حين يَغمره الفرح مُتأخراً

الشاعر العراقي فارس مطر

موسى الزعيم /

فارس مطر شاعرٌ عراقيّ يقيم في العاصمة الألمانية برلين، له تجربته الشعرية المميزة، ولصوته الشعري  حضورٌ  في الساحة الثقافية العربية والألمانية، كان للغربة الأثر الكبير  في تشكيل فضاء قصيدته، والذي  تراوح بين السياسي الساخر،  والوجداني، وأوجاع الحرب وانعكاسها على ما هو انساني عام .

ولد فارس مطر  في مدينة الموصل سنة 1969  تشكّل وعيه الشعريّ والأدبي على يد والده، في بغداد كانت البدايات  وبعدها عمّان وبعد 2008 تعمّقت تجربته الشعرية ، وهو الآن في برلين منذ أكثر من خمس سنوات، وقد شارك في عددٍ كبيرٍ من الأنشطة الثقافية في برلين وخارجها، كان آخرها، مهرجان الثقافة الحديثة للحضارات الأولى في مدينة كمنتس الألمانية .

نال الشاعر عدداً من التكريمات و قُدّمت عن عالمه الشعريّ الكثير من الدراسات  النقدية.

عن  البدايات و الشعر،  والغربة  والفرح المتأخر  كان لنا الحوار التالي معه .

  • في النشأة والبداية هل كان الشعر شاغلك الأوّل ؟

  في مُفتتح الوعي مع النهوض الباكر عندما كنت أَتَهَيَّأُ للذهاب الى المدرسة

كان الطقس اليومي الصباحي لوالدي جاسم مطر، هو سماع الراديو، إذاعة بغداد، وكان صوت كلادس يوسف المذيعة العراقيّة التي اشتهرت بسلامة وجمال نُطقها للغة العربية، ينقشُ في وعيي ذلك التعلّق الجميل باللغة جزالةً ومعنى. سنوات الدّراسة الأولى وجديّة المعلمين في التدريس، لا سيما درس اللغة العربية والقصائد الفُصحى المغنّاة بعمقها الجمالي الموسيقي المتكامل من ناحية الصوت والكلمات، أغنيات فيروز الصباحية ورقيّ اللحن والغناء لمحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم وفريد الأطرش، كلّ هذا قادني وأودى بي إلى واحة الشعر. إذ وجدت أنّ تعلّقي بالنقاط أعلاه تم ، ويتم من خلال الشعر أي القصيدة، بمعنى آخر، أعني الوجدانيّة التي تحققها القصيدة في الذات. وهنا بدأت أعي أنّ شيئاً ما يشغلني ويحرّضني على الكتابة والاقتراب الخطير من هالةِ الشعر.

في مطلع ثمانينات القرن الماضي كان الجوّ مشحوناً بأصوات الطبول والهتافات والتعبئة التي ذهبت بالآباء والشبان بعيداً الى حيث البارود والفولاذ. كانت الأنهار تجري بخوفٍ والأشجار تؤجل نموّها والعصافير التي تبيت عليها لا تزقزق. وكانت بداياتي في محاولة كتابة القصيدة مرتبكة وقلقة. كانت رائحة الحرب تغطّي وتصبغ كلّ شيء لتحيله إلى هلع ووجل. تسلقت ظلال الحرب آنذاك الفنون والشعر والأدب. وخلال ارتباك المشهد كنتُ أطالع واستمع ما تيسر لي من قصائد ومجموعات شعرية وبرامج أدبية.

ذات يوم مائي على ضفاف دجلة، كنتُ أمشي مع صديق الطفولة “الشاعر فيما بعد” أحمد شهاب، وكنا نتحدث عن الأدب وعن القصائد التي كانت في مناهجنا الدراسيّة وعن الحداثة والنقلة في شكل القصيدة العربية على يد الشاعرة نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي و بلند الحيدري وشعراء لبنان من جماعة مجلة شعر الأولى سنة 1957 إلى آخرين أصدروا مجلة شعر العراقية سنة 1969 وأبرزهم الشاعر فاضل العزواي الذي كتب بيان شعر 69  في عددها الأوّل حيث طوّروا وانتقلوا وطرحوا رؤية مستقبلية لطريقة كتابة القصيدة الحديثة وسمات ومسؤولية الشعر والشاعر التي يجبُ أن يحملها ويعبر عنها.

وكان لشعراء الخمسينيات والستينيات والسبعينيات الدور الكبير في صياغة مُخيلتي الشعريّة. لقد كان الحديث مع صديقي الشاعر أحمد شهاب هو الشيء الذي رسخ حبّي وتعلّقي بالشع . 

  • ما الذي تعنيه لك الحرب إبداعيّا أو  شعريّاً؟

تحديداً وفي مطلع سنة 1986 أخذتني الحرب إلى جوّها الخانق، حيثُ اللون الخاكي والغبار وقسوة الفولاذ، والقذائف، والأصوات المحترقة، والخنادق. إنّها لعبة الموت والمواجهة التي تضع المرءَ أمام التكيّف القسريّ على الولوج في العتمة والمجهول دون عودةٍ. كان التجنيد إلزامياً حيثُ قضيت سنتين في الحرب وثلاث بعدها، أي خمسٍ.. كبرتُ فيها دهراً ومِتُّ فيها مراراً وكان الوقت يمرّ على وجهي والسُرَفُ وعجلات الناقلات تهرس جسدي الذي لم يكن شيئاً مذكوراً. الكثير من الشعراء (إلى حدّ ما  كنت كذلك) وظّفوا قصائدهم، بل ومذاهبهم الشّعريّة في موضوعةِ الحرب بالتخندق والاصطفاف وحصروا القصيدة في زاويةٍ حادّة واستخدموها بشكلٍ مُشوّه، جعلوا منها رصاصةً و قذيفة، أدخلوها عنوةً في الحروب وهذا يخالف رؤيتي المتواضعة للشعر (بالتأكيد، سبقني إليها كثيرون) إذ أنّ الشعر ليس قاتلاً والقصيدة ليس من وظيفتها أن تكون قذيفة أو رصاصة في بندقية. مهمّة الشعر هي الجمال وتأثيث الوجدان والتحريض على الإقبال على الحياة والاصطفاف بجانب جماليات الوجود وتوظيفها كملمسٍ حسّي وإن كان لابدّ لها من ذلك فهي تدخل المشهد بشاعريتها وجمالها الذي يلامس الوجدان والمشاعر ويثير الرقيّ . ربما لا أغالي إذا قلتُ أنّ المشهد العام أفسدته القصائد الرديئة. لذلك أجد أنّ الشاعر القلق هو الشاعر الذي يبحث ويطالع ويقيم تجربته ويصحح مساره من الارتباك المرحلي الذي أجده طبيعياً في التجربة الشعرية وعكس ذلك سيعاني الشاعر من التخشب والموات. عنت لي الحرب الكثير، لقد زودتني بخزين معرفي وإنساني من مشاهدات وصور شتّى لا يمكن نسيانها.  كانت الخسائر البشرية من الطرفين لا يعرف أحدها الآخر ولكلٍ أهلٌ، وأبناء، وبنات وحبيبات، لقد كانت حفلة الموت صاخبة.

لاحقاً في سنة  2020  صدرت مجموعتي الشعرية الثالثة (الفرح المتأخر يغمرني)

وقد تضمّنت اختلاجات و اكتنازات بدأت برؤية شاملة، أشبه إلى حدّ بعيد بالقصيدة السيرذاتية في سردٍ ملحميّ محلّق  لا يكاد يلامس الواقع إلّا في دلالات زمكانيةٍ مباشرةٍ، تؤدي التماهي بحذر الحريص على بناء نصّ شعري بأبعاد فنيّة متنوعة وبعمقٍ فلسفيّ مبسّط، يثير الأسئلة الوجوديّة الانسانيّة ويترك للقارئ حيرة الأجوبة.

ويحمل هموماً إنسانية شاسعة بدأً من الطفولة والوعي المتورط بالشعر إلى فترةِ حرب الثماني سنوات في العراق وفترة الحصار والمعاناة جراء الحرب الأهلية والنزوح والهجرة واللجوء إلى الأماكن الجديدة وصعوبات الاندماج والواقع الجديد والانفتاح على الثقافات والتجارب الشعرية العالميّة، هنا في العاصمة الألمانية برلين. لكنّ الثيمة الرئيسة في هذه القصيدة الطويلة (الفرح المتأخر يغمرني) والتي صدرت في كتاب يتجاوز المائة ورقة هي ثيمة الحرب والتي تحرص القصيدة على معادلتها باستحقاق الحياة وبجدارة صدر يتنفس القصيدة والموسيقى.

هل وجدت في نهر شبريه برلين دجلتك؟ أو هل لبرلين حصّة من قصائدك  باعتبارها الوطن البديل ولو إلى حين؟

الحنين شروع بالهبوب، وهو مبتدأ الجهات. غالباً ما أقول قُدّامي أزمنتي قاصداً سيرتي التي عشتها. في الطفولة كدت أن أغرق يوماً في نهر دجلة الذي لا يبعد كثيراً عن بيتنا في قرية الرشيدية بمدينة الموصل. الماء يخيفني لكنّ الضفة صديقتي. في العراق تمرغت بالأمكنة التي عشت فيها حدّ اكتساب سحنتي ترابية الملامح وانسيابية الرافدين. جلستُ مرّة تحت نخلة برحية (نوع من النخل العراقي تمره فائق الحلاوة) في قضاء أبو الخصيب بجنوب شرق محافظة البصرة وأكلت من تمرها فمسَّني سكرٌ أبدي لا صحو منه. الناس الوجوه الأصوات، أولى الكلمات، كلّ هذه الأشياء تسكنني وتمدني بقوة ويقين الثبات الواثق هنا، فكلّ قصيدة أكتبها الآن هي من تجلياتها في ذاتي. يقسم نهر دجلة مدينة الموصل إلى نصفين وعلى ضفتيه وقفت كثيراً ووضعت يدي في نميره السماوي. نهر الشبريه يقسم برلين لنصفين أيضاً، أقف عند حافته في جزيرة المتاحف وأتذكر دجلة، حبي لدجلة جعلني أحبّ نهر الشبريه فكلاهما ماء وكلاهما يجري وكلاهما ذكرى وحنين ولكلّ منها مجراه في وجداني وتأثيره المتباين وحضوره في قصيدتي. وقفت مرة عند ضفة نهر الشبريه وتذكرت دجلة فكتبت هذه المقطع من قصيدة الفرح المتأخر يغمرني، أردت من الشبريه أن يعينني على حنيني فكان نديمي المائي.

سأَقولُ لدِجلَة

أَقدامي تَعِبَتْ، فاترُكني أَحبو فوقَ نَميرِكَ، آخذُ من موسيقى مَوجِكَ

أُغنيةً للمنفى، للحُزن المتراكِمِ

عند ضفافٍ أَحسِبُها أَنتَ، فلا يشبهُك الماءُ هنا، وأَنا لا أَشبهُ موتي، وأَقولُ لحارس أَحلامي ضَعْ عَنِّي في الماءِ يَديكَ قليلاً أَخبِر دجلةَ ما قال النايُ لغُربته.

أحببت برلين لأنّها منحتني نهراً ورممت وجهي المتآكل حين ألهمتني بتاريخها ومعالمها ومكانتها وبتنوعها السكانيّ ولأنني وجدت آثار الحرب وطعنات الشظايا على جدران متاحفها وبواباتها، فكانت الوجه المعادل بالمعنى النقدي لبغداد التي تعرضت لما تعرضت له عبر حملات محاولات تدميرها. بغداد تُكَسِّرني وبرلين تُكَسِّرني وتحرران جسدي كنص بنتوءات تستشعر الحنين، فأكتب أغنيتي وقصيدتي. 

في قصائدك نفسٌ ملحميّ طويل، يتجاوز الأشكال الشعرية التقليديّة، هل يُعيدك الشعر إلى سيرته الأولى ؟  

        يحيلني هذا إلى الطريقة الفنيّة التي كتبت فيها القصيدة. أجد نفسي أستطيع الكتابة على بحور الشعر الصافية التي تكتب بها قصيدة التفعيلة. وهذه الاستطاعة لم تأت مُصادفة، بل إثر مداومة على الدّربة والمرنة والقراءة العامة للقصيدة العربية بدأً من شكلها العمودي إلى التفعيلة وإلى  قصيدة النثر. هذه المواكبة، جعلتني أعي مراحل تطور القصيدة باعتبارها مرتبطةً باللغة زمناً ومتغيرات. يطمح الشاعر أن يكون شاعرياً في قصيدته وأن يحقق السحرية المتوقدة في روحيتها، ويمكن هذا له إذا امتلك أدواته الإبداعية من موهبة وثقافة وتَمَكُن، واذا أجاد فهم وقراءة مناخ المتلقي. أجدني قريب من قصيدة التفعيلة في مرحلتي هذه إذ أكتبها دون التزامي بالقافية. والكثير من القراء يعدّون قصيدتي هي قصيدة نثر لأنّهم لا يرون فيها قافية، كما ذكرت لكنّها قصيدة تفعيلة تعتمد العروض بشكلٍ ملتزم وتبعد عن شكل قصيدة التفعيلة الرتيب والمستهلك، إذا جاز القول، لتلبس ثوب قصيدة النثر الحديثة فهي تحقق شروطاً مُهمة من شروط قصيدة التفعيلة، لكنها تواكب مناخ الشعر اليوم وتحقق نقاطاً مهمّة تتبناها قصيدة النثر. ومسألة الالتزام بالوزن عندي هي حالة جماليّة ايقاعيّة إبداعية أكثر من حالة تقييد. برأيي إن القصيدة ‏العربية المتجددة والشاعرية –ـ ـ ـــ -بغضّ النظر عن الشكل- قادرةُ على أن تدخل مناخ الحداثة وقادرة على إثبات نفسها. سيرة الشعر الأولى ‏في حقيقتها هي الشاعرية المتوقدة في القصيدة ‏والتي كانت في مرحلة ما تتحقق بالوزن والقافية وسرّ التماع وديمومة الشعر هو هذا التباين والتطور المشوّق لأشكاله. علماً أنني أحبّ قصيدة النثر كثيراً وأدعو إليها وهي أهمّ تطوّر مسّ القصيدة العربية وبرأيي؛ هي قادرة بجدارة على اثبات نفسها منذ انطلاقها إلى اليوم وفي المستقبل أيضاً.

في ديوانك الأخير الفرح المتأخر يغمرني، تحمّل قصائده الكثير من الأسئلة الجدليّة. حدثنا عن أسئلة هذا الفرح المتأخر.  

اذا وصل الفرح متأخراً فلا قيمة له، لأنّه لن يحقق فعله في من كان ينتظره. هذه القصيدة الطويلة التي صدرت في ديوان مستقل بطبعتين عربيتين في العاصمة الأردنية عمان 2020 وفي بغداد 2022 وتُرجِمت مقاطع منها الى اللغة الألمانية ألقيتها في مهرجان الثقافة الحديثة للحضارات الأولى في مدينة كيمنتس الألمانية في سبتمبر الماضي، ‏وثقت هذه القصيدة خسارات صاحبها -الشاعر والقارئ معاً- وأوقاته التي كانت ممغنطةً بتجاذبات أثرت في سعادة وشقاء أجيال عاصرت الحقبة من 1969 إلى يومنا هذا.

الجدل ‏الكبير والوحيد الذي تثيره الأسئلة في القصيدة هو: لماذا هذا الغياب القسري الذي فُرِضَ على كامل تلك الأجيال التي قضت في الحروب لأجل اللاشيء.

يذكر أنّ الشاعر فارس مطر قد أصدر عدد من الأعمال الشعرية وكذلك في  النقد الأدبي وله الإصدارات التالية :

كتاب في النقد الأدبي بعنوان (شعرية العشق بين حضور المرأة وغياب المكان الحميم) دمشق / دار تموز2012

مجموعة شعرية بعنوان (سنبقى.)   عمان / دار ورد للطباعة والنشر 2013

 مجموعة شعرية بعنوان (تمرات في الربذة) العراق / دار صحارى 2014

مجموعة شعرية بعنوان (الفرح المتأخر يغمرني) الطبعة  الأولى عمان / دار الأهلية  2020.

‏مجموعة شعرية بعنوان (الفرح المتأخر يغمرني) الطبعة الثانية صدرت في 2022 عن دار أواهل في العراق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* فارس مطر شاعر عراقي يقيم في برلين

.