المجموعة صدرت في عام 2015 عن دار الدليل للطّباعة والنشر في برلين باللغتين العربيّة والألمانيّة ومع رسومات الفنّان “إيهاب الحسن” .

تتناول القصص موضوع الهجرة من الحرب، من خلال ذكريات طفلةٍ عاشت الحرب ومآسيها وهربت منها مع أسرتها إلى أوروبا .

 قُسمت المجموعة إلى قسمين: الأوّل يتحدّث عن الحرب والهروب والنّزوح، ومعايشة الطّفلة لهذه الأحداث والثاني: عن القيم والأصول والنظم السّائدة في الوطن البديل وإمكانية التعايش السّلمي مع أهله.

في المجموعة خمسة وعشرون نصّاً قصصيّاً، مُتسلسلة الأحداث متتابعة في بنائها الزمني القصّة الأولى الهروب من الحرب، ومن ثم درب من الأشواك، ووداعاً قريتي الحبيبة..  وتتابع الأحداث حتى الوصول إلى أرض الحلم أوروبا عندها تأخذ القصص منحاً جديداً عند قصة  وطن جديد يلوح …)  ثم تتحدث عن كيفية الاندماج في الحياة وفي العالم الجديد، أو لنقل تتحدّث عن الانبهار الأوليّ أو الدّهشة الطفليّة التي أصابت بطلة القصّة في الحياة الجديدة، لتدخل القصص في جدل المقارنات والنصائح وأحياناً الوعظ.

 ثمّة قضايا تتعلّق بالعملية الإبداعيّة في النصوص هنا أولها وأهمّها: من حيث البنية الفنيّة والجماليّة، ومن جهة الحامل اللغوي والسردي، فالقصص كما يقول الكاتب: كُتبت بلسان طفلةٍ عمرها خمسُ سنوات تُدعى “نون” وهي السّارد  في القصص .. حيث تبدأ القصّة الأولى بصيغةٍ حكائيّة تشبهُ حكايا قبل النّوم :

أتدرون أعزائي كيفية الهروب من الحروب ؟ هذا هو شأني وشأن أختي الصغيرة .. سوف أحكي لكم قصتنا أنا وهي وباقي أفراد أسرتي .. سوف أحكي عن رحلتي الطويلة إلى  برّ الأمان في أبعد الأوطان، وطنٌ جديدٌ يستقبلني ويعطيني الأمان إلى حين … اسمي نون وعمري خمسة أعوام ..

 القارئ لقصص المجموعة يُصاب بالحيرة عند متابعته القراءة من خلال اللّغة التي تتحدّث بها الطفلة، لتجد أن الحامل اللغوي السردي يفوق سنّها بكثير، فقد كتبت القصص بلغة معجميّة بعيدة عن المستوى اللغوي للطفل، أو عن قاموس مفرداته المتشكل حسب سنوات عمره وتحصيله المعرفي، فالقصص تحمل في طياتها الكثير من الكلمات الغريبة بل أكثر من ذلك أحياناً بعض القصص تدخل  في إطار التنظير، مما يربك القارئ فيتساءل لمن كتبت هذه القصص؟  هل أقرأ أدب أطفال أنا أم أقرأ تنظيراً ودروساً توجيهية للحياة هنا؟ هل كتبت هذه القصص بهذه اللغة لتتناسب مع التّرجمة مثلاً ؟ أم أراد الكاتب أن يقرأ الألمان الكبار أيضاً ما كُتب؟  ربّما هناك هدفٌ آخر لا نعلمه ؟ّ!!  نقرأ مثلاً في قصّة الحياة من أجل الحياة:

كانت نظرات أهل القرية المسائلة تنزل علينا نحن الصّغار متفهّمة ورحيمة لكنّها كانت ثاقبة وفاحصة ومتبحّرة في وجوه أهلنا الكبار كانت نظرات تساؤل معبّرة وفيها من الحكمة  تحتوي معاني ودلالات أدب الأدباء وتساؤلاتهم  التّي سجّلها تاريخ الأدب الرّصين”

في المحصلة أرى أن هذه القصص ابتعدت قليلاً عن إطارها العام الطفليّ وما يحسب لها أنّها حاولت نقل معاناة الأطفال العرب إلى الغرب .. وربّما حاولت أيضاً كسب ودّ الطرف الآخر.

أضف إلى ذلك ورود مجموعة من الأخطاء أثناء الكتابة مما يعكر صفو القراءة أحيانا ً مثل ” كان الاثنين غائبين عني ” والصواب كان الاثنان غائبين عنّي ” ص14 وكذلك جملة  “وتداعبه الريح عابثة ببناءه الضعيف”  والصواب “ببنائه الضعيف” ص26 “بحر ممتد عميق  يطفوا على الأمواج ” الصواب يطفو ” ص16  و ” أن ترسي بهم بأمان الصواب “ترسو” ص 24

وهذا ما يُخرج عنصراً مهمّاً وقيمة معرفيّة ضرورية في قصص الأطفال وهي القيمة اللغويّة والتي بالتأكيد أصبحت هاجساً لمن يريد أن يحافظ على اللغة الأصلية لأطفاله من خلال جسر الأدب وقصص الأطفال.

حكايات في حقيبتي و”هي مجموعة حكايات خياليّة فلسطينية لم يسبق نشرها في كتاب مصوّر باللغتين العربية والألمانية” هكذا تمّ التّعريف لهذه المجموعة من الحكايات على غلافها ”

في المجموعة عدد من الحكايات المعروفة تراثيا مثل ( كيف خدع السنونو الثعبان، والشاطر حسن، والريشة الذهبية وقصة أولها خيال وآخرها خيال،  قصة شمس وقمر، الذئب الجائع والثعلب المكار، والغول غدار) وغيرها من القصص.

تقول الدكتورة سارية المرزوق: أحد العاملين في فريق الترجمة، الفكرة من جمع هذه القصص جاءت ضمن مشروع تمكين المرأة والاشتغال عليها منذ طفولتها من خلال تحوّل شخصيّات أبطال القصّ الذكوريّة إلى إناث.

 أقول: في مثل هكذا عمل الكثير من المخاطر أولها اللعب فنياً على التراث الحكائي وثانيها إغفال مصدر بعض هذه الحكايا وانتمائها، وذلك بعدم نسبة هذه القصص أحياناً إلى سياقاتها المكانية الصحيحة مثلا ًوبالتالي أن يكتب على غلاف كتاب حكايات تراثية  كلمة تأليف…. ؟؟!!

في مجموعة حكايات حقيبتي اشتغل فريقٌ متكامل على إخراج رسوم تفاعل معها الأطفال جاءت حسب مخيلتهم وحسب تصوراتهم وهذا عمل تفاعلي جميل يحسب للفريق خاصّة وأنّه نقل ساحة عمله بين مصر و ألمانيا .

بالعودة إلى السؤال الذي انطلقنا منه في البداية هل ما يكتب من أدب الأطفال في الشرق يتناسب مع حياة أطفالنا في الغرب؟

يقول الدكتور مصطفى عبد الفتاح وهو متخصّص في أدب الطفل :  ما يُكتب في الوطن العربي، من أدب الطّفل، في جزء منه يناسب الأطفال الذين هاجروا إلى أوربا، فهم لم يخرجوا بعد من أجواء بلادهم، ما زالوا يحملونها في قلوبهم وعقولهم، ويحتاجون لمُنتجات الأدب الطّفلي العربي ليبقي على الرّابطة اللّغوية مع أمتهم وتاريخهم.

لكن ما لا يناسب أطفالنا هناك هو مستوى عدد كبير من النّصوص الأدبيّة التي تتعامل مع الطفل ككائن غبّي وليس مع كيان متفتّح على الحياة، وهذا لا يناسب من بات يعيش في مجتمعاتٍ متقدّمة تقنياً.

أمّا القيم التّي تتضمنها النصوص الطفليّة العربيّة فهي مناسبة في كلّ وقت للأطفال، لكن تختلف الإفادة منها باختلاف طريقة عرضها، فقد تكون طرق العرض مباشرة لا تحوي متعةً تجذب الطفل.

وقد تكون القيم التي تنادي بها نصوص الأطفال تختلف عن القيم السائدة في المجتمعات التي انتقلوا إليها، وهنا سيحصل صدام نفسي لدى الأطفال.

وكذلك الرّسائل التربوية التي تحملها النصوص التّربويّة قد تكون رسائل إيجابية تنفع الطفل في بنائه النّفسي، وقد تكون رسائل سلبية من خلال توجيهها لتحويل الطفل إلى طرف مُنفعلٍ وليس فاعلاً في الحياة، خاصّة تلك التي تتعلق بعلاقة الصغار بالكبار، وقد بنيت الكثير من النصوص على المبدأ الثاني للأسف.

و في كلّ نصوص الأطفال هناك رسائل تربوية أو أخلاقيّة، لكن أدب الطفل يجعل المتعة وسيلتهُ للوصول إلى الطّفل، وهنا بيت القصيد في الاختلاف بين أدب الطفل العربي وأدب الطفل الغربي، فأدب الطفل الغربي تجاوز حدود الخيال، وأصبحت المتعة

هي المستهدف الأساسي، ومن خلال الأحداث أو الشخصيات تصل رسائل تربوية في انتصار الخير على الشّر دائماً، لكن أدب الطفل العربي ما زال قاصراً من ناحيتين؛ الأولى تغليب ناحية القيم على ناحية المرح والمتعة، والثانية عدم وجود تخصصين في نقد الأدب الطفلي، مما أتاح المجال لنقاد أدب الكبار لوضع قيود مشوّهة على تطور أدب الطفل العربيّ، من خلال تحجيم الخيال، وهذا أساء كثيراً.

لذلك أدب الطفل العربي يجب أن يحمل كل عوامل النجاح والتأثير من المرح والمتعة وتخفيف صدمة الحرب والمساعدة في الاندماج، وهذه العوامل لا تجتمع إلى لأدباء ذاقوا مرارة التشرّد والنزوح إلى مجتمعات جديدة.

 بقي أن نقول: من المُهم جدا ًالتميز بين أدب الطفل كأدب، وبين الحكاية التراثية الشفاهيّة التي تُحوّل إلى ملّفٍ كتابيّ يقدّم للطّفل على أنّه هو أدب الطفل العربي، فلكلٍّ خصوصيتّه ومتعته، ولنبتعد قليلاً عن هذه الصّورة النمطيّة التي سادت لفترة من الزمن صورة الطفل اللاجئ الذي يجلس وحيداً في زاوية الحديقة لا يلعب معه أحد ثمّ ليأتي من يأخذ بيدهِ ويخرجه من عقدته ويلاعبه، أعتقد أنّ هذا الطفل  اليوم تجاوز تلك المرحلة وأصبح ربما “كابتن” الفريق في صفّه المدرسيّ .. لقد نهض بالفعل ..

………………………………………………………………………………………….

*كفاح علي ديب فنّانة تشكيلية سوريّة حاصلة على المركز الأول في جائزة الشارقة في مجال أدب الطفل  صدر لها مؤخراً مجموعة قصصيّة للأطفال بعنوان مغامرات كبريتة مقيمة في برلين .

*د. حسن حميدة مستشار تغذية، فنّان تشكيلي سوداني وكاتب قصة، أغلب نشاطاته الإبداعية في خدمة التعايش السلمي بين القادمين الجدد والمجتمع المحلي مقيم في مدينة يينا الألمانية .. نُشرت قصصهُ بعدّة لغات.

*د. مصطفى عبد الفتاح كاتب سوري مقيم في تركيا مُتخصص في أدب الطفل، حاصل على عدة جوائز عالمية وعربية آخرها جائزة قصص الأطفال المصورة في البحرين ، صدر له 40 كتاباً في أدب الطفل وغيرها، يدير مشروع بحر اللغة ونادي القراءة العربي  وهو موقع الكتروني مخصصّ للأطفال العرب المهاجرين في كافة أنحاء العالم .

*د. سارية مرزوق  كاتبة قصة ومُترجمة مقيمة في برلين .