العراق واستحقاقات التغيير

د. نزار محمود  ـ

إن ما يحدث في العراق اليوم ليس أمراً لا يمكن فهمه وتفسيره، لا بل هو مسألة كان على السياسيين والمتخصصين في مجالات علوم الاقتصاد والديمغرافية والاجتماع السياسي توقعها وإدراكها. وإذا كانت للآخرين مصالح في تطوراتها، فإن ذلك لا يعني بالضرورة تآمرهم علينا، وإنما الأصح جهلنا وتقاعسنا عن تلبية استحقاقات تطور حياتنا.

وهكذا فإن الزلازل التي تضرب منطقة معينة في الأرض يجب أن تكون متوقعة في إطار دراستها والتهيؤ لها.

يعرف كثيرون أن العراق بلد ريعي في اقتصاده، يعتمد على النفط في أغلب عائداته. وحيث أن استثمار النفط هو مسألة حكومية فقد أصبح للحكم والسلطة والإدارة العامة اليد الطولى في التصرف بالأموال، كما كان للشركات والدول الأجنبية اطماعها في تلك الثروة واستخداماتها.

من هنا شكل الصراع على السلطة والتناحر على تبعية العراق ملامح المشهد السياسي على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.

من ناحية أخرى فان للشعب العراقي، رغم تنوع أطيافه القومية والعرقية والدينية والمذهبية خصوصياته في حضارته وكرامته وكبريائه ونزوعه إلى الحرية والتحرر.

وستبقى إنجازات وادي الرافدين وعراقه شاهداً على حيوية وابداعية أبناء هذا الشعب. وفي تاريخه المعاصر، ومنذ أن تشكلت أول حكومة عراقية عام ١٩٢١، فقد عاش العراق موجات من الحراك السياسي المختلف، من إسلامية ويسارية وقومية وليبرالية. كما كان لهذه المجموعات الرئيسية تفرعاتها واختلافاتها حد التقاطع والتصادم. فعلى صعيد التيارات الدينية فقد كانت هناك الإسلامية والمسيحية، والسنية والشيعية على وجه الخصوص.

كما كانت للقومية ألوانها وقياداتها المختلفة، المتحالفة حيناً، والمتناحرة أحياناً أخرى. ولا تختلف كثيراً حال التيارات اليسارية.

وكانت تلك الحراكات السياسية تعيش مراحل تطور في وعيها ومناهجها وقياداتها وأعضائها على مدى قرن من الزمن. ففي الوقت الذي ابتدأت فيه غالبية الحراكات كشخصيات ونخب سياسية، ثم تطورت إلى حركات شعبية وجماهيرية فتسلمت السلطة منذ العام ١٩٥٨ ومع أول جمهورية قادها الزعيم الركن عبد الكريم قاسم ذات الهوى القطري المزين بالوشاح اليساري، لتنتهي بثورة قادها حزب البعث العربي الإشتراكي، ذو الهوى القومي والتي لم تدم لبضعة شهور لينقلب عليها رئيس جمهوريتها المشير عبد السلام عارف، والذي قتل بعد فترة قصيرة في حادث طائرة مدبر ليعقبه على الحكم اخوه عبد الرحمن عارف، ولينتزع الحكم منه بعد عامين حزب البعث في ثورة ١٧ تموز من عام ١٩٦٨.

وهكذا عاد حزب البعث القومي الاشتراكي إلى السلطة وكان صدام حسين، مهندس الثورة وقائدها، ليحكم ما يقرب من ٣٥ عاماً أحدث خلالها تغييرات جذرية سياسة واقتصادا وثقافة وفق صيغة حزب ايديولوجي شمولي وقيادة شخصية وطنية وقومية طاغية.

ومع انتهاء الحرب العراقية الإيرانية عام ١٩٨٨ والتي استمرت ثماني سنوات، والحرب الباردة عام ١٩٩٠ وانهيار المعسكر الإشتراكي وأفول الأنظمة الآيدولوجية والعسكرية والفردية الدائرة في فلكه، وانتصار الفلسفة الليبرالية والرأسمالية، وانفجار  ثورة المعلوماتية والاتصالات، أصبح النظام في العراق بسبب فلسفته وطبيعته وظروفه واستهدافه في مهب ريح عاتية. فلم يعد هناك توازن فاعل في مراكز القوى العالمية، ولم يكن العراق في وضع يقوى على اعادة بناء نفسه واستكمال مقومات نموه وتطوره، وكان غزوه للكويت الرصاصة التي أصابت منه مقتلاً! .. أعقبها حصار قاس دمر الروح المعنوية لنسبة كبيرة من أبناء العراق وزرع في نفوسهم اليأس والاستسلام، حتى إذا أكمل الأمريكان مخططهم باحتلال العراق عام ٢٠٠٣ وتدميره سياسة واقتصاداً وسيادة وثقافة وشعباً موحداً، أجهز الفساد والنهب والعمالة والاحتلال المزدوج على ما تبقى فيه من معنىً للوطن والكرامة والحرية.

صبر الشعب طويلاً، ولم يعد يقدر على التعايش مع وعود كاذبة وتخلف ولصوص وفاسدين وعملاء وعملية سياسية مدمرة، وعلى بطالة متفشية وعوز وجوع.

لقد اهتزت أرض العراق وزمجر شبابه أبناء الجنوب والشرق بعد أبناء الشمال والغرب، وفجروها ثورة سلمية بيضاء، وأعلنوها سيادة وطنية وعيشاً كريماً وحرباً على العمالة والفساد.

إنهم اليوم يثأرون لهوية وطنية انتهكت، ولحضارة دمرت، ولثروات نهبت، ولكرامة أستهينت، ولآلاف قتلت، ولمدن خربت، ولملايين هجرت، ولأخلاق ضاعت، ولماض طمس، ولحاضر أستبيح، ولمستقبل أغتيل، وببساطة لشعب ضاع!

خرجوا يواجهون النار بصدور عارية، ويفترشون الأرض وهم يصرون على مطالبهم الوطنية المشروعة. لا يربطهم حزب ولا طائفة ولا عرق، بل تشدهم وطنيتهم وغيرتهم وكرامتهم المسلوبة.

إن شبابنا اليوم يكتبون بأحرف من نور تاريخاً نضالياً جديداً في فكره ونهجه.

وختاماً نقول للأخوة العرب والكرد والتركمان وكذلك للمسلمين، شيعة وسنة،  وللمسيحيين وغيرهم من أبناء العراق: أنتم عراقيون متساوون حقوقاً وواجبات، يفخر بكم عراقكم، وينبغي أن تفخروا بمواطنته العادلة أنتم كذلك.

ولجيراننا نقول: لنمد أيدينا لبعضنا ونكف عن التدخل في شؤون غيرنا، ولنتعاون جميعاً لما فيه خير شعوبنا.

.