إصداراتٌ عربيّةُ جديدةُ لكتّاب عربَ في ألمانيا

 ( آلامُ ذئبِ الجنوبِ، 5 ميغا بيكسل، سارين، كوابيس مُستعملة)

موسى الزعيم 

لعلّ القارئ المتتبع لحركة الثقافة العربية الجديدةِ في ألمانيا، خاصّة مع توافدِ ، عدد لا بأسَ به من الكتّاب العرب إليها من أغلبِ البلدان العربية “أكثرهم من سوريا والعراق وفلسطين”، يلحظ اليوم مدى فعّاليّة هذه الحركة في شتّى مجالاتِ الأدبِ والفنّ، ربّما الدراسات الفكريّة لم تختمر بعدُ لدى القادمين الجُدد، لكن مع يقيني بأنّها ستشهدُ حركة مستقبلية لا بأس بها أيضاً، ومن هذه الفعاليات والأنشطة المهرجان الأدبي المُقام في مدينة “هالا زالا الألمانية” والذي كان لي شرف المشاركة فيه، فقد عُدت منه بإصدارات جديدة لعدد من الكتاّب العربِ المشاركين في هذا المهرجان.

عُدت حاملاً كوابيس مُستعملة رواية عبد الله القصير/ وأحلام ذئب الجنوب لمحمد المطرود، لتلحقَ بي بعد أيامٍ / 5 ميغا بيكسل لفايز العبّاس وليصلني عبر البريد سارين ديوان الشاعر محمد إقبال بلّو.

هل يعني ذلك شيئاً ؟.. الكتب الأربعة وعبر أشهرٍ قليلةٍ صدرتْ لكتّاب سوريين لجؤوا إلى ألمانيا، استشعروا حالة الاستقرار، والهدوء جسدياً على الأقلّ، استعادوا ما شرّدته الحربُ من بقايا أحلامهم، فصاروا ينسجون وجعهُم أدباً فكانوا أوفياءَ للذّاكرة التي أفرغوا حمولتها على الورق في أرض غريبة .. ليبنوا على ما أسّسهُ مَنْ قَبلهم في ألمانيا لحالةٍ أدبيّة، ستكون إضافةً غنيّةً وانعطافاً ملحوظاً في مسيرة الأدب العربي المعاصر.

رواية كوابيس مُستعملة لعبد الله القصير

 تقع الرواية في 236 صفحة من القطعِ المتوّسط، صدرتْ عن دار فضاءات في الأردن، وتعدّ إضافةً فنيّة إبداعيّةٍ جديدةٍ لمسيرةِ الرواية العربيّة وخاصة السوريّة منها، والتي عالجتْ قضيّة الثورة والصراع الدائر في سوريا ضدّ النظام القمعيّ، ومن جهة ثانية تعالج انعكاساتِ هذه الحرب وخاصة قضيّة اللجوء وبالتالي الاغتراب.

الرواية تقفُ على ضفتين في آنٍ واحدٍ، وبتقنيّة تستخدمُ العينَ السينمائية الثالثة،عين الكاميرا التي تبوح أمامها الشخصيات.. يبدو الوقوفُ أمام الكاميرا في المرّة الأولى لهذه الشخصيّات صعباً، سرعان ما يتحوّل إلى مرورٍ آمنٍ، يستطيع “عطايا” بطل الرواية من خلال هذه العدسة الولوج إلى داخله، وبالتالي إلى دواخل الشخصيّات..تتوحّد أوجاعها معه دون تكلّف، أقنعنا الراوي أنّ هذه  الشخصيّات واقعيّة حقيقية وبالتالي استطاع أن يُلبسها همومَ وأوجاعِ الجميع.

الرواية تتحدّث عن قضيّة “التعفيش” التي راح ينتهجها جيشُ الدّفاع الوطنيّ أو ما يُسمّى جيشَ النظام. بطل الرواية عطايا الذي يُصاب بثلاث طلقات ناريّة من هذا الجيش ليس لأنّه عضوٌ في تنظيم ما، أو على الطرف الآخر من الصراع، وإنّما لأنّ عطايا حاول إنقاذ أثاث بيتهِ والذي له مع كلّ قطعة منه حكاية، في حين كان المُعفّشون يتعاملون معها وكأنّها ما ملكت أيمانهم.

بعد خروج عطايا من المشفى و انهيار حالتهِ النفسيّة يزور سوق التّعفيش ليتعرّفَ إلى قطع أثاث البيوت المنهوبة، يحاورها ويكشف خفاياها ويدورُ حوار بينه وبين أصحابها الافتراضيين ليغدو الألمُ حاضراً وبلغةٍ شاعريّة في أدقّ التفاصيل، وتغدو الجماداتُ أشخاصاً من لحمٍ ودمٍ، يؤنسنها الكاتب تلحّ الكوابيس على مسار الرواية رغم أنّ البطل يحاولُ العلاجَ لدى طبيبٍ نفسيّ، ورغم محاولاتِ الزوجة “ظبية” الجّادة في تخليصِ الزّوج ممّا هو فيه، إلاّ أنّ النزوح كان هو الحلّ في النهاية.

ينقّل الراوي عدستهُ مع صديقه الألماني”رالف”  الذي يصوره والذي زارَ سوريا وتعلّم العربيّة، يتحدث عطايا عن  نزوحه من سوريا إلى تركيا ورحلة البحر والمعاناة، كلّ ذلكَ بتداعٍ  فنّي حرّ، هذه الرحلة التي غدت حكاية كلّ الفارين من الحرب إلى موتٍ يتربّص بهم عبر الطريق، هذه المعاناة يربطها بحكايةِ المرأة الألمانية “آنيا” التي استأجر بيتها، والتي تروي له معاناتها من تعنيف ابنها المُراهق لها، وصراعها بين أمومتها وكينونتها .. نجح الكاتب في جعل “رالف” جسراً بين ثقافتين، نعبرُ من خلال هؤلاء إلى السكينة.

صممّ غلاف الرواية الفنان جلال الماغوط، للكاتب أيضاً مجموعة قصصية صادرة عام2015 بعنوان “عارية في العباسيين “

5 ميغا بيكسل / ذاكرة ممتلئة لعينين” ديوان الشاعر فايز العبّاس

وهو الدّيوان الشّعريّ الصّادر عن دارِ فضاءات في الأردن، يقع الديوان في 196 صفحة من القطع المتوسط، قسّم الشاعر ديوانه إلى ثلاثةِ أقسام : كاميرا أماميّة، فلاشات، وكاميرا خلفيّة .

في الدّيوان مجموعةٌ من النّصوص النثريّة مشغولةٌ بشعريّةٍ احترافيّةٍ، استطاع فايز العبّاس بحسّهِ الفنيّ اقتناصَ ما هو مؤلمٌ وجميلٌ، موحشٌ ودقيقٌ في لقطاتٍ سرياليّةٍ قصيرةٍ، لكنّها مُتشظيّة لآلاف الصّور، بعينٍ أدقّ من عدسة الكاميرا، عينُ الشّاعر وبصيرته نفذتْ إلى عمقِ الأشياءِ، حاورَتها، واستشعرتْ ما فيها من خفايا، لقطاتُهُ أشبهَ بنثرة العطر، لها حضورها في كلّ ذرات الهواء التي تمّر فتحملها، بين الألمِ والخوفِ والحبِّ. استطاعَ العبّاس أنْ يشكّلَ هذا الفضاءَ الشّعريّ الجماليّ في نصوصٍ لا يحدّها طولٌ أو قِصرٌ حدودها أبعادٌ متناهيةٌ في قنصِ المعنى.   

في النصوص القناصُ حاضرٌ – قنّاص الحرب- المُدمنِ على القتلِ وهو الأكثر بشاعة وحضوراً، و القنّاص الصيّاد المفتنّ بمطاردة الغزالة، يطاردُ الشامات على أقصى حدودِ جسدِ الأنثى، يرصدُ شهقاتها على حرير سريرها، كذلك هو العباس يُبهرك في زاوية التصوير التي يشتغل عليها، وهو نبيلٌ دائماً في رصدِ الدّمعة على خدودِ الأمّهات.. أمهاتنا اللواتي شردتنا الحربُ من أحضانهنّ، سخيّ بدمعتهِ حينَ يؤلمه بوحُ طفلٍ.

 في “5 ميغا بيكسل” يشتغل الشاعر على عمقِ الأشياء رغم دقّتها وصغرِها، يهتمّ بالتفصيلات التي تبدو بديهيّة، لكنْ بجملٍ شعريّة تشريحيّة رشيقةٍ ولغةٍ سهلةٍ بسيطةٍ يَعبُر من خلالها إلى خلايا الأشياء.

في نصوصه تخلّصَ  الشاعر من الوزن لكنّ الموسيقى الداخليّة والإيقاع النابض للجملة الشعريّة المُبتكرة مازال في أبهى تجلّياتهِ.

/ الطّفلُ الذي يقلّد الجنود، ويشكّل من قبضتهِ مسدساً، يرى الكون لصاً كبيراً /  يا صغيري تنقصُك قوّة القلبِ / وينقصُ الكون براءتك.ص 161 فايز العبّاس لا يشغلهُ في الديوان طول النصّ أو قِصره، يبحث دائماً عمّا هو اختراقٌ لمنظومةِ النّص من حيثُ الشّكل، يقول جملتَه ويمضي، يركّز على المفارقةِ الصّادمة، والجملة شديدةِ التكثيفِ ليُخرِجَ من خلال هذه المفارقةِ ما هو حياتيّ عاديّ ليغدوَ شعريّاً نابضاً بالجمال، هذه المفارقة الصادمة غالباً ما تأتي في آخرِ الجملةِ أو في آخرِ النصّ عموماً.

/ مثلُ شظيّة لا هدفَ لها سوى القتل / ترسلينَ ضحكتكِ ص 129

صممّ غلافَ الدّيوان الفنّان مصطفى سليخ، يُذكر أنّ فايز العبّاس فاز بجائزةِ الشارقة عام 2010 عن مجموعته ” فليكن موتي سعيداً” والتي صدرت عن دائرة الثقافة في الشارقة 2011.

“آلامُ ذئبِ الجنوب”  للكاتب محمد المطرود:

 كتابٌ جديدٌ صادرٌ عن دارِ ميسلون للطّباعة والنّشر، يقعُ في 120 صفحة من القطع المتوسّط. ونقلةٌ نوعيّة على صعيد النّص الأدبيّ ” المفتوح “وهو مجموعة نصوصٍ اعتمدتْ الشعريّة النثر القصيدة. قراءتها أنت ملزمٌ بالسير جمالياً وراء ذاكرةٍ تؤصّل للمكان، بلغةٍ أقلّ ما يُقال عنها ابتكاريّة فنياً،على صعيد الشكل والمضمون.

واللغة عند المطرود ذات حُمولةٍ فِكريّة وإحالات مشبعة دلاليّاً، هي  نصوص ما ورائيّة – هكذا يُسمّيها – في الصفحة الأولى من الكتاب، وهي إشارة منه إلى القارئ (أيْ) يجبُ أن تستنفر قواك الخياليّة مسبقاً، لتكشفَ الغطاءَ عن متعةِ النص بما تحمله كلمة المُتعة من دلالات إشباع فنّيّ وجماليّ .

قسّم الكاتب كتابه إلى ثلاثة أقسام رئيسة: بوابةُ الجنوبِ جهةُ الجنوب/ بوّابةُ أنواتِ الذئبِ المُظفّرة بالألم/ بوّابة المؤنث .. وقد اشتملَ كلّ قسمٍ على عددٍ من النصوص، للوهلة الأولى يقفُ القارئ متأملاً تركيبة عناوين بعض هذه النصوص والتي تشي بغرائبيةٍ مُحببة، تشدّك لخوض غمار النص من هذه العناوين “البدويّات النّازات ماءاً ثقيلاً، فِخاخُ الحنين ومثالب الصيّاد، آلامُ مرئيّة بصيغةِ الفرد، أنا ذئبةُ نفسي، وأوسمُ من الموت وأطول قليلاً، بالإضافة إلى حروبي السبع مع النسيان فلكلّ حربٍ نصّها المنفرد.

الكاتبُ في نصوصه يستند إلى المكان، أو ما تبقى من المكان في ذاكرته، بعد أن مرّتْ عليه كفّ الحرب التي عبثت فيه، وهي سنّة الحرب الدائمة في قلب المألوف، وسحق البديهيّ، وإحالته لدى الكاتب إلى صيغة سرديّة تتشارك فيها الأسطورة بالواقع، لتنتج نصاً إبداعيّاً ترتاح إليه الذاكرة الوفيّة للكاتب.

المكان الذي غدا حاضراً بتفصيلاتٍ صغيرةٍ دقيقة في أغلب النصوص، تُشعرك وكأنّ ريحاً عابثة بعثرت ذرات الرّمل في هذه البادية وغدت مُهمّة الكاتب التقاط ما قبضتْ يده منها، يحكي لها سيرتها الأولى مع نباتها وحيواناتها وآبارها، تُرى هل هي حكاية السوري مع المكان؟!.. وسيرة الحرب التي شردته في كلّ أصقاع المعمورة وغدا المكان المألوف بالنسبة له في الوطن مجرّد ذاكرة توقفتْ، كلّ ذلك ينسجه المطرود بلغةٍ مشبعةٍ دقيقةٍ أمينة لبيئتها.

/ والبدويّات نشيدٌ طويلٌ على وزن وترٍ واحدٍ، تئنّ الروح المهيأة من خشبٍ وجلدٍ وشعر من ذيلٍ فرس شموص، والشاعر وحده بهذا الكائن يحوّل ليل البُداة إلى حكاية، يأتي بالرسالة ويأخذها قد لا يفصح عنها. / ..ص12

يذكر أن الشاعر والناقد محمد المطرود أصدر عدداً من الكتب منها “ثمار العاصفة عام 1997 أحمد وظلّه النّار عام 2014 وغيرها من الدراسات النقديّة..

“سارين”  ديوانٌ شعريٌ للشاعر محمد إقبال بلّو صادرٌ عن دارِ المثقّف للنّشر والتّوزيع في الجزائر

يقع الديوان في 103 صفحات من القطعِ المتوسط، يشتغل الشاعر فيه على شعر التّفعيلةِ والقصيدةِ النثريّة الحرّة، أمّا موضوعات القصائد فقد جاءتْ تحاكي الواقعَ السوريّ في تشظّيهِ، وانزياحهِ، وحالة الثورة السّورية والحرب الدائرة على أرضهِ والتي راحت تطحنُ الناس، هذه الحرب و أداتها القمعيّة “النظام” استخدمتْ أعتى أنواعِ الأسلحة وأقذرها مثل غاز السارين وغيره .. أيّاً يكن يمقتُ الشّاعر الحربَ وجنونها والرّصاص وخبثهِ ومخلفاتهِ. و”سارين” عنوان القصيدة الأولى التي يقول فيها

الرّصاصةُ قد تغيّر مسارها رفّةُ عين/ لكن دويّها يبقى في الأذنِ/ حتّى يخمدَ الصوتُ/ قد يضحكُ الوجهُ برهةً/ لكنّه يُخفي الحقيقة حتى أذان الصبر/ ليصرخ/ الله أكبر/ ثمّ ينفجر/ هذه سُنّة الحرب/ وفروضِ صلواتِ الجنونِ/.

يحاولُ الشّاعر في كثيرٍ من الأحيان عبر قصائدهِ أن ينزعَ عنهُ عباءةَ الحربِ، ليعيشَ الحياةَ كإنسانٍ، كشاعرٍ يؤمنُ بالحبّ والموسيقى والشّعر، لكنّ انكساره سرعان ما يرتدّ إليه / فالشّعرُ والموسيقى لا يصنعان وطناً/ الشّعر والموسيقا يمسحانِ شعركَ حين تشعرُ باليُتمِ/.  من جهة أخرى، كثيرةٌ هي القصائد التي ينعي فيها ” بلّو” الرجولةَ والرّجال، يتحدّث عن العروبة الضّائعةِ والنّخوة المفقودةِ التي شوهتها سلعيّة المواقف، حتى غدتْ سوداء كسوادِ نفطنا العربي.

الشّاعر في قصائدهِ يعتمدُ على الجملة الشعريّة الخفيفة والتي لا تشعرُ معها بالتكلّف اللغويّ، يوصل إليكَ فكرتهُ بإحساسهِ العالي بيسرٍ وسهولةٍ، يُشعركَ وأنتَ تقرأ أنكَ تقفُ وسط القصيدة ..أنتَ جزءٌ منها، معنيّ بكلّ تفصيلةٍ فيها، فصوتُ الشّاعر نابعٌ من الأنا الجمعيّ، من ألمِ من حوله، إذ قلما تلحظ أناه المتفرّدة.

الهموم الكبرى .. وهمومُ الفرد العربيّ و خيباتهِ حاضرةٌ في قصائد الشّاعر،ِ نلحظُ ذلكَ من خلالِ عناوين بعض القصائد مثلاً ” قهوتنا العربيّة،عندما كنّا، يا ملحَ كعبتنا، الحقيبةُ الزّرقاء، أنشودة المطر الأخيرة، الحربُ والحبّ ..” هذه القصائد وغيرها الكثير في الديوان تشهد على حجم الانكسار والخذلان الذي عاشه السوريّ في ظلّ مأساته المُعاصرة، هي صرخةٌ أطلقها الشاعر ليؤكد أنّ الشّعر مازالَ يحملُ بين جوانحهِ الرسالةَ السّامية التي لا تقلّ أهميةً عن أيّة رسالةٍ توثّق، تفضحُ، وتؤرخ لحجم الوجع الذي عاشه الإنسان السوري عبر سنواتِ الحربِ التي طحنت أحلامهُ وذرّتها في السجون والمنافي، وامتلأت بها المقابر بكافّة أشكالِ الموتِ ..

يُذكر أنّ للشاعر محمد إقبال بلّو مجموعة شعريّة بعنوان (رحيق الغمام) صدرت عام 2011. أربعةُ كتبٍ جديدةٍ  شكلّت إضافة نوعية لمكتبتي،و بلا شكّ ستكون إضافة أخرى لو تُرجمت إلى الألمانية، لأنّ فئة من الألمان بدأت تستشعر حركة الأدب العربي هنا، وعليهِ أترك الباب مفتوحاً على سؤال سألتني إيّاه امرأة ألمانية قارئة قالت: ” رشحّ لي أسماءَ كتّاب عرب جُدد لأقرأ لهم “. 

.