بين الاندماج ورفض اليمين المتطرف !!

 

إميل أمين

 

في النصف الأول من مارس المنصرم أطلق وزير الداخلية الألماني «هورست زيهوفر» تصريحاً مثيراً لغضب مسلمي أوروبا إذ اعتبر أن الإسلام لا يمثل جزءاً من ألمانياً والتي أكد على هويتها المسيحية بالمطلق، رافضاً اعتبار أيام الأعياد الإسلامية إجازة رسمية بشكل مؤكد لألمانيا».

تستدعي تلك التصريحات تساؤلاً جوهرياً عن منطلقها وهل هو المزايدة على التيارات اليمينية الألمانية التي حازت على نحو مائة مقعد في «البوندستاج» الألماني الحالي، ممثلة في حزب البديل من أجل ألمانيا؟

أم أن التصريحات تجيء كتعبير عن رؤية وتوجه حقيقيين متجذرين في النفس الأوروبية، رغم قرون التنوير الأخيرة؟

يستلفت النظر أن تصريحات «زيهوفر» وردت في أطر منافية ومجافية لما سبق وأقرت به المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل»، والتي أشارت إلى أن الإسلام بالفعل جزء من تاريخ ألمانيا، وبالتبعية حاضرها وكذا مستقبلها.

هذا المفهوم أكده الناطق باسم «ميركل» حين أشار إلى أن ألمانيا بلد تقاليده يهودية مسيحية بالفعل، لكن وجود «ملايين من المسلمين» يعني «من وجهة نظرنا قيمنا وقانوننا وديانتنا أن الإسلام يشكل جزءاً من ألمانيا».

 

ضرب فيروس التعصب والتشدد في ألمانيا، ومعه بات رهاب الإسلام «الإسلاموفوبيا» واقع حال ملموس، ولعل منطقة «حوض الرور» الذي كان يعرف سابقاً باسم «بوتقة الاندماج» أضحت دليلاً سيئاً على الانتكاسة التي تعشيها قيم ألمانيا التقدمية.

تاريخياً كانت تلك المنطقة مصب تجمع للعمال من إيطاليا وإسبانيا واليونان، أولئك الذين احتاج إليهم الألمان لتسيير عجلة الصناعة هناك، فيما القسم الأكبر منهم جاء من مسلمي تركيا. اعتبر «حوض الرور» سابقاً ملاذاً للمهاجرين، فيما اليوم ووفقاً لتقرير جديد نشرته مؤسسة «بروست» الألمانية، بات مثالاً للزيادة المستمرة لظاهرة الإسلاموفوبيا، وعدم الثقة بين المجتمعات المحلية والمهاجرين.

لا تقتصر مخاوف رفض التعايش الواحد على منطقة بعينها في الداخل الألماني، بل تمتد إلى عديد من المدن الكبري في شمال ألمانيا وجنوبها، الأمر الذي دعا العديد من الصحف الألمانية إلى التحذير من الاعتداءات المتتالية على المسلمين في ألمانيا، إذ غالباً ما تشتكي مرتديات الحجاب المسلمات من التعرض للإساءة في الحياة اليومية، ووقوع اعتداءات جسدية أيضاً على البعض منهن، وإن لم توجد بعد إحصائيات مستقلة في هذا الشأن.

 

والسؤال هو هل ساد اليمين الأوروبي المتطرف في الداخل الألماني مرة وإلى الأبد كما يقال؟

الشاهد انه منذ أن اطلق «زيهوفر» تصريحاته تلك، وحالة من الانقسام تتعمق في الأحزاب السياسية الألمانية، بل وتعتري كذلك المسؤولين الألمان من وزراء وعمد للمدن الكبرى، وقيادات سياسية وحزبية.

بعض الأصوات تؤجج الصراع، وكأنها تسعى لأن تبقى النيران مشتعلة، لكن في المقابل تبدو هناك أصوات أكثر عقلانية واعتدالاً من نوعية رجالات حزب الخضر، فقد تحدثت رئيسة الكتلة البرلمانية للحزب «كاترين غورينغ – إكارت» بانها «تريد توجيه رسالة واضحة تفيد بأنه لا تسامح مع العنف في بلدنا أيا كان مصدره أو الجهة المستهدفة»، وقد اعتبرت أن «زيهوفر» أهان مشاعر المسلمين بتصريحاته عن الإسلام معتبرة الأمر «فضيحة».

الذين استمعوا إلى تصريحات وزيرة العدل الألمانية الجديدة «كاتارينا بارلى» ربما التبس عليهم الأمر، لكن بتحليل ما قالته يثبت لدينا أن ألمانيا لا تزال دولة ذات مبادئ وان كانت المخاوف تظلل سماواتها بشكل كبير، إذ أشارت إلى ان «النقاشات النظرية» حول ما قيل قد أجريت على مدار فترة كافية، وان المهم هو إيجاد حلول عملية توفر تعايشاً مشتركاً وحلا لجميع العقبات، وان القانون الأساسي «الدستور» سيظل هو أساس تعايشنا.

أما «ميركل» فقد اعتبرت تصريحاتها «جوهرة التاج» إن جاز التعبير، إذ جددت تأكيدها على أن «المسلمين ودينهم جزء من ألمانيا». لا تزال هناك في الداخل الألماني شخصيات ترفض جرائم العنف والاعتداء على الآمنين، ومؤسسات وتنظيمات تمضي في طريق تعميق الحوار والجوار.

 

من هنا يمكننا الإشارة إلى الدعوة التي وجهها مجلس أساقفة ألمانيا الكاثوليك لممثلي الجاليات الإسلامية، بهدف بلورة رؤية جديدة للتلاقي الإيجابي والخلاق.

كانت مدينة فرانكفورت هي حاضنة اللقاء الذي جرى بين رئيس “لجنة الحوار بين الأديان| التابعة لمجلس الأساقفة المحلي المطران «غيورغ باتسنغ» وحوالي مائة شخصية مسلمة مثلت مختلف الجليات المسلمة المقيمة في ألمانيا.

الأسقف الألماني أكد على ان هذا اللقاء هو الأول من نوعه وقد دعا إليه مجلس الأساقفة الكاثوليك في ألمانيا لتسليط الضوء على أهمية الحوار الإسلامي – المسيحي بالنسبة للمجتمع الألماني، وقد كان في مقدمة المشاركين في هذا اللقاء رئيس الرابطة المسلمة الألمانية، ورئيس المجلس الإسلامي في ألمانيا، ورئيس الجماعة الأحمدية.

 

الشاهد أن هناك تصاعداً ديموجرافياً للمسلمين في أوروبا لا يمكن تجاهله، فأوروبا لن تكون كما عهدناها من قبل، وهنا فهي تواجه عدة احتمالات، ترتبط ارتباطاً أساسياً بالتغيرات والتطورات السياسية، ففي حال استمر تصاعد تيار اليمين المتشدد في كافة أنحاء القارة، وهيمنته على الساحة السياسية في عدد من دولها، وحتى إذا قرر أنصار هذا التيار المتشدد إغلاق الحدود فانه لا يمكن لهم إيقاف التغيير.

أما إذا لم يتم حسم قضية الهجرة في الاتحاد الأوروبي وإخضاعها لرقابة صارمة فإن النمو الأكثر احتمالاً للسكان المسلمين سيصل بنسبتهم إلى نحو 11% من عدد السكان، وبحلول عام 2050 سترتفع هذه النسبة في المملكة المتحدة إلى 16% وفي السويد إلى 20%  وفي النرويج المجاورة نحو 17% من السكان.

 

ماذا تعني الأرقام المتقدمة؟

بلا شك أنها تقودنا إلى القول بأنه لا مناص من السير في طريق الاندماج من جانب المهاجرين الجدد، ولا يعني الاندماج هنا ذوبان أو ضياع الهوية بالضرورة، بل الالتحام البناء والفعال بالمجتمع، وفي الوقت ذاته الحفاظ على السيرة والهوية والكيان، حتى وأن اكتسى بلمحات ولمسات تفرضها البيئة المحيطة.

إن واقعاً جديداً يمكن أن تشهده أوروبا، من التعاطي المزدوج لبناء كيانات إنسانية تتوافر فيها الشروط الإنسانية ، وبعيداً عن إسقاطات الماضي، أو إحياء النعرات الطائفية والمذهبية الماضية.

قد تكون ألمانيا اليوم هي النموذج المرشح من خلاله الحكم على مستقبل التعايش والتعاون بين المسلمين والأوروبيين، وقد عرفت العقلية الألمانية تاريخياً بأنها مثال للدقة والتنظيم والالتزام، فهل ستنجح في اجتياز هذا الاختبار الحساس؟