غزة تظهر حجم النفوذ الأمريكي على إسرائيل

الدليل ـ برلين

تفيد تقارير بأن الرئيس الأمريكي جو بايدن ومساعديه يشعرون بالإحباط والغضب من بنيامين نتنياهو، إزاء تزايُد عدد الضحايا في غزة، وبسبب رفض إسرائيل السماح بوصول إمدادات كافية من المساعدات الإنسانية إلى مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين أُجبِروا على النزوح من منازلهم التي دمرها جيش الاحتلال.

ومع ذلك لم يوقف بايدن تدفق الأسلحة الأمريكية، واستخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد ثلاثة قرارات لمجلس الأمن تدعو إلى وقف إطلاق النار. وخلافاً لكندا، لم تتراجع الولايات المتحدة بعد عن قرارها بوقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، حتى رغم أن الاتهامات بأن الكثير من موظفي الأونروا في غزة هم من أنصار حماس هي اتهاماتٌ إسرائيلية لا أساس لها.

هل سبق أن حملت أمريكا إسرائيل على تغيير سلوكها؟

ويفترض منتقدو بايدن أن الولايات المتحدة تتمتع بنفوذ هائل على إسرائيل، وأن كلمة حازمة من الرئيس – مقرونة بالتهديد بتقليص أو وقف المساعدات الأمريكية – ستجبر إسرائيل بسرعة على تغيير مسارها. ومع ذلك، فإن هذا الافتراض يستحق التدقيق، لأن الدول الأضعف كثيراً ما ترفض الامتثال لمطالب الولايات المتحدة، وفي بعض الأحيان تفلت من العقاب.

ـ حيث رفضت صربيا مطالب الناتو في مؤتمر رامبوييه عام 1999، وتحملت إيران وكوريا الشمالية العقوبات لعقود من الزمن، ولا يزال نيكولاس مادورو في السلطة في فنزويلا، ويظل بشار الأسد يحكم سوريا رغم إصرار الولايات المتحدة في وقت سابق على أنه “يجب أن يرحل”.

ـ تمكن هؤلاء القادة من تحدي الضغوط الأمريكية لأنهم لم يعتمدوا على الدعم الأمريكي، لكن حلفاء الولايات المتحدة المقربين يقاومون أحياناً الضغوط الأمريكية أيضاً، كما فعلت ألمانيا عندما واصلت بناء خط أنابيب نورد ستريم 2 رغم اعتراضات الولايات المتحدة.

ـ وحتى الدول المعتمدة بشكل كبير على الولايات المتحدة قد يصبحون عنيدين بشكل مدهش، فقد تقاعس القادة الأفغان كثيراً في تنفيذ الإصلاحات التي طالب بها المسؤولون الأمريكيون، ويُقال إن القادة الأوكرانيين رفضوا نصيحة الولايات المتحدة عند التخطيط لهجومهم المضاد المشؤوم في الصيف الماضي.

وكانت كابول وكييف تعتمدان بشكل شبه كامل على الدعم المادي الأمريكي، لكن واشنطن لم تتمكن من حملهما على القيام بما تريد. ـ ـ بالمثل، قاوم الإسرائيليون، من ديفيد بن غوريون إلى بنيامين نتنياهو، الضغوط الأمريكية في مناسبات عديدة – ولكن ليس دائماً- ما يشير إلى أن مقدار النفوذ الذي تمتلكه الولايات المتحدة في أي لحظة معينة يعتمد على أكثر من مجرد حجم السخاء الأمريكي.

ولا ينبغي الافتراض تلقائياً أن مكالمة هاتفية من بايدن والتهديد بقطع المساعدات الأمريكية من شأنه أن يدفع إسرائيل إلى تنفيذ الأوامر الأمريكية، خاصة إسرائيل في عهد نتنياهو الذي يرى في بايدن عدواً وفي ترامب صديقاً.

ومع ذلك، من الصعب تحديد أي من الجانبين لديه عزيمة أكبر الآن. ورغم أن نتنياهو لا يحظى بشعبيةٍ في الداخل، يدعم الرأي العام الحملة العسكرية في غزة، وحتى أقرب المنافسين السياسيين لنتنياهو مازالوا متمسكين به حتى الآن. يضاف لذلك معارضة نتنياهو لحل الدولتين (أو أي نوع من السلام العادل مع الفلسطينيين)، ورغبته في تجنب الملاحقة القضائية بتهمة الفساد، واعتماده على أعضاء مجلس الوزراء اليمينيين المتطرفين للبقاء في السلطة، والنتيجة هي زعيم إسرائيلي قد يتحدى التهديد الأمريكي العلني بحجب المساعدات.

لقد أصر نتنياهو بالفعل على أن جيش الاحتلال سوف يواصل مهاجمة مدينة رفح المزدحمة في غزة، رغم التحذيرات الأمريكية الواضحة. لكنه وافق أيضاً على إرسال وفد إلى واشنطن للتشاور في هذا الشأن، في إطار مناوراته المعروفة.

أمريكا متضررة بشكل كبير من استمرار الحرب

علاوة على ذلك، تُلحق الأزمة في غزة ضرراً حقيقياً بصورة الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم، وتجعل إدارة بايدن بلا رحمة وغير فعالة، ناهيك أنها ستجعل هزيمته في الانتخابات القادمة وشيكة.

وستكون التناقضات في سياسة الولايات المتحدة مدعاة للسخرية بفعل تناقضاتها، إذ تقوم واشنطن بإسقاط الغذاء جواً على السكان النازحين والجائعين في غزة، بينما في الوقت نفسه تزوِّد القوة التي أجبرتهم على الفرار وعرضتهم لخطر المجاعة بالأسلحة. وقد يؤدي هذا الوضع أيضاً إلى تعريض فرص إعادة انتخاب بايدن للخطر الكبير، ما يمنح البيت الأبيض سبباً آخر للتشدد مع إسرائيل.

وهذا لا يعني أن الولايات المتحدة تهتم بالوضع في غزة أكثر من اهتمام إسرائيل، بل إن النقطة ببساطة هي أن ميزان العزم يتحرك في اتجاه واشنطن، ولكن من المستحيل تحديد حجم ذلك الاتجاه.

دور اللوبي الإسرائيلي

وأخيراً، كان السبب الرئيسي الذي جعل رؤساء الولايات المتحدة السابقين يتمتعون بنفوذ أقل مما قد يفترضه المرء هو قوة اللوبي الإسرائيلي، الذي جعل من المخاطرة السياسية التهديد بتخفيضٍ كبير في الدعم الأمريكي.

ونظراً للنفوذ الذي تمارسه لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك) وغيرها من المجموعات في الكابيتول هيل، فإن الرئيس الذي أراد ممارسة ضغوط جدية على إسرائيل واجه دائماً انتقادات قاسية، بما في ذلك من أعضاء حزبه.

قد يتغير هذا الوضع تدريجياً أيضاً. إن الدفاع عن دولة تدير نظاماً من الفصل العنصري ليس بالمهمة السهلة، وخاصةً عندما تواجه الآن اتهاماتٍ بارتكاب جرائم إبادة جماعية. ولا يمكن بأي شكل نفي الصور المرئية المتدفقة من غزة، أو مقاطع الفيديو المزعجة على تيك توك ويوتيوب التي ينشرها الجنود الإسرائيليون أنفسهم، ما يجعل من الصعب على مجموعات مثل إيباك الاحتفاظ بالنفوذ.

الاستنتاج في النهاية هو أن واشنطن لديها الكثير من النفوذ المحتمل هنا، وأن العوائق التي تحول دون استخدامه أقل مما كانت عليه في الماضي. ولكن لأن قادة إسرائيل الحاليين مازالوا مصممين بشدة على هذه القضية، فإن حتى التهديدات الموثوقة بتخفيض الدعم الأمريكي قد لا تدفعهم إلى تغيير المسار بشكل كبير.