ما بعد الانتخابات البرلمانية اللبنانية

إبراهيم بدوي /

لم تعطِ نتائج الانتخابات اللبنانية عقب إعلانها أي قوة أو طرف سياسي الأكثرية الحاسمة، بل إنها خلّفت معادلة توازنات نيابية جديدة، يمكن أن تكون سلبية جداً بمقدار ما يمكن أن تكون إيجابية في الوقت عينه.

الحكم على ذلك بات مرهوناً بإنتاج تحالفات وتفاهمات جديدة تكسر الانقسام الحاد على المستويين العمودي والأفقي، في مجلس استسلّم مهماته الدستورية، في ظل فقدان حزب الله وحلفائه للأغلبية البرلمانية.

وكشفت النتائج الرسمية للانتخابات البرلمانية في لبنان، الثلاثاء 17 مايو/أيار 2022، عن فوز لوائح المعارضة المنبثقة عن التظاهرات الاحتجاجية ضد السلطة السياسية، وتراجع لحزب الله وحلفائه بعد أن حصلوا على 62 مقعداً، ليفقدوا بذلك الأغلبية البرلمانية التي كانوا يحتفظون بها منذ عام 2018، فيما حصل حزب القوات اللبنانية لسمير جعجع، العدو اللدود لحزب الله، على 20 مقعداً برلمانياً.

هذا الأمر جعل الأنظار تتجه إلى موقف فريق الثامن من آذار (حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر)، الذي تعرّض لانتكاسة واضحة – حسب المتابعين – بعد فقدان الأغلبية، وتأثير هذا التراجع على الملفات القادمة في البلاد.

حزب الله وتغيير المعادلة

أشار مصدر دبلوماسي غربي أنه ليس متوقعاً تغيير الخريطة السياسية والتوازنات بشكل جدي في الوقت الحالي، إلا إذا طرأ تَحوّل في الأزمات الإقليمية والدولية.

ويشير المصدر إلى أنه قد يكون من سوء أقدار لبنان اندلاع الحرب في أوكرانيا وبروز تعقيدات جديدة ناتجة عنها في أوروبا، وتجميد التسوية حول الملف النووي الإيراني في فيينا، وتالياً جمود حركة التطبيع بين إيران والخليج العربي.

ففي خضم هذا سيبقى حزب الله -وفقاً للمصدر- مُمسكاً بجزء أساسي من الورقة اللبنانية. وسيكون على القوى الإقليمية والدولية أن تفاوضه، لأنه الأقوى على أرض الواقع.

بعبارة أكثر وضوحاً، لا مجال لإسقاط هذه السلطة أو تغييرها في السنوات الأربع المقبلة، والانتخابات انتهت بـ”انتصار نسبي” على حزب الله، وأي مواجهة يتَّجه إليها الوضع اللبناني ستصبح عنيفة، وتكون مُكلفة للجميع، ولن يجرؤ أحد على خوضها.

وأوضح المصدر أنه من المؤكد أن العلاقات بين المحورين المتنازعين داخل المجلس النيابي، أي حزب الله وحلفائه من جهة، وقوى التغيير والقوات والكتائب من جهة أخرى ستكون أكثر حِدّة، وستتسِم بالتوتر في بعض المراحل، إلى أن تنضج الظروف الإقليمية ويأتي الضوء الأخضر لتسويات كبرى.

على مدى 4 سنوات كاملة قادمة سيكون هناك متّسع من الوقت لنقل البلد من وضعية إلى أخرى، حسب المصدر. وسيبدأ التغيير باستحقاق تشكيل حكومة جديدة، ثم انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

بالمقابل، يشير المحلل السياسي طوني عيسى إلى أنه خلال السنوات الأربع المقبلة سيكون للقوات اللبنانية، ومعها بعض قوى المعارضة، دورٌ أكثر فاعلية.

وأظهرت نتائج الانتخابات أن قوى المعارضة والاعتراض (أحزاب المجتمع المدني و17 تشرين…) كانت ستفوز بالمعركة بالتأكيد، أي بغالبية المجلس النيابي، لو خاضت الانتخابات بلائحة واحدة في الدوائر الـ15.

معارك منتظرة.. رئاسة البرلمان

بالتوازي تشير مصادر سياسية مقربة من حزب القوات اللبنانية، أن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع افتتح باكراً معركة رئاسة مجلس النواب.

قال جعجع في أولى مقابلاته، باعتباره رئيس أكبر كتلة نيابية، وأكبر كتلة مسيحية، إنّ انتخاب رئيس مجلس نيابي “لن يحصل كما كان يجري في السابق، وعلى رئيس المجلس أن يكون رئيساً للدولة وليس للدويلة، والتعهّد باستعادة سيادة الدولة واحترام الدستور بالفعل والنظام الداخلي للمجلس والتصويت الإلكتروني”، على حد تعبيره.

هذا الموقف يمكن فهمه من باب طرح المقايضة باكراً بين رئاستَيْ الجمهورية ومجلس النواب.

ففي أولى جلساته التي ستعقد يُفترض بمجلس النواب الالتئام لانتخاب هيئة مكتب المجلس المؤلّفة من رئيس ونائب رئيس وأمينَيْ سرّ وثلاثة مفوّضين.

يفترض هنا أن يتم إعادة انتخاب نبيه برّي، المرشّح لرئاسة المجلس بوصفه المرشّح البديهيّ للثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) في البرلمان، في ظلّ عدم وجود نائب شيعي خارج كتلته البرلمانية.

ويُفترض بجلسة انتخاب برّي أن تحظى بغالبية الثلثين، مثلما يُنتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السرّي بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويُكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي.

هذا قد يجعل الانتخاب قابلاً للمقايضة، خصوصاً أنّ الغالبية النيابية لم تعُد بيد فريق سياسي بعينه.

الصفعة الكبرى

بالمقابل، تقول الكاتبة السياسية ملاك عقيل، إن الصفعة على وجه فريق الثامن من آذار والتيار الوطني الحر -على حد وصفها- آتت ثمارَها أكثر، على اعتبار أنّ الحريري اختار قدَرَه بنفسه، تحت الضغط أو من دونه، بينما خاض هذا الفريق معركة مصير وخرج منها خاسراً جزءاً من “جيشه” داخل مجلس النواب الجديد.

إذ خسر جبران باسيل، رئيس التيار الوطني الحر، أكثريّته المسيحية بتراجع كتلته النيابية من 29 نائباً في انتخابات 2018 إلى 19 نائباً، بعدما ترك نوابٌ طاولة تكتّل لبنان القوي، ليخرج أخيراً من معركة الصناديق بأقلّ من 18 نائباً.

بالمقابل، يقول المحلل السياسي طوني عيسى إن التيار الوطني الحر لن يشفى من الضربة التي تلقّاها في الانتخابات. وفي الاستحقاقات الآتية من تشكيل الحكومة، إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، إلى المؤتمر التأسيسي، خسر فرصته للمناداة بقيادة الطائفة.

إذ سيفقد التيار هامش المناورة الذي تمتّع به طويلاً، وسيكون أكثر اضطراراً إلى الاستعانة بدعم حزب الله في كل المحطات. في المقابل، ستنطلق القوات اللبنانية من رصيدها الجديد، ومن انتصاراتٍ لها رمزيتها، من دوائر الجبل والشمال والبقاع إلى جزين.

سقوط خيار الحريري

بالتوازي، يرى المحلل السياسي منير الربيع أنه إلى جانب سقوط هذه الخيارات كان هناك سقوط للكثير من الرهانات، فخيار سعد الحريري بالمقاطعة، ومحاولة نقل السنّة إلى 8 آذار وحزب الله لضمان عودته إلى السياسة، سقط بشكل مدّو.

أولاً من خلال نسبة الاقتراع في المناطق السنية، وثانياً من خلال خيار الناس التي ذهبت للتصويت لصالح القوات اللبنانية.

هذا السقوط -من وجهة نظره- أدى إلى تشظٍّ كبير فيما تبقى من تيار المستقبل على الصعيد التنظيمي. فأسقط الحريري المعيار السياسي لصالح المعيار الشخصي أو العائلي، وأعاد صيدا مثلاً إلى العائلية مقابل خروج آل الحريري من المعادلة.

فكما ذهبوا إلى حجب أصواتهم عن المرشح السني القريب من المستقبل يوسف النقيب، نكاية في رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، أسقط السنّة نظرية ضرورة سعد الحريري لضمان الطائفة السنية والاستقرار.

ويشير الربيع إلى أن ما قاله السنّة ينطوي على تحول كبير في المجتمع، فقد خرجوا من عباءة المستقبل الحاضر والسابق لصالح قوى التغيير، فأظهر ذلك ناخباً صامتاً اتجه نحو التغيير.

هل يعيش لبنان سيناريو العراق؟

بإطار متصل، يشير المصدر الدبلوماسي إلى أن الانتخابات النيابية أنتجت مشهداً سياسياً جديداً، انتقل من ثنائية 14 آذار و8 آذار، إلى ثلاثية حزب الله وحلفائه، مقابل القوات اللبنانية وحلفائها، وطرف ثالث يتمثل بالقوى التغييرية.

وبلا شك -حسب المصدر- فإن هذا المشهد سيؤدي إلى تعقيدات كثيرة في صياغة التسويات السياسية وآلية صنع القرار، خصوصاً في ثلاثة ملفات أساسية: انتخاب رئيس مجلس نيابي ورئيس للجمهورية، والاتفاق على حكومة جديدة.

والملف الثالث يشمل الجوانب المالية والاقتصادية والاجتماعية، وكيفية الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.

وهذا قد يؤدي إلى تكرار السيناريو العراقي، أي استمرار الأزمة السياسية والتعقيد، إضافة إلى انعدام قدرة حزب الله على فرض أيّ من مرشحيه لرئاسة الجمهورية.

هذا يأخذ المشهد السياسي أكثر إلى نقاش جديد حول الصيغة اللبنانية، وقد يكون هذا المجلس النيابي هو الأخير الذي يمثل جمهورية الطائف، وفق الواقعية المحوّرة التي فُرضت في تطبيقه.

فوز قوى التغيير في لبنان

أما في التفاصيل، فلعل أبرز ما في نتائج هذه الانتخابات، هو أولاً فوز عدد معتبر من مرشحي “قوى التغيير” (المجتمع المدني)، لاسيما أن البعض منهم قد خرق في مناطق سيطرة حزب اللّه ما شكّل مفاجأة كبيرة. وسيخوّلهم عددهم، إن أرادوا، تشكيل كتلة نيابية ممكن أن يكون لها كلمتها في الحياة السياسية اللبنانية، خصوصاً أنهم سيكونون صوت انتفاضة 17 تشرين (2019) داخل المؤسسة الدستورية الأم في الدولة اللبنانية.

أما النقطة الثانية، فهي سقوط رموز الحقبة السورية في لبنان، من أمثال رئيس الحزب القومي السوري أسعد حردان في الجنوب، في عقر دار حليفه حزب اللّه، ونائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي في البقاع، والنائب السابق طلال أرسلان في عاليه، بالإضافة إلى تحجيم الثقل الانتخابي لآل فرنجية في الشمال.

 وفي ذلك، فإن انتخابات 2022 تشبه نوعاً ما انتخابات 2005 التي جرت بعيد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، وانطلاق ثورة الأرز، وخروج الجيش السوري من لبنان، أي تلك الانتخابات التي شهدت سقوط رموز النظام السوري من أمثال طلال أرسلان، وإيلي الفرزلي، بالإضافة إلى سليمان فرنجية، والذين تمكنوا من العودة إلى الندوة النيابية في الدورات التي تلت، أي ابتداءً من دورة 2009.

و القوى الثورية هي سياسية ناشئة وغير تقليدية وُلدت من رحم الحراك الأخير، وهي التي كانت راكمت نشاطها السياسي منذ 2013 عندما  شكَّلت حالة مدنية رافضة للتمديد للبرلمان، بالإضافة لأزمة النفايات عام 2015 بما سُمي حينها انتفاضة “طلعت ريحتكم”.

هذا بالإضافة لتجارب خاضتها قوى التغيير في الانتخابات البلدية 2016، والتي استطاعت الدخول لبعض البلديات وانتخابات 2018، حيث كان حضوراً طفيفاً لتلك القوى السياسية الجديدة.

واليوم بعد الثورة والأزمة وانفجار مرفأ بيروت وما تمخض عنها من أحداث سياسية وأمنية واقتصادية، كان لافتاً الحضور والمشاركة لقوى تغييرية في البلاد في محاولة لطرح مشروع سياسي يواجه سياسات القوى التقليدية والمسماة “الأحزاب الطائفية”.

.