البحث عن غُفران

في رواية ملاذ العتمة

موسى الزعيم

بعد روايتهِ لحظة العشق الأخيرة، يُصدر الروائي السوري (ضاهر عيطة) روايته الجديدة (ملاذ العتمة) عن دار موزاييك للطباعة والنشر في تركيا.. والتي تتخذ من الحرب الدائرة في سوريا وارتداداتها منبعاً لأحداثها.

” ملاذ العتمة ” في العنوان: إحالة إلى متعددٍ، من خلال هذا التجاور المعنوي للفظتين، فالملاذُ هو المكان الآمن، والذي ينشده ويرتاح إليه الهارب المُرتعب، ليتوارى فيه عن أعين طالبيه ليتدبّر أمراً، والعتمة أقلّ من الظلام، هي زاويةُ هاربةُ من الّنور، وعليه يضعنا الكاتب أمام استفزاز بصري، معرفيّ، لخوض متونِ السرد والبحث/ في العتمة / عن المُتواري.

تدورُ أحداثُ الرواية في مكانين منفصلين، متداخلين زمانياً في صنع الأحداث، وباعتبارهما مِهاداً أساسياً، لفضاء السرد العام.. دمشق التي جاء منها كلّ من عاطف وغفران التي تُطارده، ويُطاردها عبر الفضاء الحاضر، في الفعل الروائي، في المكان الجديد ألمانيا، الذي لجأ” إليه بشكل منفصل.

بين هذين المكانين تطارد الضحيّة جلادها ..في منحنيات تتعرّج على خطّ الرواية.. يتوهّمان ذلك عبر كوابيس وايهامات نجحَ الروائي في جعلها تبدو حقيقية، فالضحيّة صارت في فضاء وجود الجلاّد.

وعليه فالرواية تقوم على التقاط  تناقضات التجربة الواقعيّة الداخليّة، وارتداداتها الخارجيّة،و تفسيرها فنياً وجمالياً.

تقاربُ الرواية موضوعاتٍ على غاية من الأهمية، إذ ترصد النوازع النفسيّة لشخصيّات قلّما تطرّقت إليها الرواية السوريّة، وأهمها شخصية الشيخ “إمام المسجد” والذي يمثّل رجل الدّين المُنحاز للقتل، أحد الأدوات النّاعمة للنظام الموغل في الدم، ويمثل هذه الشخصية عاطف إمام  مسجد حيّ الميدان في  دمشق.

“ملاذ العتمة” تثير التساؤلات حول تلك الشخصية، التي لجأت إلى ألمانيا، وأخذت تبحث عن ملاذٍ آمنٍ لها،عن “غفران” والتي تمثّل الطرف السلميّ في الثورة، حالها كحال الكثيرين بعد أن غدت سوريا مُستباحة من قبل شرذمة تستأجر عصابات القتل والنّهب ..فيدُ القتل تطالُ الناشطين ولا يفرّق قاموس الطاغية بين ناشط  يحمل ورداً أو بندقية، الجميع غدا مشروع قتلٍ قابلٍ للتنفيذ.. ورغم ذلك فالضحايا تدور في حِمى جلاّدها، نفسياً أو جسدياً، شخصيّات مُتعبة مُرهقة مما تحمله في طيات نفوسها تحاول أن تقفز خارج ذاتها تشقّ عتمتها لترتاح قليلاً.

بين هاتين الشخصيتين يأتي دور سلينا، الصحفيّة الألمانيّة المُهتمّة باللغات والثقافات، والتي تتقن العربية  تحاول أن تخطف قلب عاطف، باعتبارها تبحث عن ملاذٍ وحضن دافئ لها وقد وجدته في التصوّر المُسبق لديها عن شخصيّة الرّجل الشرقي ” بعض التصوّرات رسخت في الذهنيّة الألمانيّة عن شخصيّة علي بابا، أو علاء الدين وغيرها من السرديّات الحكائيّة القادمة من الشرق، المُشبعة بالبخور والسحر والغرائبيّ ” راحت سيلينا تتقنُ لعبة أن تكون غفران، لتحلّ محلها جسداً في حضن عاطف.

ومن هنا يُثار تساؤلٌ جديدٌ حول شخصيّة سيلينا، أو ذاك النموذج من الشخصيات الأوربيّة عموماً والتي انحازت للقاتل ليس لأيّ بُعد إنساني وإنّما من باب المُختلف وغالباً ما يكون ذلك لأجندات سياسيّة وربما حزبيّة لها حضورها في الساحة الألمانيّة.

تنطلق الرواية من تداعياتها سيلينا وهي جالسة على شرفة منزلها في ألمانيا، تبدأ بالعودة إلى مذكّراتها القريبة منذ أربع سنوات، حين زارتْ جدّتها في جزيرة ليبسوس اليونانية، والتي حرضتها بطريقة غير مباشرة على اكتشاف طريق الموت الذي يسلكه السوريون، أو لتجيبَ عن سؤال يشغل ذاكرتها الحاضرة حين رأت بكاء جدّتها على أمتعة وأشلاء الغرقى بفعل (حيتان البحر وتجّاره).. كلّ ذلك دفعها لتتبع طريق الموت، فتسافر إلى تركيا وتتعرّف إلى أسرة “أبي سرحان” تفكّر في مرافقتهم في رحلة البحر لكنّها تغيّر رأيها، وتحمل معها أمانة” منديلاً” لعاطف في دمشق ..

عاطف، الرجل المُبهر جسدياً بالنسبة لسيلينا، والذي كانت تربطه خطيئة بغفران، إذ طالما تحرّش بها وهي عائدة من السباحة في بردى، تحاول أن تكون غفرانه روحاً وجسداً، فيأتي معها إلى ألمانيا لتعيش معه شبقه الجنسي، وهروبه من ذاته ومن غفرانه..

سيلينا، تفعل له كلّ ما يوحي بأنّها غفران، لأنّه مسكون بهواجس غفران وبإجرامه، حيث دفع هدى إلى الانتحار بعد اعتقال خطيبها، وزجّ بالكثيرمن الشباب في المعتقلات، واتّهم الثوار بالمخربين، وحشا أفيون أفكاره في رأس أخيها (ملهم) وشارك في حصار وتجويع جوبر.

نجحت الرواية في تعرية هذا النموذج الذي يعيش في تناقض، فهو ناصحٌ يغدو قدوةً للكثيرين، وخاصّة الشباب، مُستأجر من الديكتاتور، لتلميع صورته وليكون بوقاً له، ومن جهة أخرى هو مُدمن العتمة، يفعل ما يحلو له بمعيار التحليل والتحريم الذي يفصّله على مقاس شهواته..

عاطف الذي تستهويه الغابة برمزيتها وعتمتها، يحلو له أن يمارس فيها كلّ شيء دون رقيب.. يدمن البحث فيها حسب توهّمات سيلينا عن طائرٍ جريحٍ، يريد انقاذه، وهنا تغدو المفارقة مؤلمة حتى الضحك، عاطف مشغول بالبحث عن طائر جريح، لعله قلب غفران، لعله هاجس البحث عن خلاص، أوفي  الغالب ارهاصات انسانية خادعة..

في شخصية عاطف يقف الكاتب عند اشكالية طفت على السطح ابّان الثورة السورية، وغدت محلّ تداول وجدال، وهي موقف رجل الدين من الحاكم، وشراء الدكتاتور لذمم ضعاف النفوس الذين يلوون عنق النصّ الديني “والدستوري” من أجل مصلحة الحاكم أو مصلحتهم الشخصية، هو يمثل هذه الشخصية الوصولية التي سقطت من الوجدان الجمعيّ، ولم تعد القدوة الاجتماعية كما كان مؤملاً منها ”  كيف نؤمن ونقتنع بما يقوله الإمام عاطف، وهو طوال الدّرس قابع في العتمة؟ صحيح أنّ الله يرانا ونحن لا نراه، لكنّنا نعرفه بالقلب والعقل، أمّا هذا الإمام فلا أدري بأيّ عين أو قلب أعرفه؟ هكذا تراه غفران في أحد دروس المسجد.

عاطف الذي انتحر أو قُتل، المهم أنّه مات معلّقاً على شجرة في الغابة! .. مستخدماً عربة التسوّق التي جلبتها سيلينا يوماً إلى ذات المكان، والتي نجح الكاتب في استخدام رمزيتها كإحالة إلى عالم التسليع، مقارنة بعالم الروحانيّات الزائفة، الذي كان عاطف يوهمنا أنّه يتمثله ويتخفّى به..

في حين أنّ غفران جارة بردى، والتي اعتادت أن تسبح رفقة والدها الشاعر، الذي اعتُقل بسبب ديوانه الشعريّ، وكان ضحيّة كلمة الحقّ.. غفران التي استلهمت موقف والدها، وروح كلماته في الثورة، ولم تتردّد يوماً في مُناصرة من هتفوا للحريّة، وكانت أولهم تحمل الورد الجوري في المُظاهرات السلميّة، هي ومثلها من الحرائر شاهداتٌ على قبح المجازر، وعلى حوادث الاغتصاب، هي إحدى ضحايا عاطف المتداري بالعتمة، الذي لا يتورّع عن التحرّش بها خفيةً .. وهي ضحيّة العنف الأسري، فأخوها “ملهم” الذي تتلمذ على زيف عاطف، يتحيّن الفرصة لقتلها وغسل عاره لأنّها صارت حرّة .. فيسوقها حظّها إلى بلد اللجوء ألمانيا، وتُطارد فيه غريمها عاطف، ثم  ليدور الأمر وتغدو مطاردتها له ليس فقط من أجل الإجرام الذي اقترفه بحقّ رفاق ثورتها فقط، بل لأنّ سيلينا الألمانية خطفته منها، وصارت تتلبّس جسدها لتغريه وتمارس شبقها، في بيت أعدّت كلّ مقتنايته، ليحاكي البيئة الشرقيّة التي جاء منها عاطف وغفران.

غفران في بلد اللجوء.. تعيش غربتها الداخليّة المُوحشة انطلاقا من أسرتها، تبدو مَهزومة، هزيلةً مُدمنةً، غفران تمثّل التحولات التي طرأت على مواقف الناس من الثورة، وبرودة علاقتهم بها، ودخولهم على خط ّالتغيير، بعد وصولهم إلى أوروبا، لم تبقَ قويّة كما كانت في دمشق، غدت” مكسورة الجناحين مُلقاة في العراء”، غدت مدخّنة، زجاجة النبيذ لا تفارق يدها، يشغلها التفكير في مضاجعة زميلها، نادمة على عدم قبول دعوته لتثبت له أنوثتها، صارت مقصرّة في تعلّمها للغة الألمانية أيضاً.

غفران التي تدور في دوامة هواجسها ومخاوفها، وخواء أمعائها، لم تبدِ أي إشارة منها على مساحة الرواية في مناصرة من تركتهم في محرقة الوطن..هي تعيش على ذكراهم، تقتات مواجعها، بالنسبة لها صار تذكّرهم يكفي لشحنها بالقوة، وإن كان في موت عاطف عودة إلى صحوتها، مما شكّل نقلة ايجابية لها في آخر الرواية ..غفران التي تمثل ثورتنا ومواجعها وانكساراتها..وتأكيد على أنّها لن تكون غفران عاطف ..

بالمقابل سيلينا التي لم يظهر من شخصيتها إلاّ أن تكون النموذج، الذي يجري خلف نوازعه وشهواته وقد تخلّت عن الدور المتوقّع منها في بداية الرواية كصحفيّة ومهتمة بقضايا الثقافة، كأن تناصر شعباً مظلوماً وتقف على أوجاعه، وتوصل رسالتها إلى العالم وخاصة حين أبدت تحمّسها بعد لقائها بأسرة أبي سرحان ومرافقها لهم إلى شاطئ الموت في “بودروم” التركية، ثمّة تغير طرأ فجأة على موقف سيلينا وهو ما يمثل الموقف الأوربي عامّة، فقد فضلت انقاذ القاتل على تمد يدها للضحية لها فهي ” ..تمضي في طريقها دون أن تكترث للمجزرة التي حدثت … كلّ الدروب مُمهدة وسالكة أمام خطوات هذه الفتاة الأجنبية.. وكانت كلّها مُغلقة في وجهي” .. تقول غفران.. وهذا يفسر بحدّ ذاته الكثير من المواقف التي تشهدها الساحة الألمانية اليوم في معارضتها  لقدوم اللاجئين.. ألمانيا التي باتت اليوم تجمع النقيضين بين مؤيد قاتل، ومعارض ضحيّة..!!

من جهة أخرى: تعرّي الرواية فئة استثمرت بدم النازحين الفارين، فجدّة سيلينا في البداية كانت تتعاطف مع الهاربين من الموت كانت تبكي لحالهم، تحفظ مفقوداتهم بعد أن غرقوا اذ اكتوت بنار ذات التجربة حين غرقت أمّها في ذات الطريق، هاربة من الحرب في أوربا، لاجئة في حلب.

اليوم صار لها متحفٌ تتاجر فيه بما يلفظه البحر من قطع ملابس وأحذية الغرقى، هذا التحوّل ينسحب على عموم أوربا التي باتت تنظر إلى اللاجئين من منظور تجارّي بحت، وتأتي المفارقة الصادمة حين يكون شريك الجدّة في بيع هذه المُقتنيات “مُلهم” شقيق غفران الذي يطاردها، مما يفتح باب التساؤل هنا عن شراكة القاتل والتّاجر على حساب دم الضحيّة ..

تشكّلت الرواية من ثلاثين مقطعاً عنون الكاتب أسم كلّ مقطع باسم شخصيّة.. هذه الشخصيات  تناوبت على استلام زمام السرد، والبوح ودونما تدخّل من السارد الذي بقي محايداً، إذ لم  نلحظه يتدخل ولو مرّة واحدةٍ على مدى صفحات الرواية، بل ترك لكلّ شخصيّة حريّة التعبير عن هواجسها حيث أنّ  كل شخصية تسيطر على جزء معين من مساحة السرد كل مقطع يحمل اسمها وذكرياتها ودورها في الحدث ومواقفها ازاء الشخصيات الأخرى، مستخدمة ضمير المتكلّم، ما يوحي بأنّها تمثّل حالة من الوعي فيعطي السرد غنى وواقعية أكبر، تجعلنا نقترب أكثر منها ونغوص في أعماقهانتعايش مع قلقلها ونرصد تطورها.

والرواية فنّياً تقوم على الشكل المسرحيّ ..يبدو أنّ تجربة ضاهر عيطة في عالم المسرح فرضت نكهتها على صفحات الرواية، فيمكن للقارئ أن يقتفي أثر ذلك من خلال بعض التقنيات الفنيّة التي حرص على استخدامها، من خلال مَسرحة المَشاهد وتقسيم الحوارات /شرفة منزل سيلينا التي ترقب من خلالها الشارع والرصيف والغابة أمامها هي” منصّة ” مثلها منبر المسجد/ وكذلك لعبة الإضاءة والعتمة أيضاً، حركية الشخصيات داخلياً وخارجياً عبر مونولوجات درامية كثيرة، بالإضافة إلى تناوب الشخصيات والحوارات في تسلسل درامي دائري تتابعي، مما يمنحها القرب أكثر من المُتلقي ويشعره بكينونتها.

كلّ ذلك جاء على لسان شخصيّات الرواية بعفويّة، فقد ترك الكاتب لها حبل السرد على غاربه، جاءت بلغةٍ بسيطةٍ بعيدةٍ عن المعجميّة والتعقيد، يستطيع المتلقي من خلالها الولوج إلى عالم الشخصيات ومشاركتها في آلامها، يتعاطف مع بعض مواقفها، ويشكل انطباعه وقناعاته من خلال الموقف العام الذي اختاره الكاتب لها، خاصة وأنّه استخدم الفعل المضارع دلالة على معاصرة الحدث وآنيته..

في ملاذ العتمة يطرح الكاتب الكثير من الأسئلة المتعلقة بالتحولات التي طرأت على أفكار اللاجئين الهاربين إلى أوروبا، وعلاقة الضحية بجلادها من جهة العلاقة النفسية ومآلات الاغتراب وما يدور في الخفاء في البقع السوداء المعتمة، داخل كلّ فرد، عالم بات سريع التغيير ليضيف لنا بصمة ابداعية جديدة جديرة بالقراءة في سجل الرواية السورية..

في “ملاذ العتمة” تأكيد على مقولة الشاعرصلاح عبد الصبور أنّ” ما يولد في الظلمات، يفاجئه النّور فيعرّيه” والرواية أحد أبواب التعرية الذي يتساقط منه أعداء الثورة وتجارها.

*ضاهرعيطة روائيّ ومسرحيّ سوري مقيم حالياً في ألًمانيا .

.