رسائل إيجابية من أزمة القدس

محمد أبو الفضل

 

اعتراف الرئيس الأميركي بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل وعزمه نقل سفارة بلاده إليها، يعد بالطبع تطورا فاصلا في مسيرة القضية الفلسطينية، مليئا بالدروس والعبر السياسية، التي إذا استوعبناها جيدا يمكن أن نفوق من الأوهام التي عشنا في كنفها سنوات طويلة.

القرار في ظاهره لطمة على وجوه العرب، وفي جوهره جرس إنذار بأن هناك ما هو أسوأ من ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، وما لم يتم الانتباه واليقظة والحذر حيال ما يجري سوف تتوالى علينا اللعنات والضربات، مستفيدة من الأزمات العربية المتراكمة.

الخطوة النوعية التي اتخذها ترامب حافلة بالدلالات، في شقها الدولي والعربي والفلسطيني، ويكشف الامعان في تفاصيلها عن رسائل محورية بدت غائبة عن ذهن كثيرين.

 

الرسالة الأولى، التخلص من وهم الراعي الأميركي لعملية السلام، ولظروف معينة توافقت رؤى عربية على القبول بوساطة الولايات المتحدة، للدرجة التي دفعت الرئيس الراحل أنور السادات للقول بأن 99 بالمئة من أوراق اللعبة في يدها، وهي إشارة على حجم النفوذ الأميركي الطاغي على إسرائيل في ذلك الوقت.

هذا الوهم، ظل سائدا بعد رحيل السادات، وكلما بدت روسيا أو دول الاتحاد الأوروبي قريبين من التسوية أو اللعبة، كانت العين العربية تصر على التوجه نحو الولايات المتحدة، وهو ما أفقدنا تعاطف البعض. ربما كانت واشنطن تملك العديد من أدوات القوة في المنطقة التي تعزز مقولة السادات، لكن لم نعط أنفسنا كعرب فرصة لمراجعة الشعار الذي وضعه الرئيس الراحل وسار خلفه كثيرون.

موقف ترامب الذي وقع كالصاعقة على رؤوس بعض القيادات العربية، حتى ولو علموا به قبل صدوره أو تلمسوا ملامحه مسبقا، فهو في النهاية يجب أن يرفع الغطاء عن الوهم التاريخي، ويدفع نحو ضرورة الدفع بلاعبين جدد.

الاتجاه نحو تقليص دور اللاعب الأوحد في التسوية، يتعزز بتراجع نفوذ واشنطن في المنطقة، وخسارتها لبعض المقومات الرئيسية التي جعلت وهم السادات يتحول إلى حقيقة لم يجرؤ أحد على مراجعتها.

بالتالي من الممكن الاستفادة من موقف الاتحاد الأوروبي المتحفظ على الخطوة الأميركية ويرى أنها “مضرة بجهود السلام”، وفتح الباب واسعا أمام اللاعب الروسي، الذي يستعد لتوظيف الانحياز الأميركي، بعد أن دعا الرئيس بوتين من القاهرة إلى استئناف التفاوض حول كل القضايا، بما فيها مصير القدس.

 

الرسالة الثانية، رفض التسويات الملغومة، حيث ذهب البعض إلى أن خطوة ترامب ترمي إلى فتح المجال لتدشين ما يعرف بـ “صفقة القرن” لتسوية القضية الفلسطينية، في محاولة لتبرير وقبول قراره، وتجاهل مساومات ومراوغات سابقة جعلت الفلسطينيين يتفاوضون مع حكومات إسرائيلية عدة، دون أن يقتنصوا جزءا معتبرا من حقوقهم التاريخية.

اللغم الذي وضعه ترامب لإجبار الفلسطينيين على التسليم بالأمر الواقع، لا يختلف عن جملة ألغام نثرتها واشنطن وتل أبيب في طريق محادثات السلام المتعثرة، وحشرتها سياستهما في زوايا فرعية، شغلتنا عن قضايا مركزية في لب الصراع، مثل القدس والتهجير واللاجئين والحدود والتوسع في بناء المستوطنات وغيرها، وأصبح الحديث منصبا على حصار غزة وفتح وغلق المعابر والوضع الانساني في الأراضي المحتلة.

الأسئلة السهلة تحولت الإجابة عنها إلى مسألة صعبة، مثل: ماذا تريد السلطة الفلسطينية من حماس؟ وما هي دوافعها لقطع الكهرباء عن غزة؟ وماذا فعلت حماس بعد انفرادها بإدارة القطاع؟ وكم عدد الموظفين الذين تقبلهم الحكومة بعد تسلم ادارة غزة؟ وهل يبقى سلاح المقاومة في يد الفصائل أم يخضع للسلطة الفلسطينية؟

الصدمة أو اللطمة التي وجهها ترامب، ربما تفيق القوى الفلسطينية، وتجبرها على التخلي عن الفروع والعودة للانشغال بالجذور، التي ثبت أن هناك من يتعمد تبديل أولوياتها.

 

الرسالة الثالثة، تتعلق بضرورة المضي قدما في المصالحة الفسلطينية، وجعلها نقطة انطلاق للتعامل مع المستجدات، والابتعاد عن المزايدات والشعارات الرنانة، لأن موقف واشنطن من القدس في حد ذاته، يمكن أن يحل بعض الألغاز الفلسطينية، ويدفع نحو الوحدة وتهيئة الأجواء وتبني رد فعل يتواءم مع حجم الجريمة التي ارتكبها ترامب، وعدم استغلاله من جانب البعض للقفز فوق مطالب المصالحة، التي تفرض على كل طرف تقديم تنازلات للوصول إلى درجة متماسكة من الاستقرار الداخلي، وطي صفحة المرحلة السابقة.

البعض تصور أن تجاهل مرور موعد تسلم الحكومة إدارة غزة في الأول ثم العاشر من ديسمبر الحالي، دون حدوث تمكين كامل، يعني نسيان جدول المصالحة، لكن الوحدة أصبحت مطلوبة اليوم أكثر من أي وقت مضى، والانخراط في تخفيف تداعيات قرار ترامب يفرض التمسك بالمصالحة، لأنها الباب الذي يمكن الدخول منه لتحقيق حلم الدولة، ونزع ورقة الانقسام التي دفعت حكومات إسرائيل للتنصل من العودة إلى المفاوضات، وإجبار الولايات المتحدة على مراجعة موقفها، وأن هناك عنوانا واحدا يضم جميع القوى، اسمه “منظمة التحرير الفلسطينية”.

 

الرسالة الرابعة، تخص الدور العربي المتعاظم الذي يقع على عاتق مصر، فعقب قرار ترامب تسارعت وتيرة التحركات، التي جعلت من القاهرة منطلقا لها، وهو ما يتسق مع الدور الصاعد لمصر في الأزمات العربية، في سوريا وليبيا ولبنان والعراق واليمن، فضلا عن فلسطين، ما يعيد التوازن الذي اختل في المنطقة لصالح بعض القوى الإقليمية.

مصر هي الوازن العربي الحقيقي، وبعد استعادتها لقدر من عافيتها على الساحة الخارجية بدأت تنخرط في مهام كثيرة، لأنها تتبنى منهج تغليب الحلول السياسية على الأدوات العسكرية، الأمر الذي ساهم في اطفاء بعض الحرائق، كان النفخ في احداها كفيلا بإغراق المنطقة في مزيد من الدماء.

 

الرسالة الخامسة: الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، قد يمنح بعض القوى الإقليمية الفرصة لتجاوز جزء من جراحها وخلافاتها، وتلتف حول إيجاد آلية لتفريغ قرار ترامب من محتوياته المادية وحصره في نطاق المضامين الرمزية، من هنا يمكن أن تكتمل حلقة الرسائل المهمة التي تنطوي عليها الخطوة الأميركية.

اترك تعليقاً