خواطر من برلين

 

 

لمياء مشعل، المعهد الثقافي العربي برلين

 

 

 

على هذه الارض ما يستحق الحياة

ألف رحمة وتحية لشهداء الأرض وأسرى الاحتلال…

لكل أشجار الزيتون التي بقيت شامخة والتي أقتلعت ولم يقتلع إخضرارها من القلوب…

لكل البيوت التي هدمت وبقيت حجارتها الباسلة تقذف المحتل الغاصب بنار الغضب… لكل  الخرائب الناهضة من جذور البقاء…

لكل أم تحمل في أحشاءها بطلاً…

لكل عنقود تدلى من عيون الوطن ألف تحية بحرارة الدم القاني وخصوبة التربة السمراء…

لكل المفاتيح وأقفال البيوت المعلقة على صدور العودة ألف سلام إلى شعبي العظيم وجرحه المكابر وحقه المسلوب…

إلى قدس الأقداس مدينة الصلاة والأزقه  القديمة، مدينة السماء وقبلة الحمام…

لقد جف الدمع ولم يزل القلب مبتلاً بالشوق…

هامت الروح تسافر في المنافي وتحن إلى أرض البرتقال الحزين… ترسم في الجوارح شاطىء حيفا وسورعكا وبرتقال يافا وتتذوق الشهد في عنب الخليل…

تتسلق عنفوان الجليل، تغتسل بماء طبريا، وتضم مهد المسيح، وتتبع خطوات مريم، تعانق قبة ذهبية وتلف  الأقصى بالعبرات…

على هذه الأرض من يستحق النصر والخلود…

على هذه الأرض يعبق التاريخ بأنفاس البطولة…

على هذه الارض ما يستحق الحياة…

وتمر السنون…

بعض الاحزان تربض في القلب وبعضها تغص بها الروح وبعضها نتذوق مرارتها تحت اللسان…

بعضها إندمل ولازالت ندوبها  بارزة توخزنا بين الحين والآخر، وبعضها غائر عميق محفور في الوجدان لم تمحه الأيام… ولازال ينز ألماً وينكأ جروحاً لا تنمحي…

بعض البشر تساقط من الذاكره، لكنه بقي في القلب.. وبعضهم تساقط من القلب والذاكره معاً… وبعضهم لا زال متربعاً على عرش الزمن…

أحلام كثيره كبرت معنا… ركضت وراء خطواتنا الأولى… لعبت معنا في الأزقه، وهامت بها مناماتنا… خبأناها في صندوق مليء بالأزرار الملونه وأحجار بيضاء ومناديل مزركشه ودمى مكسوره وتاهت منا في الطريق لم نقابلها في حياتنا قط… تزورنا أحيانا في المنام وتهرب مع أول خيوط الشمس… كبرنا وتضاءلت مع مشوار العمر طموحات كبيره… صارت أصغر وأصغر حتى تلاشت تماماً ومن نقطة التلاشي ولدت أشياء اخرى وتراجعت وجوه كثيره لوحنا لها من نافذة القطار وفي كل محطة ودعنا رفاقاً وملامحاً أحببناها، وضحكات أتعبنا رحيلها… في المحطة الأخيرة سنرحل نحن وتغيب وجوهنا خلف الدخان وسيلوحون لنا بشوق ونلهث وراءهم طويلاً…  ثم نقف ويمضي القطار وتمر السنون…

 

بين الاجبار والاختيار…

ما نقبله الآن يمكن ألا نقبله غداً، ما هو الآن قرار يمكن أن يكون غداً اختيار…

الظروف تتغير وتتغير معها اختياراتنا اللتي كانت في الماضي ملك ارادتنا أصبحت الآن اجبارا لنا… ترى هل نحن من يختار المكان والزمان أم أننا مجرد دمى بايديهما…

الزمن ذلك الجبار الذي لا يقهر يحفر أخاديده بكل قسوه على جلودنا… كان يهز المهد حتى ننام… راقبنا جيداً ونحن نودع مرابع الصبا وتسلل ليلهو بشبابنا… مد لنا لسانه أمام المرآة حين اكتشفنا أول شعره بيضاء غزت مفارقنا… الزمن إحساس كثيف يضغط بيده الثقيلة على كواهلنا… يحني ظهورنا، يلوي عنفوانا تدفق في العروق ويتصبب عرقا من مسامنا ويخرج زفيرا من صدورنا… هو وقتنا المهدور، هو العمر، هو اليوم الذي لن يعود الى يوم القيامه.. الزمن هو للمريض أملا بالشفاء، وللطالب توقا للنجاح، وللحامل انتظاراً للولاده… كثير منا من يعول على الزمن تحقيق أمنياته يمكن ان يتحول لحظةً شوقاً لحبيب وقمراً لليل طويل ونصراً لهزيمة وكرامة…  لسنوات طويله من المهانة وتحريراً لأرض عشقنا ترابها ولم يعد زمننا يكفيها مهرا كي تعود لنا عروساً مكللة بالغار… شاب زماننا وشبنا ولم تزل شابة سنموت ويطوينا الزمن وستبقى هي حية…

 

وكأنه لم يكن بعضنا من بعضنا

كم تشبهنا هذه الحياة… فنحن منها وهي منا نلومها فتتجاهلنا، وتمضي في طريقها، نتعثر فنركل حجارتها بأقدامنا لنقع في أفخاخ نصبناها لبعضنا وندعي أنها خدعتنا…

نشعر بالظلم يكوي حلوقنا… نسبها فتقهقه بنشوة إنتصارها علينا، لأن بَعضنَا قد عض بعضنا، نقذفها بأقذع الشتائم فتنقلب على ظهرها ضاحكة من جهلنا… ندعي إنتا نعرفها ونغرق في تفاصيلها فنخرج من مدخلنا لان بَعضنَا وشى ببعضنا… نتسلق سلالم الأيام نركض نحو الأعلى ندوس على بَعضنَا، ونقول أيتها الحياة كفاكي عهرا…

تلف ملاءتها وتحدق فينا بعجب لأننا رقصنا على جثث بَعضنَا… لهثنا وراء هذه الدنيا طويلاً… وقفنا لحظات نلتقط فيها أنفاسنا وشربنا من ماءها فإزددنا عطشاً لأن ملحنا من بَعضنَا…

ركضنا وراء بريقها الخداع وأفلسنا، فتسولت معنا وجلست القرفصاء تبيع لنا أحلاماً ورقيةً وأمشاطاً لصلعتنا…

وأخذت من بَعضنَا وأعطت بَعضنَا… لم نرض… فأكل بعضنا بَعضنا…

هرمنا فنظرت إلينا في مرآتنا ومدت لسانها، وعدت الشعيرات البيض معنا وضحكت طويلاً، ثم بكت علينا لأن بعضنا سرق قوتنا وبعضنا بصق في بئر شربنا… فاغتالتنا ورافقت نعشنا ودفنت بَعضنَا، وعادت مع بعضنا وترحمت علينا، وكتب بَعضنَا عنا أننا كنّا وكنا، ثم نسونا كأننا لم نكن ولم تكن هي منا ولم يكن بَعضنَا من بعضنا…

اترك تعليقاً