“بديل”  الديمقراطية الألمانية

أنجي مجدي

خلال انتخابات البرلمان الألماني (البوندستاغ) عام 2017، خطفت الأنظار لافتات تحمل صورة لثلاث منقبات يتوسطها عبارة “أوقفوا الأسلمة”، إذ كانت تملأ زوايا وشوارع برلين.

هذه اللافتات الدعائية كانت لحزب “البديل من أجل ألمانيا”، ذلك الحزب اليميني الشعبوي الذي فاز بـ13 في المئة من مقاعد البرلمان آنذاك، وباتت المرة الأولى التي يدخل فيها حزب يميني إلى البرلمان الألماني منذ عام 1960.

وكان فوز “البديل من أجل ألمانيا” محبطاً على الصعيد السياسي والاجتماعي، فالحزب الذي لم يكن قد مر أربعة أعوام على تأسيسه، استطاع ترسيخ شعبيته مستغلاً تداعيات قرار المستشارة السابقة أنغيلا ميركل في عام 2015 بفتح الحدود أمام نحو مليون من اللاجئين والمهاجرين وغالبيتهم من الشرق الأوسط.

وبينما تأرجحت انتصارات الحزب اليميني في السنوات اللاحقة، لكن أخيراً استطاع تعزيز شعبيته، فقبل أقل من عام على الانتخابات المحلية في ولاية سكسونيا، ذهبت استطلاعات للرأي إلى أن حزب “البديل” سيفوز بأكبر نسبة من أصوات الناخبين، فيما أعلن الحزب ارتفاع عدد أعضائه بمقدار الثلث في عموم البلاد.

وتظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أن حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AFD) يأتي في المركز الثاني على مستوى البلاد بـ23 في المئة، مرتفعاً من 10.3 في المئة بالانتخابات العامة الأخيرة في عام 2021.

ووفق وسائل إعلام ألمانية، تستهدف السلطات الاتحادية حزب “البديل” بسبب الميول المتطرفة لبعض أفرعه، حيث تصنف وكالة الاستخبارات الداخلية (مكتب حماية الدستور) أفرع الحزب في ساكسونيا وساكسونيا أنهالت وتورينغيا، باعتباره يمينياً متطرفاً، وفي خمس ولايات يخضع الحزب للمراقبة. ومع ذلك، في الولايات الألمانية الثماني المتبقية من أصل 16 ولاية اتحادية، يبدو أن السلطات لا ترى أي مشكلة في خطابه حتى الآن.

مشروع الحزب

يقوم مشروع حزب “البديل من أجل ألمانيا” على معاداة المهاجرين والأجانب والاتحاد الأوروبي والعداء لليهود، فالحزب اليميني المتطرف دعا ألمانيا إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي فيما سمى “ديكست”. والشهر الماضي، ذكرت الزعيمة المشاركة للحزب أليس فايدل، أن “البديل” سيعمل على تنظيم استفتاء على عضوية ألمانيا في الاتحاد الأوروبي في حال وصوله إلى السلطة، إذ يسعى الحزب إلى إصلاح الاتحاد الأوروبي والحد من سلطة المفوضية الأوروبية.

وأوضحت فايدل في مقابلة مع صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، أن حزب “البديل” يسعى إلى “إصلاح” الاتحاد الأوروبي والحد من سلطة المفوضية الأوروبية، ولكن “إذا لم يكن مثل هذا الإصلاح ممكناً، وإذا لم نتمكن من استعادة سيادة الدول الأعضاء في الاتحاد، فالقرار سيمنح للمواطنين وعليهم أن يقرروا، مثلما حدث مع المملكة المتحدة”.

ومع ذلك، تستبعد وسائل إعلام أوروبية هذا السيناريو، فعلى رغم انخفاض مستويات الدعم للاتحاد الأوروبي بين مؤيدي الحزب، تشير استطلاعات الرأي، التي أجريت في سبتمبر (أيلول) الماضي إلى أنه من غير المرجح أن يصوت غالبية ناخبي حزب “البديل من أجل ألمانيا” لمصلحة “الخروج”، إذ إن 52 في المئة منهم أيدوا فكرة البقاء داخل الاتحاد.

ويحتفظ الحزب بأجندة معادية بشدة للاجئين، حتى إن تحقيقاً استقصائياً ألمانياً كشف الشهر الماضي، عن اجتماع ساسة من حزب “البديل من أجل ألمانيا” مع نازيين جدد ووضعوا خططاً لتهجير ملايين اللاجئين من ألمانيا تحت مسمى “إعادة التهجير” والمقصود بها إعادة المهاجرين إلى أوطانهم من خلال ترحيل طالبي اللجوء وكذلك المهاجرين وحتى الألمان من أصول مهاجرة ممن فشلوا في الاندماج.

وبحسب تقرير شبكة “كوريكتيف”، فقد تحدثت رسالة الدعوة إلى الاجتماع عن “خطة شاملة بمعنى خطة رئيسة”. وترددت أنباء أن زعيمة الحزب طردت بعض الكوادر الذين حضروا الاجتماع.

لماذا صعد “البديل”؟

منذ برز حزب “البديل من أجل ألمانيا” للمرة الأولى، سعى المراقبون إلى تفسير صعود حزب يميني متطرف، يشبهه البعض بالنازيين الجدد، في الأرض التي حكمها أدولف هتلر ذات يوم. ففي العقود التالية للحرب العالمية الثانية وسقوط الرايخ الثالث، بذلت البلاد قصارى جهدها للقضاء على هذا النوع من التشكيل السياسي ولتعليم مواطنيها أن مثل هذه الجماعات خارجة عن المألوف.

ويقول مراقبون إنه من خلال النظر إلى التاريخ الأطول للديمقراطية الألمانية ما بعد الحرب، نستطيع أن نفهم لماذا تتخذ واحدة من أعظم قصص النجاح الديمقراطي في القرن الـ20، للمرة الثانية خلال قرن من الزمان، منعطفاً صعباً نحو حزب معاد للديمقراطية. فمن خلال إعطاء الأولوية “للإجماع المستقر” على حساب “الاختيار السياسي”، تركت الديمقراطية الألمانية ما بعد النازية نفسها عرضة لأحزاب مثل حزب “البديل من أجل ألمانيا”، الذي يمكن أن يدعي في أوقات الأزمات أنه يقدم بدائل حقيقية لهذا الوضع الراهن.

يقول المؤرخ المتخصص في ألمانيا الحديثة والأستاذ لدى جامعة جورج ماسون، صمويل هونكي، إن الأعراف السياسية التي ترسخت في ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية مهدت المسرح للتطورات الأخيرة في السياسة الألمانية. ويوضح أن بين عامي 1945 و1949، وهي الفترة التي احتلت فيها قوى التحالف الأربع ألمانيا، وضع قادة الحلفاء حدوداً مصطنعة للخطاب السياسي، وقاموا بتمييز أحزاب الوسط بينما إما حظروا أو ضيقوا الخناق على الأحزاب السياسية المتطرفة.

وتحرك الحزب الديمقراطي الاشتراكي، أقدم كتلة سياسية في ألمانيا، نحو الوسط مسقطاً الأيديولوجية الماركسية رسمياً من برنامجه الحزبي في عام 1959 والتزم بمسار ليبرالية الحرب الباردة. أقدم التكنوقراط الاقتصاديون على تصميم وحماية اقتصاد السوق الاجتماعية الشهير في البلاد، وهو نظام رأسمالي منظم يسعى إلى ضمان مستوى أساسي من المعيشة.

ويشير هونكي إلى أن زعماء ألمانيا الغربية وشركاءهم من الحلفاء كانوا يقدرون ديمقراطية الشكل أكثر من الوظيفة، والإجماع المستقر على الاختيار السياسي، فظلت ألمانيا الغربية على هذا المسار لعقود من الزمن وبين عامي 1961 و1983، فازت ثلاثة أحزاب فقط بمقاعد في البرلمان الاتحادي. وبفضل الحماية الأمنية الأميركية، والواثقة من قدرتها على التغلب على أشباح ماضيها الفاشي، والسخاء في دعمها لدولة الرفاهية الحديثة، ظل الإجماع في ألمانيا الغربية في مرحلة ما بعد الحرب ثابتاً لعقود من الزمن، وكانت الصفقة التي أبرمها السياسيون – وقوات التحالف في فترة ما بعد الحرب – هي “حياة مريحة مقابل مجال سياسي خال”، لكن نهاية الحرب الباردة زعزعت أسس هذه الصفقة.

ويتابع أستاذ التاريخ الأميركي، أن بعد اختراق سكان برلين الشرقية، الذين فقدوا وظائفهم، للحدود الغربية المحصنة في 1989، تذمر الألمان الغربيون من الأموال المطلوب منهم إنفاقها للمساعدة في إعادة بناء الولايات الجديدة المنضمة. وفي ظل الضغوط الاقتصادية، نفذت حكومة يسار الوسط بقيادة غيرهارد شرودر حزمة من الإصلاحات “النيوليبرالية” في أوائل العقد الأول من القرن الـ21، مما أدى إلى خفض شبكة الأمان الاجتماعي في البلاد. ولعقود من الزمن، أشار المفكرون في جميع أنحاء العالم إلى التأثيرات المزعزعة للاستقرار السياسي الناجمة عن مثل هذه السياسات، ومع ذلك، فمن خلال تآكل الثقة في الحكومة والوضع الراهن، فإنهم يخلقون مساحة لأحزاب مثل حزب البديل من أجل ألمانيا.

لاجئو سوريا وفجوة اليمين

لكن المراقبين الألمان كثيراً ما بحثوا في تفسيرات أخرى لصعود حزب “البديل من أجل ألمانيا”، ويشير البعض إلى أزمة اللاجئين السوريين في العقد الأول من القرن الـ21، عندما سمحت حكومة المستشارة أنغيلا ميركل بتوطين نحو مليون طالب لجوء في البلاد، مما أدى إلى ردود فعل شعبوية معادية للأجانب. وأشار آخرون إلى القوة غير العادية للحزب في الولايات الفيدرالية التي كانت تشكل ألمانيا الشرقية. وفي الآونة الأخيرة، سلطت الصحافة الألمانية الضوء على الشعبية غير العادية التي يتمتع بها حزب “البديل” على تطبيق “تيك توك” وبين الناخبين الألمان الشباب.

ويشير آخرون إلى أن ميركل التي قضت 16 عاماً في السلطة، إذ كان ينظر إليها باعتبارها رمزاً للاستقرار، لكن ما جعلها مصدراً للاستقرار هو نفسه ما أتاح لحزب “البديل من أجل ألمانيا” فرصة. حركت أنغيلا حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المنتمي إلى يمين الوسط نحو اليسار، بالتالي خلق فجوة على جناحها اليميني، وجعلت جميع الأحزاب الرئيسة تبدو متشابهة إلى حد ما، حتى أكثر مما كانت عليه في العقود الماضية.

حظر “البديل من أجل ألمانيا”

في مجتمع يدرك أن أدولف هتلر اكتسب قوة في البداية من خلال صناديق الاقتراع، حين فاز النازيون بغالبية الأصوات في الانتخابات الفيدرالية قبل الاستيلاء على السلطة، يرى عدد متزايد من القادة السياسيين بخاصة في اليسار، أن حظر حزب “البديل من أجل ألمانيا” – الذي يعتبرونه تهديداً خطراً للديمقراطية الألمانية – أصبح ضرورة متجذرة في التجربة التاريخية.

وعلى رغم شعبيته المتزايدة، خرج مئات الآلاف من الألمان إلى الشوارع في جميع أنحاء البلاد ضد، الشهر الماضي. وطالب البعض بفرض حظر كامل على الحزب اليميني المتطرف، بعد الكشف عن ذلك الاجتماع السري الذي جمع بعض أعضاء الحزب مع النازيين الجدد وغيرهم من المتطرفين لمناقشة ترحيل طالبي اللجوء وغيرهم من المهاجرين.

ويسمح الدستور الألماني بحظر الأحزاب التي “تسعى إلى تقويض أو إلغاء النظام الأساسي الديمقراطي الحر”، مما يسمح للدولة بشكل أساسي باستخدام الوسائل المناهضة للديمقراطية لمنع حزب استبدادي من تآكل الديمقراطية من الداخل. ومع ذلك تذكر مجلة “بوليتيكو” أن ثمة عوائق قانونية في هذا الصدد، ولم تفعل المحكمة الدستورية الألمانية ذلك إلا مرتين، عندما تم حظر حزب “الرايخ الاشتراكي”، وريث الحزب النازي في عام 1952، في حين تم حظر الحزب الشيوعي الألماني في عام 1956.

أخيراً في عام 2017، قضت المحكمة الألمانية بأن حزب “النازيين الجدد” المعروف باسم الحزب الوطني الديمقراطي (NPD)، على رغم استيفائه للمعايير الأيديولوجية للحظر، فإنه كان هامشياً للغاية بحيث لا يمكن حظره لأنه يفتقر إلى الدعم الشعبي بالتالي حظره يعرض الديمقراطية الألمانية للخطر.

ويخشى آخرون أن تأتي محاولة حظر حزب “البديل من أجل ألمانيا” بنتائج عكسية من خلال السماح لقادته بتصوير خصومهم السياسيين على أنهم يقوضون الإرادة الديمقراطية للشعب الألماني، وأنهم يسعون فقط إلى حظر حزب لا يستطيعون التغلب عليه.

ونظراً لأرقام استطلاعات الرأي التي حققها الحزب، فإن أي محاولة لحظره من شأنها أن تفرض معضلة مختلفة تماماً في شأن كيفية تعامل الساسة مع رد الفعل العكسي من جانب العديد من أنصار الحزب. وقال كارستن شنايدر، وهو ديمقراطي اشتراكي يشغل منصب المفوض الاتحادي لشرق ألمانيا، “إذا حظرنا حزب لا نحبه، لكنه لا يزال يتقدم في استطلاعات الرأي، فإن ذلك سيؤدي إلى تضامن أكبر معه”.

أضاف شنايدر في تعليقات لصحيفة “زود دويتشه تسايتونغ”، “وحتى من الأشخاص الذين ليسوا متعاطفين مع حزب البديل من أجل ألمانيا أو ناخبين، فإن الأضرار الجانبية ستكون مرتفعة للغاية”.

إنهاء حرب أوكرانيا

ومع ذلك، يستبعد مراقبون احتمال مشاركة حزب “البديل” في الحكومة الألمانية، لأنه حتى الآن لا يرغب أي حزب آخر في تشكيل ائتلاف معه. وهو على النقيض من بلدان أخرى في أوروبا، مثل إيطاليا والمجر وفنلندا والسويد، حيث وصلت الأحزاب اليمينية الشعبوية واليمين المتطرف إلى السلطة.

ويقول المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب، في بون بألمانيا، إن الأحزاب المعتدلة في حاجة إلى استراتيجية، كما تحتاج الحكومة الألمانية لتقديم حلول مبتكرة تجاه الأزمات والقضايا على المستوى الوطني والإقليمي والدولي لاسيما أزمة الطاقة وغلاء الأسعار والتضخم، حتى لا تصبح مواد انتخابية تستطيع من خلالها الأحزاب اليمينية المتطرفة توسيع قاعدتها الانتخابية، بخاصة أن اليمين المتطرف يستغل قضايا الرأي العام مثل الهجرة والهجمات الإرهابية وأزمة الطاقة وأزمة أوكرانيا والتضخم في حشد الأصوات وتأجيج التظاهرات والاحتجاجات واستقطاب أعضاء جدد لخدمة أجندتهم السياسية.

ويشير المركز إلى الحاجة لإنهاء حرب أوكرانيا في أقرب وقت ممكن فكلما طال أمد الحرب الروسية- الأوكرانية، زاد التطرف الذي من المرجح أن تشهده ألمانيا في الوقت الذي تكافح فيه من خلال الركود وزيادة المهاجرين. فإيجاد نهاية تفاوضية للحرب من شأنه أن يجلب الاستقرار الاقتصادي والسياسي لألمانيا ودول أوروبية أخرى، وهو عامل يجب أخذه في الاعتبار نظراً إلى التهديدات السياسية الداخلية التي تواجه ألمانيا الآن.