المسكوت عنه في سردّيات هيڤي قجّو

موسى الزعيم ـ /

في لغةٍ سرديّة مشغولةٍ بعنايةٍ، وأفكارٍ قصصية جريئة، تحاول الكاتبة هيڤي قجّو أن تثبّت خطاها في عالم السرد، وخاصة القصة القصيرة جداً.

فعبر مجموعاتها الثلاث التي وصلت إليّ والتي عنونتها بـ” بُعد آخرَ” الكتاب الذي ضمّ عدداً من القصص القصيرة جداً وهوامش سرديّة، والكتاب الثاني الذي بعنوان” أصابع العازف” أو (كصوتِ نايٍ بعيدٍ) وهو أيضاً هوامش سرديّة، أمّا كتابها الثالث والذي صدر مؤخراً هذا العام2021 “أدراجٌ عالية جهات عمياء” والذي يحوي عدداً من النصوص السردّية المفتوحة بعيدة عن التنميط.

هوامشٌ أَجرءُ من المُتونِ:

في هوامش هيڤي السردية ولوج لعالم التابوهات، عالم المسكوت عنه، خشية ألف رقيب، فالغربة بمواجعها فتّقت الجروح، فصارت الذكرياتُ المؤلمة تطفو على مكونها السرديّ، وبدت الكلمة تسري في سياقها الطبيعي، دون سكاكين أو قبضة سجّان أو كاتب تقارير، دون خوفٍ من لوم المجتمع والذي

صارت الكاتبة تبصر أوجاعه وهمومه من بعيد، وتتبدى لها عُقدهُ أكثر، وكما تقول في خواتم نصوصها ” هكذا هو الشرق ” أو هكذا هو الرجلُ الشرقيّ” وغيرها من الإحالات التي كانت تحفل بها النصوص في إشارة إلى اتساع دائرة الرؤيا لديها، فيغدو الأفق أوسع، وتتضخّم العيوب لتبدو في حجم جبال تقبع فوق صدرونا، وخاصة صدر الأنثى في مجتمع مازال يحبو نحو أدنى حقوقها إذ لم يحقق من هذه المساواة المزعومة سوى شعارات.

ولأنّ الهوامش تحمل رؤيا ووجهة نظر أعمق من النص وأحياناً موازية له، وفي الغالب هي ثورة على المُتون أو وجهة نظر تخرق السائد وتقلق المألوف الراكد في الواقع، جاءت هوامش هيڤي أكثر جرأة وحدّة، في نصوص تعيد فيها الأنثى اكتشاف جسدها ومعاناتها والعالم الموجع المحيط بها.

المرأة.. الأرض.. الغربة بكلّ تجلياتها، الغربة في الوطن والخيمة والنزوح والثقافة واللغة هذه الغربة بكلّ آلامها ومتغيراتها هي قضايا أساسية اشتغلت عليها الكاتبة وكانت الأنثى هي العنصر الأهم الحاضر في كلّ تفصيلة.

نساءُ القصص معجوناتٍ بالقهر:

في قصص (بُعد آخرَ) كانت المرأة بطلة الحكايا دائماً، في قلب الحدث وأتون اللهيب، حتى لو كان دورها هامشياً كشخصية قصصيّة فمن المطلوب منها أن تكون القربان وتدفع ثمن أخطاء الآخرين والمقربين منها” الزوج والإخوة والأب والمجتمع المُحيط ” لا بل عليها أن تدفع ثمن اقصائها عن أنوثتها تدفع الثمن من صحتها وكرامتها وشرفها، ولكن ما المقابل؟!

فعلى حدّ قولها ” تجد نفسها تقدّم سنيّ عمرها قرباناً لتخلّف الشرق

فعائشة بطلةُ قصّة “حافة النهوض” والتي أُنزلتْ من السرفيس واعتقلت مع طفلها المريض لمجرّد تشابه أسماء، بل لمجرّد أنّ الشّبهة في اسمها وما ينطوي عليه هذا الاسم(..) وقد نجحت الكاتبة في استخدام إحالته ورمزيته، فكثير من رفاق التراب في الوطن دفعوا الثمن من حياتهم، بسبب أسمائهم أو حتى أسماء مدنهم وقراهم، في وحشيّة تحاسبكَ على أنّك المُذنب في اختيار هذا الاسم أو الكنية.

في القصة ترصد هول ما عانته من ممارسات من قبل عناصر النظام، داخل المعتقل من تعذيب وإذلال ومن ثمّ الاغتصاب المُتكرر من قبل الضابط المُحقق “ما أصعب أن تتحمّم امرأة ما لرجلٍ سيغتصبها!! ألم يتحمّم الوطن لرجال اغتصبوا مُدنهُ؟ المرأة وطن، مَنْ يغتصبها يغتصب الوطن كلّه”

المفارقة المؤلمة أنّ عائشة التي خرجت من السجن، ومن تحتِ أظافر جلاّدها لم تجد إلاّ النكران من المجتمع ومن زوجها الذي طلّقها لحظة طرقها باب البيت، لم يتركها ترى أولادها، حتى أنّ أهلها أيضاً لم يعترفوا بها.

لم يكن ذلك سوى صدى “صوتٍ أنثويّ عارفٍ، قد اختبر واكتوى بما يحدث في دهاليز المُعتقل صوت “انكسرت فيه صوتيّات اللغة ” “اصبري.. فهذا لا شيء، استعدّي للقادم وسلّمي نفسكِ للقدر الذي يقودكِ من مأساة إلى أخرى “

مأساة عائشة في القصة مركّبة ومًعقّدة، مزيج من سلطة ذكوريّة وسلطة مجتمع بالإضافة الى نظام قمعيّ استبدادي.. مثلها مثلُ ما يحدث على أرض صارت على حافة الخراب، نجحت هيفي في الوقوف على أوجاع الأنثى السورية في قصة كان القاتل فيها أكثر من طرف.

ومن ثم يسأل سائلٌ لـِـمَ غادرت وطنك؟! وطنك ذلك السجن الكبير.. الكبير

أمّا في قصة “تراتيل وجع” فهي تعيد نسج الحكاية القديمةِ لوجع المرأة ومعاناتها في إنجاب الإناث، ومن سمات التراتيل أنها دائمة التكرار، صالحة لكل زمان ومكان لكن تراتيل الأب والأم نُقضتْ بعد حين لأن للحرب رأي آخر في ذلك.

فالزوج الذي غدا عجوزاً وحيداً “الرجل” الذي كان يلوم زوجته على انجابها البنات، بل يحمّلها مسؤولية ذلك ينعكس ذلك كلّه على سلوكه في المنزل، فهو الغاضب المُتذمّر دائماً، بينما الزوجة تداري دمعها إلى أن جاء ” الذّكر” وهدأت ثورة الأب فيتوّحد قلبه بقلب زوجته، لكن للعجوزين رأي مختلف لسان حالهما يُكرر دائماً فتقول الأم ” ليتني أنجبتُ ثلاث بنات أخريات!! البنات زينة البيت” بينما الأب يتحدّث وتنهمر الدموع من عينيه على تجاعيد خدّه، هل كنّا بحاجة إلى كلّ هذا الألم حتى نكتشف الحقائق متأخرين؟ هل كان على الأم ” الأنثى” أن تدفع كلّ هذا الثمن من عذاباتها ليصل الأب ” الرجل ” إلى هذه القناعة؟!

تَقُفل قجّو قصتها بجملةٍ تلخّص كلّ ذلك ” إنّه الشرق

أمّا في سرديّات (أدراجٌ عالية جهاتٌ عمياء)

ففي قصّة ” دمعتان ” تكفكفُ الأم المكلومة بفقدان زوجها دمعتها، مثلومة تربي طفلتين صغيرتين يمزّق أحشاءهن الجوع، لكن الأم وبأصابعَ كعيدانِ الحطب تدفعُ عنهما غَول العَوز في غياب من يُقدّم العون لهن، الأم المكسورة تصرّ على الراوية الزائرة من أجل البقاء، لتناول كأس من الشاي مع الأسرة.. لكن لا سلاح للعاجزِ سوى الدموع.

أما في قصّة ” رائحتكِ مُذهلة ” يرصد النص ما تتعرض له المرأة العاملة في حقول شتّى من صنوف من التحرش وضروب من الاستغلال الجسديّ، إرضاء لنزعة الذكورة التي يحفل بها مجتمعنا الشرقيّ فما إن فرحت الفتاة بفرصةِ العمل في وسيلةٍ إعلاميّة وتدرّجت سريعاً في منصبها الوظيفيّ، لكن الفرحة تلاشت حين شمّ المدير رائحتها، داعياً إياها سراً إلى لقاء خاصّ في مكان آخر.

من جهة آخرى لا تفوّت قجّو الفرصة في رصد بعض حالات استغلال الجميلات لمكانتهنّ وغنجهنّ وكيف ينصبن الشِّباك للإيقاع بالرجل كما في قصة سيارة فارهة.

أو في قصّة (اندماج) فالمرأة التي حاولتْ قطع حبل وصلها مع الماضي والمجتمع الذي جاءت منه بعد وصولها إلى برّ الحريّة المنشود، لم تترك ديسكو أو حفلة رقص أو سريرَ عابرٍ إلاّ وعاقرتهُ، لكنّها عندما نوت الاستقرار ووجدت حبّ حياتها مع أحد أبناء مدينتها، كانت جبال خطاياها الجديدة تربض على صدرها تفوح منها رائحة العفن، فانكسرت حين واجهها بصورها العارية في أحضان خلاّنها والتي صارت تملأ الصفحات.

للأطفالِ حصّةٌ من الوجع

في سرديات هيڤي قجّو يلحظ القارئ أن بعض نصوصها رصدت معاناة الأطفال من خلال وجودهم في ظروف حياتية قاسية إن كانت الحرب سبب ذلك أو هجرة والاغتراب وما أفرزه ذلك من انفصال الوالدين أو في ظل بعض الانحرافات الاجتماعية التي اكتوى الأطفال بنارها.

ففي قصص ” دمعتان ” تعاني الطفلتان في أرض الوطن من الفقر والحاجة بعد وفاة الأب بحادث سيارة، بينما في قصة المرأة المُطيعة، فالضحية طفلان صغيران يدفعان ثمن خلاف والديها في الغربة ويكونان فرق الحساب بين الطرفين وورقة ربح في يد الأب يكيد فيها للأم دون أن يقيم الوالدان اعتباراً لبراءة الطفلين.

أمّا في قصة (أين رستْ بنا السفينة) فالضحايا طفلتان تركتهما الأم مع الزوج المكلوم بعد أن وصلت إلى أوربا وراحت تلهث وراء حبها الجديد قلب الأب المفطور على واقع طفلتيه ولسان حاله يسأله هل هذه الحرية التي وعدنا بها؟

في قصة (الحرباء) معاناة من نوع مختلف فالطفلة تعيش هواجس الخوف في نظام البعث في مدرستها لأنها فقط كتبت “الحياة جميلة” على غلاف دفترها، لكن العطب نال واجهة الدفتر وصورة القائد معه ليفسّر مدّرس التربية القومية الواقعة على مقاس تفكيره فكان له رأي آخر، بل له خبثه ومكيدته، فقد أصرّ على أنّها شبّهت القائد ” الضرورة” بالحرباء فعاشت الطفلة وأسرتها ما عاشته من هواجس الخوف والقلق من النوايا الخبيثة والتي لا تفرّق بين طفل وراشد تجاه القائد الهمام.

أما في قصّة إيغار فترسم الطفلة اليتيمة بالطبشور صورة أمها على أرض الحديقة، ومن ثم تتمدد فوقها وتحتضها، بينما يرصد الأب ذلك في حزن صموت من النافذة.. الكم ّالكبير من الألم والعاطفة شحنتها الكاتبة في نصّ لا يتجاوز الأسطر القليلة، حققت فيه غايتها الإدهاشية على متن ال ” ق.ق.ج”

قصص كثيرة اشتغلت عليها الكاتبة مثل ” عواء، رزان، صمتٍ مريعٍ، قمره يا قمره… ” عالجت فيها ما يتعرض له الأطفال من عنف واستغلال جنسي وسبي من قبل مَن يسمّون أنفسهم “جنود الله وخلائفه في الأرض ” والذين “يفضّلون أن ترسم الفتيات أخيلتهنّ على جدران بيوتهنّ

قضايا مازال إلى اليوم السكوت عنها في نظر البعض ضرباً من المداراةِ والمُداورة على سلطة الخوف من المجتمع، ونوعاً من عدم إثارة الفضائح ومؤاثرة السلامة. 

تقنيّات السرد القصصي عند قجّو:

تبني الكاتبة نصوصها في بعص الأحيان بطريقة خارجة عن المألوف والنمطيّة سردياً من خلال مزجها بين الخاطرة الشعرية والقصة القصيرة جداً، وأحياناً الومضة القصصية، متكئة على أهمّ شروط القصة القصيرة جداً ومنها اللغة الشاعريّة والتكثيف والقفلة الصادمة والتي تصل إليها في نهاية القصة بسلاسة ويُسر، وفي الغالب تؤدي المطلوب وتوصل إلى ذروة القصّ وتفتح باب النص وتترك صدى واسعاً في وجدان المُتلقي  

من جهة أخرى كان “الراوي/ الراوية ” في غالبية النصوص أميناً في نقل الواقع، أميناً على قضيّة شغلته و أهم ركائزها ” الأنثى ، والوطن ، والغربة ” والقضية الكردية بكلّ المُتغيرات والظروف والانكسارات التي ألمّت بها، كل ذلك شكّل فضاء السرد عند الكاتبة، ومن خلال استرجاع الذكريات بين ضفتين ” وطنٌ مُشتعل/ غربةٌ باردةٌ  ” ومن خلال ثورةٍ على نظام القمع بكلّ أشكاله و سلطويته وذكوريته و رصد هذا الواقع الفاسد وما آلت إليه الحالة في الوطن، وما تبقى من ترسباتٍ لم تفارق مُخيّلة البعض، فظلّ متمسكاً بصخرة ذكوريته التي باتت تجرّه إلى القاع بعد أن صار البعض يعوم على سطح عالم يتّسم بالحريّة والديمقراطية في الأرض جديدة.

من جهة أخرى جاء الزمن متواتراً بين الحاضر في الغربة والماضي في الوطن ومن خلال معاصرة الحدث بشكلٍ مباشرٍ من خلال حكايا عاديّة لأشخاصٍ مرّوا في حياة الراوية والتي كانت تتقمّص الأدوار في بعض الأحيان أو تقف على الطرف المُحايد من النص، تروي الحدث بعين الشّاهد المـتألم وقد استخدمتْ  في ذلك أكثر من تقنيّة سرديّة تراوحت بين ضمير المتكلم والغائب والمخاطب أحياناً، ومن خلال تلّون الصوت في الحوارت وداخل النص، على أن تبقى المرأة الضحيّة في غالبية النصوص محور الحدث بين “هنا وهناك ” تهزّ المسكوت عنه شرقيا ً تقلقه وتجعل المحكي عنه أقرب إلى الواقعية في الحياة، وكأن الكاتبة كانت جزءاً من تفاصيل هذا الوجع ووقفت شاهداً على حكايا كثيرة منه.

من جهة أخرى في أغلب القصص لم تذكر الكاتبة أسماء شخصياتها إلاّ القليل، مما يضفي على النصوص صفة الشيوع وتعميم الأحداث فما يعنيها هو “الأنثى الكيان „ والتي طالها العسف في أيّ زمان أو مكان.

كلّ ذلك نسجته هيڤي قجّو بلغةٍ صافيةٍ سلسة مشغولةٍ بعنايةٍ ومن خلال الجملة القصيرة المكثّفة ومعمار النصّ المبني بشكلٍ دقيق خالٍ من الحشو والتعقيد ومن خلال الاشتغال على الصورة ضمن الجملة الواحدة مما يحملها الأفق الأوسع والأبعد في التأويل.

*هيڤي قجّو: كاتبة سورية مقيمة في برلين.

.