دور العوامل الثقافية في النهضة الاقتصادية

د. نزار محمود / المعهد الثقافي العربي في برلين
هناك العديد من النظريات الاقتصادية المختلفة، قديماً وحديثاً، مما تناول موضوعة النهضة الاقتصادية في محاولة لتفسير أسباب وعوامل النمو الاقتصادي وبعكسه التخلف الاقتصادي. كما قامت محاولات أخرى ذات طابع سياسي أو إجتماعي أو ثقافي أو حتى جغرافي من أجل ذلك. ولعل عالم الاجتماع الألماني “ماكس فيبر” يعد من ألمع المفكرين الذين إهتموا بالعوامل الثقافية في مسألة النمو والنهضة الاقتصادية.
وعند الاطلاع على ما تعرضه تلك النظريات جميعاً يقف المرء على صوابها في تفسير هذا أو ذاك من عوامل النمو والنهضة الاقتصادية، وعجزها عن تفسير غيرها من عوامل ذلك النمو، حيث لا تستطيع أي من النظريات تقديم الإجابات القاطعة عن أسباب وعوامل النجاح أو الفشل للنمو الاقتصادي. فاذا كانت قد نجحت في هذا البلد ومع هذا الشعب فإنها ليست كذلك في بلد وشعب آخر. وتبقى الإدارة السياسية الناجحة في تحفيز قوى الإنتاج وتنظيم وحداتها وتفجير طاقاتها وإبداعاتها وما يرتبط بذلك من دراية بالمحركات النفسية والإجتماعية على مستوى الفرد أو الجماعة الآمنة الراضية المطمئنة على مالها ومستقبلها من أثر بالغ على العمل والإنتاج والنمو والتقدم.
أحاول في هذه الدراسة الخوض في جانب تأثير العوامل الثقافية على عملية النمو الاقتصادي، وأراني مطالباً منهجياً في توضيح ما أعتمده من مفهوم للثقافة:

أعني بالثقافة في هذه الدراسة جوانب عديدة، منها المعرفية والسلوكية والقيمية والتربوية وحتى الأعراف والعادات والتقاليد والنظرة الفلسفية للحياة وأساليب التفكير والعقليات السائدة وأنماط الحياة والعلاقات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية. بتعبير آخر جميع جوانب الحياة من زاوية ثقافية.

كما أرتأي تناول هذه الجوانب وفق الترتيب التالي:

 

الجانب المعرفي:
لا شك أن التعلم واكتساب المعرفة والتأهل والتخصص تشكل حجر الزاوية في أية عملية نمو اقتصادي يقوم على الإنتاج والإنتاج المتميز جودة وكلفة وتنافساً وابتكاراً. لكن السؤال المهم كذلك: أي تعليم نحتاج له في ضوء التطورات المعرفية الهائلة والقفزات الكبيرة في وسائل الاتصالات وشبكات المعلومات؟
إن النمو الاقتصادي لا يقوم على إجترار معلومات مخزنة والتعامل معها بصيغة إنتاج لمخرجات سبقنا الآخرون إليها وحصلوا على ثمار إبتكارها أو إختراعها أو إكتشافها، وبالتالي إحتكارها أو على الاقل السيطرة على أسواق تصريفها.
نحتاج أن نتعلم كيف نتعلم وعلى مدى الحياة، وأن نفهم أن التعلم، كما قال أحدهم، هو كالتجذيف عكس التيار، حالما يتوقف الانسان عنه جرفه التيار.
علينا أن نتعامل مع رأس الإنسان كورشة عمل وليس كمخزن مواد معرفية. فالورشة بما تمتلكه من مواد “معرفية” ومعدات وأدوات وعدد تساعد على تحويل وتصنيع تلك المواد “المعرفية”  إلى منتجات جديدة، في حين تنحصر وظيفة المخزن على حفظ المواد المعرفية المنتجة سابقاً دون تطوير!
من هنا فإن المجتمعات المتخلفة لا يمكن أن تحقق نهضة ونمواً وتنافسية في عصرنا الحالي دون إتيانها بالجديد من المعارف والقدرات. فاستنساخ المعرفة المنتجة والمستخدمة من فترة من قبل الغير لا يحقق لها نهضة أو نمواً، لا بل يفرض عليها تبعية وموقعاً في مؤخرة المسير. باختصار شديد نحن نحتاج الى تعليم ينتج لنا معرفة جديدة وتطبيقات خلاقة وسبق زمني في إدخالها سوق الإستعمال أو الإستهلاك.

تحدث ويتحدث الكثيرون عن مساوىء التلقين والحفظ، لكن المشكلة تكمن لدى كثير من بلدان وشعوب التخلف في تطبيقات التعليم البديل المبدع، وهي واحدة من المسائل الأساسية في البنى التحتية لأية عملية نمو أو نهضة.

الجانب التأهيلي:
إذا لم تجد العلوم لها تطبيقات، في التفسير والإستخدام المفيد، منسجمةً مع الاحتياجات الواقعية المتطورة للسوق المحلي وغيره من الأسواق التي يعزز التعامل معها والاستفادة منها عملية النمو الاقتصادي ونهضته.
وتكمن أهمية التأهيل المهني بالآتي من الجوانب:
إن الحياة العصرية، وقد غزتها التقنية في جميع مفاصلها وما يلاحقها من تطورات ومستجدات متنافسة، قد حتمت وعياً تقنياً على المستوى المجتمعي عموماً، وإعداد مهارات مهنية وأيدي عاملة مفكرة ومبدعة في كيفية التعامل مع حل المشكلات التقنية بصورة خاصة.
لقد بدأ الانسان عصراً جديداً في مجتمعات المعلوماتية والرقمية مما يستوجب وعياً جديداً وملائماً وسلوكاً تعاملياً ومنطقاً آخر في تأهيلاته المهنية، وعياً وإعداداً وتأهيلاً، بتعبير آخر تعليماً وتأهيلاً وثقافة أخرى.
إن أي منتج لا يحسن إستخدامه أو إدامته وصيانته وبالتالي عدم الإفادة منه بما يجب، إنجازيةً وعمراً إنتاجياً، سينعكس ذلك في جدواه الإقتصادية وتكلفته، وبالتالي يمثل هدراً للمال والزمن، وما أدراك ما هو هدر الزمن… فعلى سبيل المثال فإن الجهاز المقدر عمره بأربع سنوات ويخرج من الخدمة بعد عامين لأسباب سوء الإستخدام أو غياب الصيانة والإدامة المناسبة فإن ذلك يعني مضاعفة تكاليف شرائه!
من هنا فإنه من المقومات الثقافية لأي نمو إقتصادي يستوجب وعياً جديداً ومعارف ومهارات مهنية مواكبة للتطورات التقنية ومتفاعلة معها، وهو ما يقع على مسؤولية مؤسسات التعليم والتدريب والتوجيه والإرشاد في أهداف ومحتويات مناهجها المعرفية والمهارية والسلوكية.

النظرة الفلسفية للحياة:
تلعب النظرة الفلسفية للحياة، باعتبارها خاصية ثقافية، دوراً فعالاً في نمو ونهضة الأمم سواء على المستوى الفردي أو الجمعي. هذه النظرة يمكن أن تشكل محركاً للعمل والتغالب وبالتالي للنمو والنهضة الاقتصادية، أو قد تكون سبباً للخمول والتقاعس والإستسلام والقناعة بمفهومها السلبي وبالتالي للتخلف والتردي الاقتصادي.
إن تتبعاً لأمم النمو والنهضة الاقتصادية ومقابلاتها في نظرتها الفلسفية للحياة يفسر لنا جانباً مهماً في أسباب ذلك النهوض أو ذلك التردي.

القيم والأعراف والمعايير والعادات الاجتماعية:
عندما يشكل التعلم والعمل والإبداع القيم العليا في مجتمع ما فإن ذلك المجتمع سيكون لا محالة في مصاف مجتمعات النمو والتقدم والازدهار. وبعكسه، عندما تسود قيم واعراف أخرى سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية وتتقدم على قيم العلم والعمل والإبداع فإنها لا محالة إلى تخلف وتدهور وضعف.
ان من يعيش في مجتمعات مزدهرة ومتطورة يقف على قيم وعادات وسلوكيات غيرها في دور التخلف والتردي الاقتصادي. كما أن أخلاق العمل وطموحات التفوق والشعور بمسؤولية التطور الدائم هي من خصائص تلك القيم وتفسيراتها.

الخصائص الأخلاقية والنفسية والسلوكية لأفراد المجتمع كجوانب ثقافية:
تشكل المنظومة الأخلاقية والسلوكية لأفراد أي مجتمع في العالم، بإعتبارها حالة ثقافية، القاعدة الأساس التي تقوم عليها أية نهضة أو نمو. إن مجتمعات النهضة هي مجتمعات تتميز عموماً بصفات الصدق والأمانة والكرامة والإباء والشهامة والنزاهة والإرادة والغيرة والطموح والشجاعة والنزاهة والدقة والإتقان، في حين تطغى صفات الكذب والغش والخيانة والجبن والوضاعة وعدم الأمانة والإختلاس والتزوير والفساد واليأس والقنوط والمماطلة والتسويف والتقاعس والخمول والظلم والشعور بالدونية في مجتمعات التخلف الاقتصادي.

ويبقى التساؤل قضية مشروعة: من المسؤول عن ذلك في بلدان وطننا العربي؟ وما هي أسبابه؟
باختصار شديد:
أنظمة سياسية وتربوية غير قادرة أو راغبة على نشر ورعاية ثقافة نهضة للحياة قائمة على إعتبارات قيم العلم والعمل والإبداع والأخلاق في قوانينها ورجالاتها.
وأنظمة اقتصادية ريعية مستهلكة للقيمة وغير منتجة لها، وأخرى متخلفة في قواها وعلاقاتها الإنتاجية وسيئة في إدارتها.
وأخيراً قوى بشرية محبطة ومتخلفة ثقافياً في تعلمها ومهاراتها ونظرتها الفلسفية للحياة وقيمها الإجتماعية.

أتمنى أن يفيق عالمنا العربي، الزاخر بتاريخه وموارده المادية والطبيعية، من سباته الطويل ويهجر قيم تخلفه ويتحلى بسجاياه الأخلاقية الأصيلة التي أعانته وتعينه على أداء دوره الإنساني الرائد بين الشعوب والأمم.

اترك تعليقاً