زوال النفوذ الأمريكي بات قريباً

عاطف عبد العظيم

“تواجه الولايات المتحدة الآن تهديدات خطيرة لأمنها أكثر مما واجهته منذ عقود، وربما في أي وقت مضى”. هذا ما قاله وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت غيتس (2006 حتى 2011) في مقالة مطوَّلة كتبها بمجلة foreign affairs الأمريكية مؤخراً؛ إذ يقول إنه لم يحدث من قبل قط أن واجهت أمريكا أربعة أعداء متحالفين في نفس الوقت: روسيا، والصين، وكوريا الشمالية، وإيران، الذين قد تصل ترسانتهم النووية الجماعية في غضون بضع سنوات إلى ضعف حجم ترسانتها النووية تقريباً.

لماذا تخشى أمريكا أن تفقد تركيزها عن الصين وروسيا نحو مكان آخر؟

في ظل تصاعد النفوذ الصيني وتراجع النفوذ الأمريكي عالمياً، وشن بوتين حرباً مدمرة في أوكرانيا أصبحت تراوح مكانها رغم الدعم الأمريكي والغربي طوال الأشهر الماضية، لا تريد واشنطن الغرق في أزمات أخرى حول العالم تبعد تركيزها عن أزماتها القومية الاستراتيجية مع كل من الصين وروسيا.

وعلى سبيل المثال، تدرك واشنطن أن ما حصل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول لدى حليفتها في المنطقة إسرائيل التي تعرضت لضربة قاسية من قِبل المقاومة الفلسطينية، يمثل لحظة مفصلية لسياستها في الشرق الأوسط وعلاقتها بحلفائها في المنطقة، فبالرغم من التحديات الاستراتيجية التي تواجهها أمريكا في أكثر من منطقة حول العالم ومواجهتها لكل من الصين وروسيا، ومع ذلك، فإن الشرق الأوسط سيتطلب من واشنطن الاهتمام والتركيز المستمرَّين وستتجه واشنطن إلى تعزيز تحركاتها في المنطقة في اتجاهين.

في الوقت نفسه، تريد واشنطن احتواء الصراع في الشرق الأوسط ومنع تحوله إلى حرب إقليمية واسعة، وذلك لتقليل خطر تورط القوات الأمريكية بشكل مباشر في القتال وما يمكن أن ينتج عنه من مخاطر تهدد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة.

وتدرك واشنطن أن التهديدات التي تواجهها إسرائيل في وقت واحد على جبهات متعددة -غزة والضفة الغربية وحزب الله في لبنان والحوثيون في اليمن وسوريا وإيران- تقتضي الحفاظ على موقف رادع موثوق به على طول كل من هذه المحاور.

وتخشى واشنطن من تسريع انحدارها عالمياً وفقدانها لنفوذها القوي الذي استمر لعقود طويلة على العالم، وخصيصاً في الجنوب، في الوقت الذي تتقدم فيه الصين وروسيا وتكسب أصدقاء جدداً وتسحب البساط من تحت أقدام واشنطن، التي يرى البعض أنها فقدت الكثير من مصداقيتها حتى لدى أقرب حلفائها.

“أمريكا ونفوذها العالمي في خطر”

بالعودة إلى مقالة وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت غيتس، التي دقَّ فيها ناقوس الخطر حول الانحدار الأمريكي وتآكل نفوذ واشنطن عالمياً، فإنه يقول إنه منذ الحرب الكورية، لم تضطر الولايات المتحدة إلى مواجهة منافسين عسكريين أقوياء في كل من أوروبا وآسيا. ولا يستطيع أحد على قيد الحياة أن يتذكر الوقت الذي كان فيه الخصم يتمتع بنفس القدر من القوة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية التي تتمتع بها الصين اليوم.

لكن المشكلة بحسب غيتس – الذي شغل غير منصب وزارة الدفاع مناصب عديدة مرموقة في المؤسسة العسكرية والاستخباراتية الأمريكية، مثل إدارة وكالة الاستخبارات المركزية- هي أنه في نفس اللحظة التي تتطلب فيها الأحداث استجابة قوية ومتماسكة من الولايات المتحدة، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لا تستطيع تقديم مثل هذه الاستجابة.

فقد فشلت قيادتها السياسية المنقسمة بين نزاعات الجمهوريين والديمقراطيين، في البيت الأبيض والكونغرس، في إقناع عدد كافٍ من الأمريكيين بأن التطورات في الصين وروسيا مهمة. وقد فشل الزعماء السياسيون في شرح كيفية ترابط التهديدات التي تفرضها هذه البلدان. لقد فشلوا في صياغة استراتيجية طويلة المدى لضمان سيادة الولايات المتحدة والقيم الديمقراطية على نطاق أوسع.

ويحدد غيتس الخطورة الكبيرة على مكانة الولايات المتحدة ونفوذها في صعود الصين وتهديد روسيا، قائلاً إن هناك الكثير من القواسم المشتركة بين الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولكن تبرز قناعتان مشتركتان؛ أولاً، كل منهما مقتنع بأن مصيره الشخصي هو استعادة أيام مجد الماضي الإمبراطوري لبلاده.

ثانياً، كلا الزعيمين مقتنع بأن الديمقراطيات الليبرالية المتقدمة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، قد تجاوزت ذروة نشاطها ودخلت في مرحلة انحدار تاريخي لا رجعة فيه. وهم يعتقدون أن هذا الانحدار واضح في الانعزالية المتنامية في هذه الديمقراطيات، والاستقطاب السياسي، والفوضى الداخلية.

وإذا نظرنا إلى قناعات شي وبوتين مجتمعة، فإنها تنذر بفترة خطيرة مقبلة بالنسبة للولايات المتحدة. والمشكلة لا تكمن في القوة العسكرية والعدوانية التي تتمتع بها الصين وروسيا فحسب. والأمر الخطير أيضاً أن كلا الزعيمين ارتكبا بالفعل حسابات خاطئة كبيرة في الداخل والخارج، ويبدو من المرجح أن يرتكبا أخطاء أكبر في المستقبل، ومن الممكن أن تؤدي قراراتهما إلى عواقب كارثية عليهما وعلى الولايات المتحدة، كما يقول غيتس.

واشنطن تفتقد لرؤية استراتيجية

لذلك، يقول وزير الدفاع الأمريكي إنه يتعين على واشنطن أن تغير حساباتها الحالية وحسابات شي وبوتين، وأن تقلل من فرص وقوع الكارثة، وهو الجهد الذي يتطلب رؤية استراتيجية وعملاً جريئاً. لقد انتصرت الولايات المتحدة في الحرب الباردة بفضل استراتيجية متسقة اتبعها كلا الحزبين السياسيين من خلال تسع رئاسات متتالية. وهي تحتاج اليوم إلى نهج مماثل من الحزبين، وهنا تكمن المشكلة.

تجد الولايات المتحدة نفسها في موقف “غادر” فريد من نوعه: فهي تواجه خصوماً عدوانيين لديهم ميل إلى التحدي و”سوء التقدير”، لكنهم غير قادرين على حشد الوحدة والقوة اللازمة لثنيهم عن ذلك. ويعتمد النجاح في ردع قادة مثل شي وبوتين على يقين الالتزامات وثبات الاستجابة. وبدلاً من ذلك، أدى الخلل الوظيفي إلى جعل القوة الأمريكية غير منتظمة وغير موثوقة، مما دعا عملياً خصومها إلى وضع رهانات خطيرة، مع آثار كارثية محتملة.

إن دعوة شي إلى “التجديد العظيم للأمة الصينية” هي اختصار لكي تصبح الصين القوة العالمية المهيمنة بحلول عام 2049، وهو الذكرى المئوية لانتصار الشيوعيين في الحرب الأهلية الصينية. ويتضمن هذا الهدف إعادة تايوان إلى سيطرة بكين. وعلى حد تعبيره: “يجب أن يتحقق التوحيد الكامل للوطن الأم، وسوف يتحقق”.

تحديات هائلة تفرض على الولايات المتحدة الأمريكية

على الرغم من حسابات شي والصعوبات الداخلية العديدة التي تواجهها بلاده، فإن الصين سوف تستمر في فرض تحدٍّ هائل للولايات المتحدة. وجيشها أقوى من أي وقت مضى. وتمتلك الصين الآن سفناً حربية أكثر من الولايات المتحدة. فقد قامت بتحديث وإعادة هيكلة قواتها التقليدية والبحرية وقواتها النووية – وتضاعف قواتها النووية الاستراتيجية المنتشرة تقريباً- وقامت بتحديث نظام القيادة والسيطرة لديها. وهي بصدد تعزيز قدراتها في الفضاء والفضاء الإلكتروني أيضاً.

وبعيداً عن تحركاتها العسكرية، اتبعت الصين استراتيجية شاملة تهدف إلى زيادة قوتها ونفوذها على مستوى العالم. وتعد الصين الآن الشريك التجاري الأول لأكثر من 120 دولة، بما في ذلك جميع دول أمريكا الجنوبية تقريباً. وقد قامت أكثر من 140 دولة بالتسجيل كمشاركين في مبادرة الحزام والطريق، البرنامج الصيني المترامي الأطراف لتطوير البنية التحتية، وتمتلك الصين الآن، أو تدير، أو تستثمر في أكثر من 100 ميناء في حوالي 60 دولة.

روسيا تريد استعادة مكانتها كإمبراطورية عظمى

ذات يوم، قال زبيغنيو بريجنسكي، عالم السياسة ومستشار الأمن القومي الأمريكي السابق: “بدون أوكرانيا، تتوقف روسيا عن كونها إمبراطورية” . ومن المؤكد أن بوتين يشاركه هذا الرأي. وفي سعيه وراء إمبراطورية روسيا، غزا أوكرانيا في عام 2014 ومرة ​​أخرى في عام 2022.

ورغم العقوبات الغربية والدعم العسكري الكبير لأوكرانيا، ظلت روسيا خاضعة لعقوبات استثنائية من جانب كافة الديمقراطيات الغربية تقريباً. فقد سحبت شركات غربية لا حصر لها استثماراتها وتخلت عن البلاد، بما في ذلك شركات النفط والغاز التي تعتبر تقنياتها ضرورية لدعم المصدر الرئيسي للدخل في روسيا. وفرَّ الآلاف من خبراء التكنولوجيا ورجال الأعمال الشباب. وبغزو أوكرانيا، رهن بوتين مستقبل بلاده.

أما بالنسبة للجيش الروسي، فرغم أن الحرب أدت إلى تدهور قواتها التقليدية بشكل كبير، فإن موسكو تحتفظ بأكبر ترسانة نووية في العالم. وبفضل اتفاقيات الحد من الأسلحة، لا تتضمن هذه الترسانة سوى عدد قليل من الأسلحة النووية الاستراتيجية المنتشرة أكثر مما تمتلكه الولايات المتحدة. لكن روسيا تمتلك عشرة أضعاف الأسلحة النووية التكتيكية – حوالي 1900.

وعلى الرغم من هذه الترسانة النووية الضخمة، فإن التوقعات بالنسبة لبوتين تبدو قاتمة. ومع تبدد آماله في غزو سريع لأوكرانيا، يبدو أنه يعتمد على مأزق عسكري صعب لإرهاق الأوكرانيين والغربيين، ويراهن على أنه بحلول الربيع أو الصيف المقبل، سوف يتعب عامة الناس في أوروبا والولايات المتحدة من دعمهم. وكبديل مؤقت لأوكرانيا التي تم غزوها، ربما يكون على استعداد للنظر في أوكرانيا المشلولة – دولة هشة تقع في حالة خراب، وانخفضت صادراتها وتقلصت مساعداتها الخارجية بشكل كبير.

وطالما ظل بوتين في السلطة، فسوف تظل روسيا خصماً للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.

“أمريكا ضعيفة”

ولكن من المؤسف أن الخلل السياسي في الولايات المتحدة وإخفاقاتها السياسية يقوّضون نجاحها؛ إذ يتعرض الاقتصاد الأمريكي للتهديد بسبب الإنفاق الحكومي الفيدرالي المُسرف، وقد فشل الساسة من كلا الحزبين في معالجة التكاليف المتصاعدة للاستحقاقات مثل الضمان الاجتماعي، والرعاية الصحية، والمساعدات الطبية.

على الصعيد الدبلوماسي، أدى ازدراء الرئيس السابق دونالد ترامب لحلفاء الولايات المتحدة، وولعه بالقادة المستبدين، واستعداده لزرع الشك حول التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها في الناتو، وسلوكه غير المنتظم بشكل عام، إلى تقويض مصداقية الولايات المتحدة واحترامها في جميع أنحاء العالم. ولكن بعد سبعة أشهر فقط من إدارة الرئيس جو بايدن، أدى انسحاب الولايات المتحدة المفاجئ والكارثي من أفغانستان إلى إلحاق المزيد من الضرر بثقة بقية العالم في واشنطن، كما يقول وزير الدفاع الأمريكي السابق غيتس.

“الخطر على أمريكا حقيقي”

يرى وزير الدفاع الأمريكي السابق أن الصين وروسيا تعتقدان أن المستقبل ملك لهما وليس لأمريكا. وعلى الرغم من كل الخطابات الصارمة القادمة من الكونغرس الأمريكي والسلطة التنفيذية حول التصدي لهؤلاء الخصوم، فمن المدهش أن التحركات كانت ضئيلة. وفي كثير من الأحيان، يتم الإعلان عن مبادرات جديدة، إلا أن التمويل والتنفيذ الفعلي يتحركان ببطء أو يفشلان في التنفيذ تماماً. فالكلام رخيص، ولا يبدو أن أحداً في واشنطن مستعد لإجراء التغييرات العاجلة المطلوبة.

وهذا أمر محيّر بشكل خاص، لأنه في وقت يتسم بالحزبية والاستقطاب المرير في واشنطن، تمكن شي وبوتين من حشد دعم الحزبين المثير للإعجاب، وإن كان هشاً، بين صناع السياسات لرد أمريكي قوي على عدوانهما، لدى السلطة التنفيذية والكونغرس فرصة نادرة للعمل معاً لدعم خطابهما حول مواجهة الصين وروسيا بإجراءات بعيدة المدى تجعل من الولايات المتحدة خصماً أكبر بكثير وقد تساعد في ردع الحرب.

في المستقبل المنظور؛ تظل هذه التهديدات الصينية والروسية وما تبعهما، تشكل خطراً يجب على الولايات المتحدة التعامل معه. وحتى في أفضل العوالم – العالم الذي تتمتع فيه حكومة الولايات المتحدة بجمهور داعم، وقادة نشِطين، واستراتيجية متماسكة ـ فإن هؤلاء الخصوم سيشكلون تحدياً هائلاً.

لكن المشهد الداخلي اليوم أبعد ما يكون عن النظام: فقد تحول الرأي العام الأمريكي إلى الداخل، وانحدر الكونغرس إلى المشاحنات والفظاظة وسياسة حافة الهاوية.

والرؤساء المتعاقبون إما أنكروا الدور العالمي الذي تلعبه أمريكا أو لم يقدموا تفسيراً جيداً له. وللتعامل مع مثل هؤلاء الخصوم الأقوياء المعرضين للمخاطر، تحتاج الولايات المتحدة إلى تعزيز لعبتها من كل الأطراف، وعندها فقط يمكنها أن تأمل في ردع شي وبوتين وحلفائهما عن القيام بالمزيد من الرهانات السيئة، فالخطر القادم من هؤلاء حقيقي.