جسور متأرجحة

مشاهداتٌ انطباعيّةٌ في الفلسفةِ الحياةِ والتغيير

موسى الزعيم/

هو عنوان الكتاب الذي صدرَ مؤخرا للكاتب والصحفي اللبناني ناجي طاهر، عن دار فواصل للطباعة والنشر في بيروت ويقع في حدود 470 صفحة، قُسّم الكتاب إلى ستة فصول منها “فلسفيّات خفيّة،  شؤون وشجون لبنانية، يساريّات ،مشاهدات.. بالإضافة إلى خواطر قصيرة، عالج الكتاب قضايا مختلفة، من أبرزها العلاقة بين الشرق والغرب من خلال وجهة نظر المؤلف والذي يعيش في المانيا منذ2001

كتب ناجي طاهر زاويته الصحفية على “جدار برلين” في ملحق شباب السفير لعدّة سنوات، وفي غيرها من الصحف، وكان قريباً من قضايا الاستشراق والفلسفة من خلال دراسته للماجستير  في جامعة بوخوم في ألمانيا

حول كتابهِ، وحولَ  ضرورة تدعيم  الجسور المتأرجحة كان لي الحوار التالي معه:

1 – في البداية دعني أبدأ من العنوان  هل أردتَ من “جسور متأرجِحة” الحالةَ السياسيّة والفكريّة العربية أم رمزيّة العلاقة الشرق و الغرب خاصّة ألمانيا ؟

جسور متأرجحة، هي في نظري شيء من كلّ هذا، فهي قد تكون بمثابة المُحاولة لمدّ وتوطيد الجسور ما بين الشرق والغرب ونحن، كمهاجرين، ومجموعات عربيّة لجأت، أو قررت بوعيها وخياراتها الحياتية أو مرغمةً نتيجة ظروف بلادها القاهرة، أن تخوض غمار تجربة الهجرة والعيش في البيئة والمجتمع الألمانيين، نحن بالطبع نمثّل إحدى تجلياتها، كوننا جزء منها. ففي هذا الكتاب أصداءٌ كثيرةٌ من هموم المهاجرين ومن أشكال علاقاتهم بالمجتمع الألماني إلى الكثير من القضايا التي أثيرت ولا تزال في الإعلام والمجتمع فيما يتعلق بالمهاجرين والإسلام والصورة النمطيّة عنه. إلخ، إلى أشكال التفاعل الثقافي الكثيرة التي نعيشها ونتواصل فيها مع الألمان هذا إضافة إلى الشقّ الآخر من الكتاب، الذي يرتبطُ بالشؤون والشجون العربية واللبنانية وأحلام التغيير والإصلاح المتكسرة..

2- “اعرفْ نفسكَ” هو عنوان  البحث الأول من الكتاب، هل كان ذلك مُفتتح للبحث عن الذات العربية في هذا الخضمّ الهائل من التسليع والاستهلاك البشري؟

 يمكننا الذهاب هذا المذهب، إذ أنّ ادعاءات المعرفة في ثقافتنا غالبة على الوقائع، وهذا ينطلق من الفرد. نحنُ لم تُدخَل الفلسفة في تربيتنا وفي مدارسنا كبنية تفكيريةً، ومنطلق سقراط المعرفي هذا، هو الذي أسس لنظرية المعرفة، وأنا أدعو في الكتاب إلى جعل الفلسفة نمط تفكير سائد ويومي ومبسط، ومنطلق هذا المنطق، الاستعداد لإطلاق التفكير الحرّ وإشاعة مناخات التربية الحرّة التي يسودها طرح الأسئلة وقبول الآخر واحترام عقل الأفراد صغارًا أم كبارًا! وهذا ما تفتقر إليه الذات العربية التي تعيش على التلقين والثقافة السمعية والتسطيح والاستهلاك والميل إلى التصديق المباشر وعدم “وجع” الرأس و”شغل البال” بالتفكير! التفكير في ثقافتنا حالة مرضيّة!

وهكذا نجد أن الفلسفة الخفيفة والنقدية، حاضرة في هذا الكتاب، لكنها لا تطغى عليه، بل إن الحضور الأكبر فيه للاجتماعي والثقافي، من الظواهر والمشاهد التي كانت تُثار في الإعلام الألماني، أو تلك التي كانت الجاليات العربية هنا تعايشها أو تعاني منها. 

وما يفيد التذكير به، أنّ الكتاب بمجمله، يتحدّث عن قضايا مُشتركة بين الألمان والعرب، أو ظواهر أو كتب ألمانية عالجت مواضيع الإسلام والإرهاب والتطرف، والإيمان، والإلحاد، وغيرها. والجدير ذكره، أنني كنتُ أكتب في ملحق جريدة السفير اللبنانية، بشكلٍ دوريّ  تحت زاوية “على جدار برلين” امتدت لسنوات عديدة، نشرتُ فيها مواضيع كثيرة، كلها عن قضايا ثقافية عامة، ألمانية، عربية مشتركة.  إضافة إلى مقالاتٍ نُشرت في صحفٍ عربيةٍ أخرى.

هكذا ضمّ الكتاب في الجزء الخامس مقالاتٍ كثيرةٍ منها ما كان على سبيل المثال عن قوانين الهجرة وانعكاساتها على حياة المهاجرين ونظرتهم لأنفسهم وعلاقاتهم بأًوطانهم، وكيف أن جلّهم بات ينحو إلى الاستقرار والتأسيس في هذه البلاد بعدما كانت تطغى على وجودهم سابقًا فلسفة الادخار والاستثمار في الأوطان الأصلية، نتيجة الشعور بعدم الاستقرار والإقامة المؤقتة.. إلى علاقات المهاجرين أنفسهم وتبدل نظرتهم لأوطانهم .. إلى معاناة هذه الجاليات مع سفارات بلدانها هنا في معاملاتها وإجراءاتها المُعقدة.. إلى الصراع الذي راح ينشأ ما بين أجيال المهاجرين من الرعيل الأول وابنائهم وأحفادهم الذين راحوا يندمجون أكثر فأكثر في المجتمع الألماني ويتخلون أو حتى يبيعون البيوت التي شيّدها لهم أهلهم في قراهم هناك في أوطانهم الأصلية، حتى صحّ فيهم المثل “مالُ ألمانيا يعود إليها”. وهذا أدّى، برأيي إلى نشوء حالة وجدانية حادّة لدى جيل الأهل من الجيل الأول وإلى حدٍ ما الجيل الثاني؛ أي الذي أتى إلى هذه البلاد عن سنّ متوسطة، فهؤلاء باتوا يُضمرون ما يشبه العداء أو الريبة من النظام التربوي والمدارس وقوانين منح الاقامات والجنسيات الألمانية، التي رمت برأيهم لسلخ أولادهم عنهم وعن ثقافتهم ودينهم.. ونتيجة هذا الصراع تجّلت مظاهر زواج الأقارب وبرزت حالات الانكفاء الثقافي الهوياتي الذي دفع بهذه الجاليات للتشدد في أمور أكثر بعد من المجتمعات الأصلية التي نزحوا عنها..

3- لم يكن للكتاب منهجٌ بحثيّ مُحدد، هل اتبعتَ رؤية خاصّة في ذلك؟ 

هذا صحيح، وأنا تعمدت هذا الأمر، أذ لم أشأ أن يكون هذا الكتاب متخمًا بالدراسات الأكاديمية ومصطلحاتها الجافة، فلهذا تراني سلكت درباً تخلط العام بالخاص، وتأخذ المقالة أو شبه الدراسة فيه طريق الحكاية والحوار، وهذا ما أحسبه إنزال الفلسفة من أبراجها، وتحدي “الأكاديميا” إذا شئت، لأن المآخذ عليها باتت كثيرة، والحديث يطول حول سلطات المعرفة ومؤسساتها وطواقمها وحساباتها المسبقة .. أمّا العامل الذي دفع أكثر باتجاه تنوّع الكتاب على هذا النحو، هو تأخّري ربما في خوض غمار نشر الكتب، الأمر الذي جعل المادة المكتوبة المنشورة في الصحف وغير المنشورة، تتضخّم، بعد أن لفت بعض المحبين من الأصدقاء نظري إلى ضرورة جمع هذه الكتابات المبعثرة خشية ضياع بعضها.

4- هل أردت من جسور متأرجحة أن يكون شاهداً على أمكنة معينة وتواريخ مُحددة لها مُبرراتها.

سؤال جميل، بالطبع كان هذا هاجسًا كبيراً في هذا الكتاب، فكل نصّ أو مقالة نشرت فيه، كان لها بصمتها عندي، إن “جسور متأرجحة” هي جسور بين الأمكنة والأزمنة المتأرجحة بين الشرق والغرب، بين الغربة والأوطان التي باتت غريبة عنّا رغم أنها لا تنفك تسكننا.

5- تطرقتَ لعددٍ من القضايا الألمانيّة، هل تعتقد أن جسوراً ثقافية عربية ألمانية بدأت تتثبّت أوتادها في السنوات الأخيرة.

لا شكّ أن العلاقة ما بين الألمان والعرب، تنتمي لهذا التاريخ الطويل من التثاقف والتواصل الذي حكم العلاقة بين الغرب الشرق في مروحة أوسع. وبالطبع علاقة الألمان بمنطقتنا وثقافتنا وهذا ما عبّر عنه الاستشراق الألماني، وذلك الاهتمام اللافت بمنطقتنا ولغاتها وتراثها وبالطبع الإسلام  والقرآن والحديث وغيرها، ومن أبرز سمات الاستشراق الألماني أنه لم يكن مسكونًا أو مهجوساً بالأبعاد الكولونيالية والاستكشافية التي كانت لدى مستشرقي الدول الاستعمارية المعروفة.

 وقد برز كتّاب ومفكرين ألمان كبار أبدوا إعجابهم وتأثرهم الكبير بالثقافة الشرقية والعربية.. بالمقابل شكلت الفلسفة الألمانية وأعلامها الكبار محطّ إعجاب رواد الثقافة العربيةً وحجم التأثر بهم كبيراً جداً، هذه عوامل تاريخية عريضة، ولكنّها لا يجب أن تخفي الظلال الثقيلة التي تهيمن على العلاقة الملتبسة بين الغرب والشرق، والتي لا تزال صورها النمطية تظهر إلى العلن في الاعلام هنا أو هناك. ولا شكّ أنّ هذه العلاقة شهدت جسورًا، ممتدة وبعضها متأرجحة وتحتاج لتدعيم دعائمها بشكلٍ أعمق. وهذا ما أحسب أنه لا يحصل بشكل كافٍ، ويبقى في إطار بعض النّخب والمؤسسات، ولكن معاهد وكليات الاستشراق في الجامعات الألمانية تؤدي أدوارًا فعّالةً في هذا السياق!

يبقى دور الجاليات العربية والإسلامية التي تقيم في كنف هذه المجتمعات، أرى أن هذه الجاليات أمام مسؤوليات تاريخية، بسبب وجودها هنا، بمعنى أنّها انتقلت على شكل أفراد جاؤوا للتعلم أو العمل والعيش هنا، أو جماعات بفعل الحروب  والمآسي، كحال الفلسطينيين واللبنانيين والأفغان والسوريين لاحقًا، أما المغاربة والأتراك فتختلف ظروفهم عن السابقين..

أقول إنّ هذه الجاليات، يمكن لها أن تؤدي أدوارًا عظيمة في عملية التواصل والانفتاح على الآخر والتنوير والتثاقف، بمعنى التفاعل الثقافي وتبادل الخبرات الحياتيّة والفكريّة والثقافيّة، فبهذا المعنى يمكن أن تكون هذه الجاليات جسور تواصل وضخّ طاقة دفع جديدة واضافية في المجتمع الألماني، ويمكن لها أن تلعب الدور المساعد  في التواصل مع أوطانها ومساعدتها وعدم قطع الصلات الثقافية معها، وعلى رأسها اللغة والتعليم وتقديم صورة مشرّفة وعصرية ومتسامحة ونبذ الأشكال الصدامية والانعزالية والمتطرفة التي تدفع باتجاه إحداث قطيعة ما بين هذه الجاليات والمجتمع الذي تعيش في أكنافه.

وفي هذا الكتاب عرضٌ لبعض النماذج المعاصرة من الأكاديميين العرب أو الأتراك الذين يقدمون مساهمات عصرية وابداعية في تقديم تراثنا، وثقافتنا وأدياننا، وبهذا السياق يأتي المقال الذي تحدث عن صدور القرآن المصور للأطفال باللغة الألمانية مثلاً.

بالطبع الأصوات المتطرفة والتي تحمل “كليشيهات” وأحكاماً وصوراً نمطية عن الآخر وتروّج لها وتعمد لنشرها وترسيخها بشكلٍ واسعٍ، هذه موجودة لدى الطرفين، وهنا يأتي دور المثقفين والمتنورين والناس العاديين في أن يعمموا ثقافة الحوار والتواصل مع الآخر، وسيادة مناخات الحريّة والنقاش في بيوتنا وأوساطنا..

وما لا شك فيه أنّ هذا سيقودنا لموضوع التفاعل والاندماج والخصوصية والهوية، وكلّ ما يمكن أن تثيره هذه المواضيع، ولكننا في عصر العولمة، والثورة الرقمية ووسائل الاتصال الحديثة، لم تعد المفاهيم التقليدية القديمة صالحة أو كافية لوحدها لتفسير وشرح هذه المسائل، فاليوم لم تعد الأوطان فقط هي التي ولدنا فيها وانجبتنا، وقدمنا كلّ نضالنا وحياتنا من أجل العيش الكريم فيها واجراء التغيير الذي حلمت كلّ هذ الأجيال المُحبطة فيه، لا لم تعد هذه الأوطان التي تركتنا لموتنا وسعت لنفينا واقصائنا، هذه الأوطان العربية المثقلة بأنظمتها وفسادها المتأصل، هذه الأوطان تراها صارت صورًا لذكريات أفلت كتبناها على الجدران، فصارت أغانٍ وأشعارًا ومواويل و حكايات. بينما تجلّى الوطن  الحقيقي بكونه المكان الذي يمنحك الأمان والحق في الحياة والتعبير والصحة ..

 تاليًا علينا أن نقدّر هذه الفرصة التاريخية المتاحة لهذه الجاليات باحتكاكها المباشر مع حضارات متقدمة أشواطًا بعيدة عنا، وعلينا الاستفادة من هذا التواجد والدفع باتجاه توجيه أولادنا نحو التعليم العالي والبحث والمهن التقنية، والارتقاء في هذا المجتمع، واحترام تقاليده وقوانينه ! علّ هذه الأجيال تنجح لاحقًا في ردم الهوّة الحضارية من بين الشرق والغرب، كذلك في تأصيل ثقافة التنوير والعصرنة ونقل المعرفة إلى بلادنا.

6–   لماذا لم تُفرد لنصوصك الأخيرةِ كتاباً مستقلاً؟ ما رأيته أنك تمتلك قلم أديبٍ مبدع وخاصة في فنّ الخاطرة ؟

 بداية شكرًا لك على هذا الرأي الذي يسرني ويشرفني. وأسمح لنفسي أن أقول إنك أصبت مسالة مهمة جداً، كانت قد شغلتني حقيقةً في أثناء الإعداد للكتاب. وقد كانت عدّة أسئلة، بل هواجس كثيرة منها؛ كيف سيكون الكتاب، حجمه، مضمونه، كان الأجدر بي  إصدار كتابٍ منذ فترة، طالما أنّ المادة المكتوبة موجودة، فلماذا لا يتمّ نشرها؟ لعلها تفتح أمامي أشكال تواصل جديدة!

نعم كانت الفكرة من هذه الخواطر أن تكون نواة كتابٍ منفصلٍ لخواطر متفرقة وشذرات فلسفية نثرية، تتوزع مواضيعها بين الحياة والوجود، والحبّ، والمرأة، والغربة..

والفكرة قائمة، ثمّة بعض الكتابات المتفرقة التي أجمعها بتمهّل، أتمنى أن تُبصر النور لاحقًا وتلقى إعجاب القراء!

في جسور متأرجحة رأيت أن من شأن هذه الخواطر أن تضفي رونقًا ومساحة للتأمل على أجواء الكتاب فأدرجتها فيه.

ثمة نقطة مهمة شغلتني كذلك طوال فترة الإعداد للكتاب هي حجمه، وصرت أقارن بين ما يصدرُ هنا وما يصدر في بلادنا، ونحن شعوب تعاني مشاكل حقيقية في القراءة، فمعدلات قراءة الانسان العربي في السنة قليلة جدًا قد لا تصل إلى الصفحتين.

لعل جسور متأرجحة دعوة بشكلٍ عام للقراءة، وهذا الكتاب الذي يمكن أن يقرأ فيه أي شخصٍ صغير أو كبير، فهو كُتب بلغة بسيطة ومواضيعه منفصلة وقائمة بذاتها، وبعضها شذراتٌ تتألف من سطرين وبعضها الآخر من عدّة صفحات.

*ناجي طاهر كاتب وصحفي لبناني مقيم في ألمانيا

.