الوجود الأجنبي في الشرق الأوسط

د. أمير حمد /

روسيا والصين تريدان استمرار الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط، بل على العكس قد يمثل أي انسحاب أمريكي من المنطقة خطراً عليهما.

هذا الاستنتاج الغريب عبّر عنه جون هوفمان المتخصص في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط والإسلام السياسي في مقال بمجلة Foreign Policy الأمريكية.

يقول هوفمان “لقد بدأ المسؤولون ومحللو السياسة الأمريكيون يدقون ناقوس الخطر بشأن احتمالية ملء موسكو أو بكين الفراغ، إذا ما انسحبت واشنطن عسكرياً من المنطقة.

لكنَّ هذه المخاوف في غير محلها، فلا تقدر روسيا ولا الصين على ملء الفراغ الأمريكي المُفتَرَض في الشرق الأوسط، ولا هما راغبتان في ذلك.

فقط ينتهزون الفرص

حسب هوفمان فإن موسكو وبكين لم تتحديا النظام الأمني الذي تقوده الولايات المتحدة في المنطقة، لأنَّهما تستفيدان منه، فقد وفَّر مظلة أمنية لهما كي تصبحا أكثر انخراطاً في المنطقة دون أن تضطرا لتحمل تكاليف الحماية المادية لمصالحهما. في الواقع ستتقلص قدرتهما على مواصلة المناورات منخفضة التكلفة في المنطقة في حال الغياب الأمريكي. ففي الشرق الأوسط تُعَد روسيا والصين مُنتهزتين، وليستا راغبتين في التغيير.

وبالتأكيد سعت روسيا والصين لاستغلال تعرض أمريكا للاستنزاف في المنطقة، إلى جانب التوترات المتزايدة عقب الانتفاضات العربية لعام 2011.

فتدخلت روسيا عسكرياً في سوريا لإنقاذ بشار الأسد في عام 2015، ويستضيف هذا البلد الآن قاعدة موسكو البحرية الوحيدة في البحر المتوسط. وأقحمت موسكو نفسها في الحرب الأهلية الليبية الدائرة، فدعمت قوات خليفة حفتر بغارات جوية وأسلحة ومتعاقدين عسكريين خاصين وقوات روسية خاصة، ونشرت متعاقدين عسكريين خاصين في السودان لدعم المجلس العسكري الانتقالي الذي تولى السلطة عقب الإطاحة بعمر البشير، وأبرمت اتفاقاً مع المجلس لبناء قاعدة بحرية روسية قبالة ساحل السودان في البحر الأحمر.

وزادت أيضاً بصورة كبيرة مبيعاتها من الأسلحة في أرجاء الشرق الأوسط.

في غضون ذلك، أصبحت الصين أكبر مستهلك لنفط المنطقة، وأكبر شريك تجاري لها، وأكبر مستثمر بها، وتسعى بكين لدمج مبادرتها الطموحة “الحزام والطريق” مع برامج الإصلاح الاقتصادي والتنمية الوطنية التي يتبعها عدد من الدول في المنطقة، وزادت مبيعات الأسلحة الصينية إلى المنطقة بصورة كبيرة أيضاً.

طرق التجارة

يرى البعض هذه التطورات دليلاً على أنَّ الشيء الوحيد الذي يقف حائلاً في طريق توسيع روسيا أو الصين نفوذهما أو وضعهما الاستراتيجي في الشرق الأوسط هو الوجود العسكري المهيمن للولايات المتحدة.

وما يثير القلق بشكل خاص هو أن تأتي موسكو أو بكين للسيطرة على طرق التجارة والنفط بالغة الأهمية في المنطقة، مثل قناة السويس أو مضيق هرمز أو شرق البحر المتوسط. وهذا ينطبق بالذات على الصين، فالتخوف من أن تكون بكين قادرة على إكمال الجزء الأوسط من مبادرتها الحزام والطريق، نتيجة أنَّه لم يعد عليها التحايل لتجاوز الهيمنة العسكرية الأمريكية على هذه الطرق التجارية بالغة الأهمية، وبالتالي تصبح مهيمنة على أهم طرق التجارة والنفط في منطقة أوراسيا الكبرى.

أحد التخوفات الأخرى هو أن تلجأ القوى الإقليمية– بما لا يشمل فقط خصوم الولايات المتحدة مثل إيران، بل أيضاً شركاءها مثل إسرائيل والسعودية- إلى موسكو وبكين لتكونا القوة الكبرى الراعية لهم إذا ما تخلت الولايات المتحدة عن هذا الموقع، ما يدفع ميزان القوة العالمي للميل أكثر باتجاه الشرق.

مشكلات الحضور المباشر للدولتين

لكنَّ هذه التنبؤات السوداوية لا تضع في الحسبان القيود الخطيرة التي قد تواجهها روسيا والصين في الشرق الأوسط إذا ما انسحبت الولايات المتحدة، إذ سيتعين على روسيا والصين التمتع بحضور مباشر بصورة أكبر بكثير من أجل تأمين مصالح كلٍّ منهما في المنطقة، لكنَّ كلا البلدين قد تكون عازفة بقوة عن إنشاء مثل هذا النظام الأمني وتدعيمه.

فأولاً، لا يمثل الشرق الأوسط مصلحة وجودية لبكين أو لموسكو، ليس فقط لأنَّ كلتيهما أكثر انشغالاً بكثير بالتنافس مع واشنطن في جوارهما المباشر، بل أيضاً لأنَّ روسيا والصين تواجهان مشكلات اقتصادية جدية، بالإضافة إلى بيئات داخلية معقدة للغاية، ما يجعل استعراض القوة في الشرق الأوسط دون ضمانة أمنية أمريكية أمراً مستبعداً جداً وخطراً للغاية.

بالإضافة إلى ذلك، سيمنح الانسحاب من الشرق الأوسط واشنطن المزيد من الموارد التي يمكن توجيهها نحو التنافس الاستراتيجي مع موسكو أو بكين، وهي نتيجة لن ترحب بها روسيا أو الصين. وسيتعين على البلدين أيضاً الشروع في إنشاء وتدعيم نظام سياسي جديد في المنطقة. وكانت روسيا والصين قادرتين حتى الآن على تحقيق تقدمات في المنطقة أساساً من خلال تقسيم سياساتهما الخارجية في الشرق الأوسط.

فقد امتنعتا إلى حدٍّ كبير عن الانحياز إلى أطراف في التنافسات الجيوسياسية الأكبر في المنطقة– التنافس بين السعودية وإيران، والصدع بين دول الخليج العربية، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني- وبالتالي تجنَّبتا الانجرار إلى هذه النزاعات. وقد تمكَّنتا من فعل ذلك لأنَّ الولايات المتحدة بَنَت نظاماً سياسياً في المنطقة، يعتمد على إسرائيل كدولة تابعة لتعزيز القوة الأمريكية وتهميش الخصوم.

وإذا ما انسحبت واشنطن، فإنَّ هذا التحرك التوازني الدقيق الذي اتبعته روسيا والصين قد ينهار، ما يجبر موسكو وبكين على أن تصبحا منخرطتين بشكل أوثق في الشؤون السياسية للمنطقة إذا ما كانتا راغبتين في ملء هذا الفراغ.

أداة تخويف أمريكا

مع ذلك، أصبحت حجة “الفراغ” هذه مفيدة سياسياً للبعض، فالفاعلون الإقليميون، خصوصاً أولئك المعتمدين على الولايات المتحدة، يلجأون بشكل متزايد إلى سردية “الفراغ” للضغط على واشنطن للبقاء منخرطة بقوة في المنطقة.

وبالفعل، استغلت كلٌّ من السعودية وإسرائيل ومصر والإمارات التواصل مع موسكو وبكين لكسب نفوذ وتنازلات من الولايات المتحدة.

فغالباً ما يسعى هؤلاء الفاعلون لإبرام صفقات مع روسيا أو الصين للضغط على الولايات المتحدة لتزويدهم بما يرغبونه حقاً: المعدات أمريكية الصنع، ويعود هذا بالأساس إلى حقيقة أنَّ قدرة حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة على التحول بصورة كاملة إلى أنظمة أسلحة بديلة هو أمر شبه مستحيل، بسبب عدم توافق الأسلحة الروسية أو الصينية مع منظومات الدفاع الأمريكية الموجودة في هذه البلدان.

ففي عام 2014، عقب تعليق مؤقت لمبيعات الأسلحة الأمريكية لمصر ، وقَّعت موسكو عام 2015 صفقة بقيمة 3.5 مليار دولار مع القاهرة، لا تتضمَّن فقط أسلحة وذخائر، بل أيضاً منظومات الدفاع الجوي والطيران.

وبالمثل، وقَّع الإماراتيون صفقة للمشاركة في تطوير مقاتلة تنتمي إلى الجيل الخامس مع موسكو، بهدف الضغط على الولايات المتحدة، بعد رفضها بيع مقاتلات F-35 للإمارات عام 2017. ولاحقاً، حين كان القلق يتزايد في واشنطن حيال تزويد الإمارات بما تصل قيمته إلى 23 مليار دولار من الأسلحة ومقاتلات F-35 كجزء من اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل، حذَّر سفير الإمارات يوسف العتيبة من أنَّ بلاده ستضطر للجوء إلى أماكن أخرى إذا ما فشلت الصفقة.

ولجأت السعودية ومصر والإمارات بصورة متكررة أيضاً إلى الصين لشراء الطائرات بدون طيار المسلحة، في ظل امتناع الولايات المتحدة عن تزويدهم بهذه التكنولوجيا. ورداً على ذلك قالت إدارة ترامب إنَّها ستتجاوز الكونغرس من خلال تمرير ببيع طائرات بدون طيار مسلحة متقدمة للرياض وأبو ظبي.

يجب على صانعي السياسة الأمريكيين تبديد الأسطورة التي تقول إنَّ روسيا أو الصين قادرتان– أو مستعدتان- على ملء الفراغ في الشرق الأوسط إذا ما انسحبت الولايات المتحدة عسكرياً. وقد استُخدِمَت هذه السردية بالأساس من جانب أولئك الذين لهم مصالحهم الخاصة في إبقاء الولايات المتحدة منخرطة بقوة في المنطقة، أي مع الشركاء الإقليميين الذين استغلوا لفترة طويلة جداً هذا التخوف من خسارة أرض لصالح روسيا أو الصين، بهدف الحصول على تنازلات من واشنطن.

سياسات واشنطن تؤدي لتحالف بين موسكو وبكين

يسعى القادة العسكريون في الولايات المتحدة لزيادة موازنتهم العسكرية، على الرغم من أنها الميزانية الأضخم عالمياً، انطلاقاً من فرضية وجود تفوق صيني وروسي في مجال الروبوتات العسكرية، دون أن تكون هناك أدوات محايدة لتأكيد تلك الفرضية.

لكن بعيداً عن الشق العسكري البحت، يبدو أن الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن لا تمتلك استراتيجية واضحة لتحقيق أحد أهم أهدافها وهو ضمان عدم تحول التعاون الروسي الصيني إلى تحالف عسكري، بحسب تقارير أمريكية ركزت على ذلك الهدف قبل القمة التي جمعت بايدن ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في جنيف.

وكان تقرير لمجلة Politico الأمريكية قد سلط الضوء على مخاوف بايدن مما قد ينتج عن علاقة الصداقة بين بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ إذا ما حدث تحالف كامل بين بكين وموسكو. ورصد التقرير كيف أن مستشاري بايدن قدموا له تقارير استخباراتية تفصيلية حول طبيعة العلاقة بين روسيا والصين، كجزء من الاستعداد لقمة جنيف مع بوتين.

وكانت الذكرى العشرون لتوقيع موسكو وبكين “اتفاقية الجيرة الجيدة والصداقة والتعاون” قد حلت مطلع يونيو/حزيران الماضي، وهي الاتفاقية التي وضعت العلاقة بين البلدين على مسارات تقارب شهدت نمواً كبيراً خلال السنوات القليلة الماضية.

بتلك المناسبة، عبّر وزير خارجية الصين وانغ يي عن استعداد بلاده لأخذ العلاقات مع موسكو إلى مستويات أكثر عمقاً وأكثر شمولاً في الفترة المقبلة، كما رد نظيره الروسي سيرغي لافروف بالتأكيد على أن “موسكو وبكين مساندان دائمان لتشكيل نظام عالمي أكثر عدالة وديمقراطية وبالتالي أكثر استقراراً وتعددية من النظام الحالي”.

وبالتالي فإن تركيز الإدارة الأمريكية على الصين، التي أصبحت تمثل المنافس الأبرز لواشنطن على الساحة الدولية، كان أحد عناصر القلق الرئيسية لدى بايدن خلال قمته مع نظيره الروسي، حتى وإن خلت أجندة اللقاء من ذلك الملف بشكل مباشر.

وتشهد العلاقات الأمريكية – الصينية توتراً غير مسبوق حالياً، وإن كان ذلك التوتر قد بدأ في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بعد تفشي وباء كورونا على الأراضي الأمريكية، ووصف ترامب له بأنه “فيروس صيني”، لتتحول الحرب التجارية بين البلدين إلى توتر جيوسياسي وصراع مفتوح ازدادت حدته مع تولي بايدن المسؤولية وإقرار إدارته أن ملف الصين يكاد يكون الملف الوحيد الذي تتفق فيه إدارته مع إدارة ترامب.

وبالتالي فإن المقارنة بين الصين والولايات المتحدة أصبحت ركناً أساسياً في عمل المعاهد البحثية، بعد أن سار بايدن على درب سلفه ترامب في اعتبار بكين العدو الأول لواشنطن. وارتفعت وتيرة احتمالات وسيناريوهات المواجهة الافتراضية بين القوتين العظميين حالياً، تزامناً مع زيادة التصعيد من جانب الولايات المتحدة نحو الصين على جبهات كثيرة، منها تايوان وملف حقوق الإنسان، بخلاف الحرب التجارية المشتعلة بينهما بالفعل.

لكن ما لا شك فيه هو أن تحالفاً عسكرياً كاملاً بين الصين وروسيا، مهما بدت احتمالاته غير مرجحة من وجهة النظر الأمريكية، يعد كفيلاً بقلب ميزان القوة العسكرية، الذي يميل حالياً نحو الأمريكيين، بصورة قد لا تكون متوقعة.

.