شاهد على الثقافة والاندماج في ألمانيا

د. جون نسطة    ـ    د. حامد فضل الله    ـ    د. طارق الزعين

.

حوار: موسى الزعيم

كثيرةٌ هي الشخصيّات التي اشتغلتْ على الفعل الثقافي العربيّ خلال تواجدها الطويل في ألمانيا .. حاولت أنْ تؤثّر وتتأثّر بالثقافة الألمانية، وأن تكون جسراً بين الثقافتين وشاهداً على مرحلةٍ طويلةٍ تمتد إلى أكثر من نصف قرن.

من هذه الشخصيات التي التقيتها في برلين، ثلاثة أطباءَ عربَ لهم حضورهم في المشهد الثقافي والفكريّ، ما يزالون يشرفون على تنظيم الفعاليات الثقافية والفكرية …. حاورتهم في قضايا الثقافة والاندماج ..

الدكتور جون نسطة:

طبيب من مواليد سوريا يقول عن ذكرياته الأولى في ألمانيا: قدمنا إلى مدينة لايبزيغ مجموعة من الطلاب السوريين في العام 1960، وقمنا بتأسيس أوّل رابطةٍ طلابيّةٍ في جمهورية ألمانيا الديموقراطيّة، وكنّا نقوم بتنظيم حفلةٍ سنويةٍ بمناسبة عيد الجلاء في17 نيسان، ندعو أساتذتنا وزملاءَنا الألمان من كافّة الكليات التي ندرس فيها، وكان برنامج الحفلة يضّم كلمة باللغة الألمانية، تعرّف بالذكرى، بعدها نقدّم بعض الأناشيد الوطنية، ثم عزف موسيقي منفرد، أو جماعي.

كانت الأنشطة الموسيقية تتمّ تحت إشراف الموسيقار “نوري رحيباني” الذي درّس في المعهد العالي للموسيقا في لايبزيغ.

وقد ألّف العديد من المقطوعات الكلاسيكية الكاملة، التي عُزِفت على مسارح ألمانيا، ودار الأوبرا في دمشق، وحاز لقب قائد أوركسترا، كما درّس الموسيقا كمهنةٍ في عدّة مدارس، ونال وسام الاستحقاقِ الألمانيّ من الدّرجة الأولى، قدمه له رئيس جمهورية ألمانيا، وبهذا يكون خيرُ مُعرّف بالثقافة العربية.

من الشخصيّات الأدبيّة التي كانت معنا أيضاً الشاعر الدّمشقي عادل قره شولي، الذي أصدر أوّل ديوان له باللغة الألمانية عام 1961بعنوان (Wie Seide aus Damaskus) ثم أعقبه دواوين أخرى باللغتين، وتقام له في طول ألمانيا وعرضها أمسيات شعرية، أعطته مدينة لايبزيغ لقب مواطن فخري، ونال وسام الاستحقاق الألماني من الدرجة الأولى.

أمّا في الفنّ التشكيليّ لابدّ من ذكر اسمين لامعين في سماء ألمانيا كلّها.

الفنان “ابراهيم هزيمة” الذي تَربطني به علاقة صداقة قوية، أقامَ عشرات المعارض في العديد من مدن العالم، يُقيم حالياً في برلين وهو فلسطيني سوري، وهو من صممّ أوّل طابع بريدي لدولةِ فلسطين..

والفنان السوري “مروان قصاب باشي” الذي كان مدّرساً للفنون الجميلةِ في جامعات برلين، وكان اسماً شهيراً في عالم الفنّ التشكيلي.

ولا أنسى أيضا ً الرسام التشكيلي الفلسطيني الصديقُ “أحمد شمّا”

وعلى نطاق الأدب يلمع اسم رفيق الشامي “اسم مستعار” كونه من المعارضين للنظام السوري، ويعتبر من أشهر الأدباء في ألمانيا وكتبهُ الأكثر مبيعاً.

هذه بعض الأسماء اللامعة من أصدقائي الذين تركوا آثارهم في الثقافة الألمانية.

أمّا من المؤسسات الثقافية العربية، الأكثر نجاحاً واستمراراً، مؤسسة ابن رشد للفكر الحرّ. لقد تشرفت بأن أكونَ الرئيس الثاني لها، لمدّة تسعةِ أعوام، وقد أخذتْ على عاتقها تكريم شخصيّاتٍ ومؤسساتٍ عربيّةٍ، ساهمتْ وتساهمُ في نشرِ الفِكر الحرّ والوعي العلمي للنهوضِ من حالة التخلف، وذلك بتقديم جائزة سنوية في حفل كبير يقام في برلين، وتعمل أيضاً على تنظيم مُحاضرات وورشات عمل، بمشاركة المثقفين الألمان والعرب.

وتحتضنُ برلين أيضاً “مُنتدى الثقافة العربية” والذي أترأسُ هيئتهُ الإداريّة منذُ عدّة دورات وإلى الآن، نقومُ بتنظيم أمسياتٍ ثقافيّة، موسيقا، غناء، بالإضافة إلى المحاضرات لمثقفين عرب.

وفي السنوات الأخيرة، وقبل جائحة كورونا، قمتُ بتقديم بعض الشخصيات الثقافية السورية التي جاءتْ حديثاً، بصفةِ لاجئ منهم الممثل الفنّان عبد الحكيم قطيفان، والروائي السوري نهاد سيريس، وعالم الاجتماع جاد الكريم الجباعي.

ولا بدّ من ذكر أسماء تدعمنا على النطاق الفنّي في منتدى الثقافة العربية، المطرب الدكتور بهاء الخيلاني والمطرب الفنّان عبد القادر أصلي، الذي يُقيم حفلاً طربياً شهرياً في برلين.

من دفعات الهجرة الجديدة يبرز أسماءَ فنانين ومثقفين شباب، نالوا الشهرة منذ البداية، مثل عازف العود الفنان نبيل الأربعين، والشاعرة الشابة لينا عطفة، والذي ترجم لها ديوان إلى الألمانية ومحمد ملاّك والروائي والصحفي الأستاذ نبيل الملحم، المقيم حالياً في برلين وغيرهم الكثير من الأسماء الشابة التي أغنت المشهد الثقافي العربي في ألمانيا.

الدكتور حامد فضل الله

طبيبُ اختصاص سودانيّ، يعيشُ منذُ فترةٍ طويلة في ألمانيا، تتركز أبحاثُه ونشاطُه حول حقوق الاِنسان، ومشاكل اللاجئين وقضايا الاندماج، وهو كاتب وقاص، صدر له “أحاديث برلينية، حول قضايا أوروبا والاِسلام وفي الأدب والفكر، ومجموعة قصص قصيرة، وكتاب مشترك لمجموعة كتّاب سودانيين باللغة الألمانية.

شارك في تأسيس وإدارة العديد من منظّمات المُجتمع المدنيّ، منها مركز علاج ضحايا التعذيب، منظمة حقوق الإنسان في الدول العربية (أومراس) ومنتدى حوار الشرق والغرب وعضو في مجلس الأمناء في المنظّمة العربية لحقوق الاِنسان، ومؤسسة ابن رشد للفكر الحرّ.

وهو عضو الملتقى العربي للفكر والحوار والثقافة، مازال يشرف على تنظم المحاضرات والندوات، ويدير الحوارات بين المثقفين الألمان والعرب من خارج ألمانيا وداخلها.

ومنظمة “حوار الشرق والغرب” كانت تتوجّه وتخاطب الجمهور الألماني وتقدّم المحاضرات باللغة الألمانية.

وهو عضو في المنظمات السودانية مثل الجالية السودانيّة والنادي السوداني والجمعية الأدبية التي هي تقليدٌ قديمٌ في الحياة السودانيّة، يشارك في هذه الجمعية البرلينية كثيرٌ من السودانيين منهم الكاتب “أمير حمد ناصر والشاعر صلاح يوسف” وقد استضافت الأديب الكبير الراحل (الطيب صالح) الذي تُرجمت أعماله إلى الألمانية، والروائي المصري صنع الله إبراهيم والعديد من المفكرين العرب.

من القضايا التي يشتغل عليها الدكتور فضل الله قضيّة الاندماج فحسب رأيه: فقد مرّ وقتٌ طويلٌ حتى تقتنعَ ألمانيا ” شعباً وحكومةً، بأنّ بلدهم أصبح بلد مهاجرين”. فالاندماج عملية طويلة ومتشابكة، إذ أنها تتمّ بين إنسان وُلِد في مجتمع آخر بلغة وثقافة وعادات وتقاليد وربما طقوس دينية أخرى، ثم انتقل للعيش في مجتمعٍ جديدٍ مختلفٍ تماماً.

من جهة ثانية تبدو سهولةُ أو صعوبةُ الاندماج بقدرِ التباين الموجود بين الأفراد والجماعات القادمة إلى المجتمع الجديد، وذلك من حيث المستوى التعليمي، طالب أم عامل والثقافي والمكاني، ريف أم مدينة، من بيئة غنيّة أم فقيرة وغيرها من الفروقات.

ولكن الملاحظ أنّ هذه الاختلافات لا تُؤخذُ بعين الاعتبار من جانب المسؤولين عن عملية الاندماج في المجتمعات الأوروبية.

من جهةٍ أخرى يجبُ التصدّي لبعض ما يُصدِره الكتّاب العرب باللغة الألمانية، هدفه تشويه العرب والتشويشِ على وجودهم حيثُ يستشهدون بالآيات القرآنية الكريمة أو الأحاديث الشريفة، يفصّلونها من سياقها أو يدمجون بعضها (ترقيع) قصداً ليبرهنوا بها على أفكارهم المُسبقة، وبذلك يقدّمون صورة خاطِئة عن الإسلام، والعرب مما ينعكسُ في تصوّر الألمان على ثقافتنا وحضارتنا، فعندما تقول إحدى المُسلمات والتي تحصدُ الجائزة تلوَ الأخرى “بأنّ القرآن ليس رسالةً إلهيّة، وإنّما تّم تأليفه بعد وفاة الرسول محمد ب 150 عام ” وأن ينشر هذا الحديث في صحيفةٍ ألمانيةٍ واسعةِ الانتشار، كلّ ذلك من أجلِ الشهرة والنجومية.

عندما يصرّح ألمانيّ من أصلٍ عربيّ يعيش منذ أكثر من ثلاثين عاماً في ألمانيا وصار أستاذاً للعلوم السياسية في إحدى جامعاتها وأصدر أكثر من عشرين كتاباً، ونال أرفع الأوسمة من الدولة الألمانية وله حضوره في وسائل الإعلام “خبيراً ومحللاً وناقداً ” بأنّه عاجزٌ عن الاندماج في المجتمع الألماني” وأنّه قرر الرحيل إلى أمريكا لأنّه هناك سوف يشعرُ بقيمتهِ، ومكانتهِ كما يتصوّر، وهو الذي وصل إلى مركزهِ المرموق!! في ألمانيا عن طريق الهُجوم على العرب، والتفاخر بعلاقته مع بعض السياسيين الإسرائيليين – فهو في الواقع لا يقول الحقيقة – هنا يمتزج الطموح الشخصي البغيض والخلافات وسط الأكاديميين. لينعكس في مثل هذا السلوك المَرضي.

مثل هذه التصريحات الفارغة والغير مسؤولة، توجّه ضربةً قاسيةً لكلّ المُخلصين من أبناء الجاليات العربية، الذين يعملون بإخلاصٍ من أجل تحسينِ أوضاعِ الوافدين، وتذليل الصعاب التي تقف حجرَ عثرة في طريق اندماجهم.

يتساءل فضل الله عن ذلك المفكر لماذا لا يغادر ألمانيا؟ ما دامَ يشعرُ بالغبنِ، ولكنه يريدُ أن يبقى سنوات أخرى، لضمن معاشهُ بالكامل، ثمّ يذهب إلى أمريكا ليقتات من جديد!!

من المهم تبيان أنّ العربَ يحترمون القيم والمفاهيم التي أفرزتها الحداثة الأوروبية، فهي قيم إنسانية مشتركة، فالغالبية تودّ أن تعيشَ وتشعر وتشارك في المجتمع كقوةٍ فاعلةٍ مع التمسك بتراثها وثقافتها كسائرِ ثقافاتِ الأقليات إثراءً لمجتمع الأغلبية.

من جهة أخرى يستخدم بعضُ المفكرين والسياسيين الألمان تعبيرَ (الثقافة القائدة) والتعبير يعود إلى المُفكر بسام طيبي (ألماني من أصل سوري) واصفاً “الثقافة الأوربيّة بالقائدة” معتمداً في ذلك على قيم الإجماع للديمقراطية الغربية.

في حين يستخدمه الألمان لتأجيج المشاعر القومية عندما يتحدثون به عن ثقافتهم، أحياناً بنبرة “خافتة” مثل العضو البارز في الحزب المسيحي الديمقراطي Friedrich Merz مبرراً بها رفضه لمفهوم المجتمع المتعدد الثقافات.

أو من يتحدّث بصورةٍ “صارخةٍ” مثل أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة برلين الحرّة سابقاً “Arnulf Baring ” بقوله ليس المطلوب هو الاندماج وإنّما الألمنة (Eindeutschung).

بالمقابل هناك شخصيّات متميّزة، تدعو من موقعها الاجتماعي ومسؤوليتها الأخلاقية إلى انفتاحٍ عقلانيّ على الآخر واندماجٍ متبادل.

تقول السيدة “Jutta Limbach ” رئيسة معهد جوتة حالياً “علينا إبعاد مفهوم الثقافة القائدة عن التداول، لارتباط معناه بالتّعالي القوميّ ” ويقول الناشر Navid Kermani الجميع سواسية أمامَ القانون، ولكن ليس كذلك في حالة “الثقافة القائدة”.

علينا ألا نترك للإعلام الغربيّ ولا لنفاق بعضِ السياسيين أن يختزلوا أزمة الاندماج في قضيّة غطاء الرّأس (Kopftuch) أو في الإرهاب الذي تمارسه حفنة صغيرة “مُدانة بقوة” فأزمة الاندماج ليست – قضيّة أمنية – ولا تُحلّ بأن تقدّم خطب المساجد باللغة الألمانية.

إنّ ازدواجيّة المعايير أدّت إلى أزمة الاندماج والتي أدّت بدورها إلى الأوضاع السياسية والاجتماعية التي يعاني منها المهاجرون، إضافة إلى المشكلات التي يجلبونها معهم من بلدانهم.

الدكتور طارق جمال الزّعين

من مواليد العراق 1942 قَدم إلى ألمانيا طالباً في نهاية الستينات لدراسة الطّب ثم عاد إلى العراق، عمل أستاذاً جامعياً في الجراحة العصبيّة في كليّة طب جامعة بغداد من عام 1990 حتى 2003 عاد إلى ألمانيا في 2015

نشرَ العديد من المقالات العلميّة والطبيّة بالعربيّة والألمانيّة والإنكليزيّة، كما أشرفَ على عشراتِ أطروحاتِ الماجستير والدكتوراه، تابعَ نشاطه الثقافي والعلمي في برلين وهو استشاري في الأمراض العصبيّة، ونائب رئيس الجمعيّة الطبيّة العربيّة الألمانية ومشارك في نشاطاتها العلمية، والتدريسية في فلسطين.

رئيس تحرير مجلّة الشراع العربي الثقافيّة والعلميّة والتي يُصدرها شهرياً منذُ ما يزيد على ستّ سنوات.. وعن فكرة المجلّة يتحدّث الدكتور طارق قائلاً: فيما قبل كان هناكَ عدد من المجلاّت التجاريّة والإعلانية فيها بعض المقالات الثقافية والسياسيّة، يُصدرها أفرادٌ أو مراكز رسميّة ألمانية باللغة العربية.

الشراع: فكرة عمل تطوعي مجّاني نقومُ به مع مجموعة من الأصدقاء القدامى هنا منهم الدكتور “نزار محمود، أحمد حلواني، طارق حيدر العاني وضرغام الدباغ وغيرهم ” تصدرُ المجلّة على شكل ملفّ pdf   أقوم بتحريرها بشكل شخصيّ وتُرسل عبر البريد الالكتروني للمشتركين وعددهم تقريباً أكثر من 400 مشترك لكننا نعتقد أن عدد القراء يزيد نتيجة تداول ملفّ المجلة بين الأصدقاء..  

في مقالاتنا نحن بعيدون عن السياسة، نحاول دائماً أن تكون موضوعاتنا بين الثقافي والبحث العلمي، بحيث تكون المجلة جِسراً تعرّف القارئ بما يكتب هنا معرفياً وثقافياً وما وصلت إليه الأبحاث العلميّة في أوربا -أقصد بين الشرق والغرب- وكتّابنا من كافة أنحاء الوطن العربي وألمانيا، نحاول أن تكون طروحاتنا شراعاً ثقافياً يصلُ بين المهاجرين ووطنهم الأم “فعددنا في الشهر القادم سيكون عن الأدب المهجري”.

قديماً لا أتذكّر سوى صدورِ بعضِ الكتبِ الأدبية والثقافيةِ باللغة العربية في ألمانيا.

أمّا بعد قدوم الوافدين الجُدد، فقد تبدّلت المُعادلة حدث تغير كبير في بنية الثقافة العربية هنا، وخاصة على صعيد التواصل العربي الألماني، بحيث أصبح المهاجر والقارئ العربي يهتم ويتفاعل مع هموم الهجرة سلباً أو ايجاباً، كذلكَ يجبُ ألاّ ننسى المترجمين الأوائل وما قاموا به من جهدٍ في نقلِ المعرفةِ وساهموا في رسم الصورة الحقيقية عن الثقافة العربية.

.