الشّاعرة إيمان العُذري تحملُ اليمنَ على أجنحةِ قصائدها

.

موسى الزعيم

 يسعى الشاعر العربي دائما  أنّ يكون دائماً صوت أمّته، ناقلاً لتراثها ملتقطاً دررَ جمال الحياة فيها، وبإحساسه الرهيف وملكته اللغوية وموهبته، يرسمُ صوراً جميلةَ عن الماضي وللمستقبل، والشعر تأصيل للجمال على شواطئ الحياة، نبذ للقبح، وصرخةُ تقلقُ وجدان الغافلين، فالشاعر يغرسُ في وجدان الأجيالِ شتلاتِ الحبّ والجمال عبر صحائف الكلمات يستشعر بحساسيته أوجاع وهموم أمتهِ ومجتمعهِ، يحلّق بنا عالياً، يحاول أن يسقينا ماء أنقى أعذب.

وعبر سهوب الايقاع وعلى متن أجنحة موسيقا تفعيلاته، وعبر خلجاتِ الايقاع الدّاخلي لجملته الشعرية، يحملنا إلى عوالم مختلفة، ربّما أكثر سموّاً وجمالاً مما نعيشه. 

والمشارب الفنية للشعراء كثيرة، فمنهم من تستهويه الأصالة والتراث حيناً فتراهُ ينسجُ على منوالِ الأقدمين، ومنهم من يشدّه تيار الحداثةِ والتّجريب حيناً آخر، فيسير في ركب المجدّدين ويقتفي أثرهم، أحياناً يحاولُ التمرّد على أنماطٍ شعريّة ومدارس لم تثبت قواعدها بعدُ، رائدهُ في ذلك التّجريب لكنّ المغامرة تستهويه لإبداعِ نصٍّ مختلف.

ولما كان للشعر العربي اليمني مكانتهُ في ديوان الشّعر العربي عامةً ،فقد واكبَ الشعراء اليمنيون حركة تطوّر الشّعر العربيّ، من بداياته ولعلنا نذكرُ في هذا السياق بعضاً من  أسماءِ الشّعراء العرب اليمنيين من مثل محمد عبده غانم وسعيد جرادة  وغيرهم ممن واكبوا حركة التجديد  في الشعر العربيّ، وصولاً إلى الشّاعر العربي الكبير عبد الله البردوني وعبد العزيز المقالح وغيرهم من الذين ساروا في ركب  الحداثة الشعرية  عبر مراحلها وانتقال الشّعر من العمود إلى التّفعيلة بداية.

ولعلي انتبهتُ متأخراً إلى أننّي لم اقرأ يوماً لشاعرةٍ يمنيّة ـ وهو تقصير مني ولاشكّ ـ  ولعل حصولي على ديواني الشاعرة  الدكتورة إيمان حميد العذري جعلتني انتبه إلى هذا التقصير، الذي ساقني إلى البحث في المكتبة العربية عن دواوين شعريّة وأسماء شاعراتٍ يمنياتٍ لهن حضورهن في المشهد الثقافي اليمني خاصةً والعربي عامةً ..

والشاعرة إيمان العُذري من الأصوات الشعريّة التي تمثّل الجيل الجديد في اليمن، وهي تمثّل تجربة جيلِ اعتلى صهوة قصيدة التّفعيلة في بداياتهِ الشعريّة ،إلاّ أنّ  الشاعرة لها إيقاعها الخاص في القصيدةِ العموديّة أيضا ً.

 فقد زاوجت بين الحالتين في قصائدها بين نسيج القصيدة العمودية وفخامتها وإيقاعها الرزين  وبين رشاقة قصيدة التفعيلة وحركيتها، والتي أصرت فيها على أن يبقى إيقاع التفعيلة بادي الصوت داخلياً وخارجيا  حاضر الموسيقا.  

 ففي قصائدها خصوصيّة شعريّة، وسمة طبعتْ لغتها بها، من حيث البساطة والسهولة والإيقاع الرشيق والموسيقا الداخلية للنص.

  الشاعرة رغم قلّة إنتاجها الأدبي إلاّ أنّها في هذه القلّة مجوّدة، فلا تخرج القصيدة من بين يديها إلاّ بعد أن تشبعها مراجعةً وتدقيقاً، تعطيها الوقتَ الكافي لتختمر في وجدانها الصافي  فتجد أغلبَ قصائدها مُحكمة السّبك، متينة النسج، هذه للتجربة الشعريّة  للشاعرة العذري  تمخّضت عن ديوانين شعريين: الأول  يحملُ عنوان ” لربّما آنستُ ناراً ” والثاني بعنوان  “سجود في محاريب النّصر”

  يقول الشّاعر الدكتور عبد العزيز المقالح في مقدمة ديوان ” لربّما آنستُ نارا ً  ” إيمان حميد العذري قد أنستْ نارَ الشّعر واقتبستْ جذوتها الأولى من توهّجه الجميل .. الديوان  الباكورة  المُدهش الذي لا يمكن أن تهتدي إلى مثله سوى موهبةٍ شعريّة خلاّقة  وواعدة”.

على صعيد الموضوعات: يشغل الشّاعرة في الديوان الأوّل هموم وقضايا الأمّة العربيّة  فلبغداد وأمجادها ومواجعها حصّة من قصائدها، وللقدس و مكانتها ومعاناتها  أيضاً حصّة من وجدانها العربيّ الأصيل كأصالة اليمن.

كذلك تركّز الشّاعرة على القضايا الإنسانيّة والاجتماعيّة،ذ  في حين تفسحُ للتأمل حيّزاً من قصائدها، فتحاول الشّاعرة أن تكون قريبةً من الناس في اختيار موضوعات قصائدها تعالج الهمّ العام والخاص، تلامسُ قلوب النّاس بوجدانها الشّعريّ.

 أما الشّعر وهمومه، ومكانته وما آلتْ إليهِ حالهُ، فلهُ ما لهُ وعليهِ ما عليهِ من حصّة العتاب للشعراء أو المتشاعرين.

  تفتتح ديوانها الأوّل بقصيدة (شعر الزّمان) والتي تحمل بين أبياتها عتب شاعرٍ محبّ عاشقٍ لعروبته وأمته ولغته خبير منقّب يفرش الحكمة على بساط الشعر، فهي ترى  كثرة الذين يحاولون امتطاء مُهر الشّعر الجَموح  بطريقةٍ أو بأخرى ..وما أكثر من رصف الكلامَ رصفاً أو أرعدَ ولم يُمطر، حتّى غصّت وسائل التّواصل بمئات الآلاف من الشّعراء حتّى غدا البعض منهم غثاءً أو سراب يحسبه القارئ شعراً

 فتقول: في قصيدة  شعر الزمان  

نفسي القصيدة والزّمان  الشّاعر                      هل يستوي الموهوبُ والمتشاعر؟     

هو شـــاعرٌ لكــنّ كلّ عروضه                          مختـــلّة الأوزان حُبــــلى عــاقر

 في قصائدها تستلهم الشاعرة الموروث الديني والثقافي، و تحاول الاستفادة منه والاتكاء عليه، وبما يحمله هذا الموروث الرّمزي من مُعطى تراثيّ حكائيّ ارتبط بالذاكرة الجمعيّة السرديّة العربيّة وتشكّلت عليهِ عتباتٍ نصيّةٍ سرديّة وشعريّة كثيرة ،كقصّة يوسف عليه السّلام  وأهل الكهف، ويعقوب، وبلقيس، وقصّة الفيل، ومسجد قباء و القلّيس والقصواء  والقدس و طارق بن زياد وغيرها  والتي استفادت الشّاعرة منها في نصوصها، ووظفتها شعريّاً واستفادت منها للمقاربة بين ما حدث في الماضي وما يحدث الآن ربّما يكون فيها دروسُ وعبر واستنهاض للهممِ.

وكذلك توظيفها والاستفادة من هذه الموروثات في تكوين أرضيّة نصّها الشّعري ومدّ مهاد الخيال فيه عبر تلك السّرديّات المرتبطة بالذاكرة العربيّة.

وكذلك حاولت المقاربة بين الإلياذة في التراث الإغريقي بملاحم العرب في إشادة منها إلى تلك الملاحم .

من جهةٍ أخرى فإنّ الهمّ القوميّ يشغل الشاعرة ويقلقها، فتضّفرَ جدائل قصائدها، وتطلق صرختها معبّرة عن خوفها وقلقها لحال العروبة، وحال العرب، تسيرُ على دربِ زرقاء اليمامة في صرخة تحذيرها واستشراف الخطرِ القادم، إن بقي العرب على حال ضعفهم وتفرقتهم  فتقول:في قصيدة ماذا أقول ؟

ماذا أقول مللت الآه يا وطناً             نفسي فداه قد استشرى بهِ الألمُ

أرى العروبة  يا قومي ذوت وأرى      مجد  العروبةِ قد أودى به الهرمُ

أرى القداسة في القدس الشّريف بكت       ولاحَ ومضٌ بعينها هو الحلمُ

 كذلك تعبر عن ألمها وخيبتها في قصيدة حزينة لما حلّ بالأمة وبأمجادها الضائعة  فتقول مستلهمة الرمز العربي البطل فاتح الأندلس طارق بن زياد  في قصيدة “دموع ابن زياد “

خلّ الترنّم يا فؤاد ونادِ           ضاعت مآثرنا مع الأمجادِ

كأسُ العروبة بالمهانة مترعٌ      تنداح منه مقابر الأعيادِ

ما لي أرى أطلال عزّ داثرٍ         تمحوه دمعة طارق بن زياِدِ

أمّا على صعيد القضايا الاجتماعيّة، فقد تناولتْ الشّاعرة عدّة قضايا لها أبعادها الإنسانية والاجتماعية، حاولت فيها أن تكون أمينةً صادقةً في نقل أحوال النّاس من حولها، وحاولت جاهدةً رصد انفعالاتهم من حولها، كذلك نرى في قصائدها صور متنوعة لحياة الناس في اليمن وصراع الإنسان من أجلِ الخير والعدالة والحريّة والكرامة  وغيرها من القيم النّبيلة  فكتبت مجد الحزن، وقصة غريقٍ، وقصائد خرساء، ومكابرة، وغيرها من القصائد التي تلامسُ قلوبهم.

ففي قصيدة (يتيم بين أبويه) ترصد بعين الأم الواعية حالة اجتماعية صعبة قد يراها الكثير منّا لكنه لايغوص في تفاصيلها الدقيقة وانعكاساتها النفسيّة خاصةً إذا اختلفت المُسلَّمات  فعادةً يرتبط مصطلح اليتم في أدبياتنا بمن فقد أحد أبويه، أو كلاهما أما في القصيدة تعالج الشاعرة القضيّة من زاويةٍ مختلفةٍ فالأمّ والأبُ على قيد الحياة، والطفل يتيم الوقت والمعاملة والحنان بين شطري والديه .

 فتقول منطلقةٍ من سؤالٍ يسبر غور الإنسان، ويكشفُ عن الظلمِ المخبوءِ بين ضلوعه

 طفل تبنّته السّماء \ يا ليتَ شعري \ هل يكون الظلُّم من طينً وماء؟!

طفل تبنته السماء\ وما درى.. \ أأبوه تيهٌ في الحياة يُظلّه\ أم أمّهُ كالجرح ينكأهُ العناء\ تركاه يحضنهُ التّألّمُ \باكياً\ قلقاً\ يهدهدهُ العياء.

أمّا في الديوان الثاني (سجودٌ في محاريب النصر) فتبدو تجربة الشاعرة الشّعرية قد اغتنتْ أكثر واختمرت، وتألقت، ففي هذا الديوان تبدو لغتها أكثر شفافيةً والجملة الشعرية غدت أكثر عمقاً، ومشحونة بلغةٍ عاطفةٍ عالية التركيز، فهي تبحثُ دائماً عن اللفظة المشحونة بالعاطفة أو ذاتَ الحمولةِ الوجدانيّة الكبيرة، لعل حدثا مهما ً يظهر بين ثنايا قصائد الديوان له الحصّة الكبرى من وجدانها  فيلاحظ  القارئ لهذا الديوان كمّ الحنين والحزن والرقّة   واللغة الشفيفة التي تعبق بها القصائد الموجهة لأمّها المريضة، و التّي رحلتْ وتركتْ أثراً في نفسها وجرحاً غائراً ينزفُ شعراً، كيف لا وهي الأقربُ إلى روحها فترثيها بأرقّ وأعذب الكلمات ومن هذه القصائد التي حفل بها الديوان، قصيدة شواطئ الأنين، والتي أهدتها لأمها المريضة، وقصيدة لأجلك التي أهدتها إياها في عيدها، وكذلك قصيدة حنين  

تقول في قصيدتها (ورحل الملاك)

يا نفسُ روحي بالهُدى وصيّها                       عن انفجاعِ القلبِ لا تسليها

ما كنتُ أعلمُ أن عين قصائدي                         يوماً ستذرف أحرفاً ترثيها

 أماهُ قد عزّت دموعي عندما                      عظُم المُصاب وعزّ من يشفيها

 من جهة أخرى وعلى صعيد تقنية الكتابة، تحاول الشّاعرة دائماً الاتكاء على الموروث الديني في قصائدها، بحيثُ أنّ هذا الموروث يرتبط مباشرةً بخيال النّاس، وقد لجأت الشاعرة إلي السرديات الدينية والقصص القرآنية من مثل قصّة النبي يوسف عليه السلام حيث تعتبر الشاعرة أن  النصر المعنوي مرتبط بقدرة الإنسان على تخطّي الظروف والعتبات، ليس الخارجيّة، فقط وإنّما تلك التي تخالج نفسه، ليصل في المحصّلة إلى النصر الحقيقي الذي ينبع من ذاته أولاً وأخيراً، والسجود لله شكراً على ذلك النّصر، كما في قصّة يوسف وانتصار الحقّ  في نهايتها وتخطي الصعاب التّي مرّ بها يوسف والتي كانت دروساً لكلّ البشر.

صبرٌ جميلٌ/ مهما أبحتمْ زرع أشواكِ

 المنايا في يديه.

مهما أتيتمْ بالدّم الكذّاب يرثي مُقلتيه

 لن تقتلوه.

الجُبّ لقّنهُ امتشاقَ الصّبر/ في وجه السّنان/

 والسّجن أطلق روحه المأسور/ علمه البيان.

بينما في قصيدة أخرى تستلهم الشّاعرة أيضاً قصة أهل الكهف لتنسج من ظلال حكايتها قصيدتها التي تتحدّث عن عروبةٍ مُضيّعةٍ، ومجدٍ لم يعد محفوظاً إلاّ في بطون الكتب ومجلدات التاريخ .

 في القصيدة تحاول الشاعرة الاتكاء على اللفظ ذاته المستخدم في النص القرآني ، للدلالة وترصيع قصيدتها بهذه الألفاظ التي جعلتها محوراً تدور حوله مقاصد القصيدة ودلالاتها  مثل الورِق، الكهف، الكلب، الوصيد، ضربت آذان، الرقيم، يبسط كفيه.

 مستخدمة لذلك إيقاعا خفيفاً سريعاً سهلاً..

تقول في قصيدة أهل الكهف 2

 في الكهف أقامتْ غربيتنا/ تذرفُ آلامَ المغتربِ/

 ورقيمٌ سجّل خيبتنا/ بالاسمِ الأوّل والّلقب/

 والورِقُ أضعنا قيمتهُ/ مابينَ الغفلةِ واللّعبِ.

على صعيد الايقاع و الموسيقى، تسعى الشاعرة دائماً إلى استخدام الايقاع الموسيقي الدّاخلِي في قصيدتها، بحيثُ يتناغمُ الايقاع الداخلي مع موسيقا البحر الشّعري، ليشكّل مقطوعةً موسيقيةً عابقةً بالجمال، من حيث اللفظة الشّعريّة المنتقاة والتي تحملُ الايقاع و الإحساس معاً .

ومن الملاحظ أنّ الشّاعرة تستخدم دائماً اللفظة السهلة، المشبعة بالإحساس، والجملة الشعريّة المشحونة بالعاطفة.

يُذكر أنّ الشاعرة الدكتورة إيمان حميد العذري من مواليد اليمن مدينة صنعاء، حاصلةٌ على الدكتوراه في اللّغة العربيّة وآدابها من جامعة عين شمس، تخصصِ اللّسانيات، وعلم

الخطاب وقد حصلت على الماجستير من جامعة صنعاء أيضاً.

كما حصلت على جائزة جامعة صنعاء المركز الأول في مجال الشّعر، وهي عضو في رابطةِ الآدابِ الإسلاميّة العربيّة، شاركتْ في كثيرٍ من الفعاليّات والأنشطةِ الثقافيّة والشّعريّة في اليمن، نشرت قصائدها في الصحف المحلية، والمجلات العربيّة، وقد تمّ تلحينُ عملين من أعمالها الشّعرية ، وهي تحضّر الآنَ لإصدارِ ديوانها الشّعريّ الثالث، تقيم حالياً في برلين.

………………….

ربما آنستُ ناراً :صدر عن وزارة الثقافة والسيّاحة اليمنية

سجود في محاريبِ النّصر:صدر عن الهيئة العامّة للكتاب “ناشرون” صنعاء.