نزار قباني القصيدة العربية الغاضبة

د. بليغ إسماعيل

هو نزار توفيق قباني ولد في 21 آذار (مارس) عام 1923م، في دمشق، في حي مئذنة الشحم، عمل والده في صناعة الحلويات، وكان من الرجال الوطنيين في سوريا، درس نزار قباني في الكلية العلمية الوطنية حتى المرحلة الثانوية، وأثناء فترة دراسته تأثر بمعلمه الشاعر خليل مردم بك.

كان نزار واحداً من الطلاب الأذكياء، فقد اهتم بالأدب، والشعر العربي، وفي جامعة دمشق أكمل دراسته الجامعية في الحقوق، كانت بداية نزار قباني الشعرية مبكرة، إذ كتب قصائده الأولى في عام 1939م، وفي بداية مرحلة دراسته الجامعية تمكن من نشر ديوانه الأول (قالت لي السمراء)، ودفع تكاليف نشره من مصروفه الشخصي، وفور انتشار الديوان انقسم القراء، والناس بين المؤيدين، والمعارضين له، فكانت نظرة مؤيدي الديوان، أن نزار قباني تمكن من عمل نقلة شعرية حديثة، واستخدام لغة معاصرة. أما نظرة معارضي الديوان، فقالوا: أنه ليس إلا مجرد ديوان مليء بالكلمات غير الأخلاقية، والتي لا تناسب ذوق القارئ العربي، ولم يدرك معارضو الديوان أنهم ساهموا بطريقة غير مباشرة، في نشر الديوان بين الناس، والزيادة من مبيعاته.

كما واجه مشكلة عند نشره لقصيدة (هوامش على دفتر النكسة)، والتي كتبها لوصف الهزيمة العربية في حرب عام 1967م، التي اندلعت بين الجيوش العربية، وإسرائيل، ومنعت قصائده، وجميع مؤلفاته من التداول في مصر، ومُنع أيضاً من السفر إليها، فكتب نزار قباني رسالة إلى الرئيس جمال عبد الناصر، ليخبره عن ما حدث معه، وأنه حزين لمنع قصائده داخل مصر، مما جعل الرئيس جمال عبد الناصر، يوقف قرار منع سفر نزار قباني إلى مصر، والسماح لجميع مؤلفاته بالنشر مجدداً.

استمر نزار قباني بكتابة العديد من المؤلفات الشعرية، والنثرية، والتي وصلت لأكثر من 35 ديواناً، كما أن أغلب قصائده تم تلحينها، وغناؤها من قبل العديد من المطربين في العالم العربي.

بعد تخرج نزار قباني من جامعة دمشق، وحصوله على شهادة في الحقوق، التحق في عام 1945م في العمل الدبلوماسي، وكانت أولى مراحل عمله في القاهرة، والتي عاش فيها فترة زمنية طويلة، وانتقل بعدها إلى تركيا، ولندن، وبيروت وكتب فيها العديد من القصائد الجميلة. سافر قباني إلى الصين وأثرت بدورها على شعره تأثيراً كبيراً، وكانت آخر رحلاته الدبلوماسية إلى إسبانيا، وفي عام 1966م قرر اعتزال العمل الدبلوماسي، والتفرغ التام للعمل الشعري، وكتابة القصائد، وأسس دار نشر في بيروت، وعاش جزءاً من حياته فيها.

ولعل أسوأ ما حظي به شعر نزار قباني التناول النقدي الضيق الذي يوصف بالضعف حيث قصره على مناحٍ ومضامين لم يتجاوزها النقاد آنذاك، الحب والغرام وحالات العشق والغزل الصريح، وكأن من قدر نزار قباني النقدي أن يظل سجينا لمثل هذه المضامين التي ربما انقضت مشاهدها بظهور تيار الشعر الحر، واختفاء ملامحها نهائيا وقت بزوغ ما يعرف بقصيدة النثر.

حتى الشاعر ـ نفسه ـ يبدو أنه ضاق من تأويلات النقاد ليؤكد على أنه شاعر قصيدة والتزام، ونزار نفسه يعلن هذا التفرد وهذه الخصوصية الموجودة في شعره، وبيّن ذلك في سيرته النثرية حين قال: “إنني شاعر خارج التصنيف وخارج الوصف والمواصفات، فلا أنا حداثوي، ولا أنا كلاسيكي، ولا أنا رومانسي” ومن هذا المنطلق يمكننا أن نشير إلى صعوبة الموقف النقدي تجاه قصيدة نزار قباني. فهو عادة يكتب في اللاشعور الجمعي للرجل والمرأة على السواء دون استثناء، ويطبق هذا الوعي على المواقف السياسية، لذا يصعب على الناقد تطبيق العقد النقدية الموروثة والمكتسبة على نصه الشعري.

البحث عن الحرية

وشعر نزار قباني الذي تحتفل هذه السطور القليلة بذكرى رحيله اقتصارا على المشهد السياسي العربي المأزوم يمكن أن نرصده في ملامح متمايزة ومحددة، أهمها الحرية، فكل من يقترب نحو شعر نزار قباني يدرك حقيقة الحرية التي يحرص عليها وعلى نشرها بين الشباب العربي. بالإضافة إلى ملمح آخر مهم في شعر نزار قباني هو الإنسانية، لذا من الأحرى على أولئك الذين تعاملوا مع شعره من منظور نقدي مجرد أن يتخلوا عن الأسس النقدية الجامدة، ويعلوا القيم الإنسانية من جانب وداوني بالتي كانت هي الداء.

تعود شعري الطويل عليك

تعود أرخيه كل مساء

سنابل قمح على راحتيك

تعود أتركه يا حبيبي كنجمة صيف على كتفيك.

ولعل السمة الأكثر وضوحاً وتميزاً في قصيدة نزار قباني هي سمة الرفض، والرفض عنده رفض سياسي سرعان ما يستطيع تطويعه داخل النص ليصبح رفضاً اجتماعياً لكل ما هو موروث غير مكتسب بفعل التجربة ومحك المحاولة والخطأ، وتراه مجتهداً في تمزيق عباءة الموروث المهلهلة القديمة، يقول:

أرفض ميراث أبي ..

وأرفض الثوب الذي ألبسني

وأرفض العلم الذي علمني

وكل ما أورثني

من عقد جنسية

وأرفض ألف ليلة

والقمقم العجيب، والمارد،

والسجادة السحرية

أرفض سيف الدولة المغرور

والقصائد الذليلة الغبية.

ويظل نزار قباني بجوار الشاعر العراقي أحمد مطر بلافتاته يشكلان الملمح الثائر للقصيدة الغاضبة التي تبدو عبر صوت صاحبها رومانسية إلا أنها في واقع التناول شديدة الصلة بالبعد السياسي ليس الضيق الذي يخص وطنا بعينه بل هي قصيدة عربية التناول يمكن قراءتها بنفس النبرة الغاضبة من المحيط إلى الخليج، ولعل نزار قباني انفرد بخصوصية العلاقة بين الشاعر والقضية، بجانب انفراده وتفرده المطلق باستخدام لغة شاعرية تناسب الحدث لا يميل فيها إلى الوقع الجمالي فحسب، بل يتجاوز هذا الوقع إلى التحفيز بل والتبكيت أيضا من واقع عربي يعاني حسرة القرار.

يقول نزار قباني معبرا عن هذه الحالة في قصيدته الشهيرة “متى يعلنون وفاة العرب”:

أحاول رسم بلاد لها برلمان من الياسمينِ

وشعب رقيق من الياسمينِ

تنام حمائمها فوق رأسي

وتبكي مآذنها في عيوني

أحاول رسم بلاد تكون صديقة شعري

ولا تتدخل بيني وبين ظنوني

ولا يتجول فيها العساكر فوق جبيني

أحاول رسم بلاد

تكافئني إن كتبت قصيدة شعر

وتصفح عني، إذا فاض نهر جنوني

وها هو نزار قباني في ذات القصيدة يقر بواقع راهن لا يزال مستداما بل لا يمكن الفكاك منه أيضا، إذ يقول:

أحاول أن أتصور ما هو شكل الوطن؟

أحاول أن أستعيد مكاني في بطن أمي

وأسبح ضد مياه الزمن.

وأسرق تيناً، ولوزاً، وخوخاً

وأركض مثل العصافير خلف السفن.

أحاول أن أتخيل جنة عدن

وكيف سأقضي الإجازة بين نهور العقيق

وبين نهور اللبن ..

وحين أفقت اكتشفت هشاشة حلمي

فلا قمرٌ في سماء أريحا ..

ولا سمكٌ في مياه الفرات ..

ولا قهوة ٌ في عدن.

وإذا كانت الشعوب العربية قد استيقظت لبرهة قصيرة جدا على المشهد المتصدر بوكالات الأنباء العالمية حينما أقر وأعترف الرئيس الأميركي المضطرب أمام شعبه وهو يوقع وثيقة تبدو تاريخية للكيان الصهيوني وحده حينما منح حق اعتراف ضم الجولان السورية إلى المساحات التابعة لإسرائيل المحتلة الأراضي الفلسطينية، فإن شاعرنا العربي جلي الصوت نزار قباني قد تنبه مبكرا لكافة الإحداثيات التي تعقب حالات الصمت العربي صوب الممارسات الصهيونية سواء السياسية أو العسكرية، فنجده في قصيدة “حوار مع عربي أضاع فرسه” يقول:

لو كانتْ تسمعُني الصحراءْ

لطلبتُ إليها ..

أن تتوقّف عن تفريخِ ملايينِ الشعراءْ

وتحرِّر هذا الشّعب الطيّبَ من سيفِ الكلماتْ

ما زلنا منذُ القرنِ السّابعِ، نأكلُ أليافَ الكلماتْ

نتزحلقُ في صمغِ الرّاءاتْ

نتدحرجُ من أعلى الهاءاتْ

وننامُ على هجوِ جريرٍ ..

ونفيقُ على دمعِ الخنساءْ ..

ما زلنا منذ القرنِ السابعِ ..

خارجَ خارطةِ الأشياءْ

نترقّبُ عنترةَ العبسيَّ ..

يجيءُ على فَرَسٍ بيضاءْ ..

ليفرِّجَ عنّا كربتَنا ..

ويردَّ طوابيرَ الأعداءْ ..

ما زلنا نقضمُ كالفئرانِ ..

مواعظَ سادتِنا الفقهاءْ

نقرأُ (معروفَ الإسكافيَّ) ..

ونقرأُ (أخبارَ الندماءْ).

وربما لا أجد ختاما لسطور أبعثها في ذكرى رحيل شاعر العرب في القرن العشرين الدمشقي نزار قباني تعقيبا للمشهد السياسي الهزلي بطبيعة أصحابه أعني الاعتراف بضم الجولان السورية للكيان الصهيوني سوى أبياته الرائعة بقصيدته الماتعة “منشورات فدائية على جدران إسرائيل” تأكيدا بأن الجولان عربية رغم محاولات بائسة، وأن سوريا التي تبدو جريحة حرب علّها تستفيق لحظة لواقعها الأليم، يقول نزار قباني:

لن تجعلوا من شعبنا

شعبَ هنودٍ حُمرْ ..

فنحنُ باقونَ هنا ..

في هذه الأرضِ التي تلبسُ في معصمها

إسوارةً من زهرْ ..

فهذهِ بلادُنا ..

فيها وُجدنا منذُ فجرِ العُمرْ

فيها لعبنا، وعشقنا،

وكتبنا الشعرْ ..

مشرِّشونَ نحنُ في خُلجانها

مثلَ حشيشِ البحرْ ..

مشرِّشونَ نحنُ في تاريخها

في خُبزها المرقوقِ، في زيتونِها

في قمحِها المُصفرّْ.

.