الشعب يريد اسقاط النظام

د. محمد الشحات

في روايته الأخيرة “نقطة نظام”، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية 2017، يقدّم الروائي المصري صبحي موسى تمثيلًا  سرديًا وثقافيًا هو بمثابة إعادة تأويل للجملة الثقافية المتداولة “الشعب يريد إسقاط النظام” التي راجت مع موجات الربيع العربي 2011، وظلت هذه الجملة/المقولة/الشعار متصلةً بنبض الشعوب العربية قدر اتصالهم هم أنفسهم بها وبما تبثّه فيهم من طاقة ثورية خلّاقة، فأمست أيقونةً دالةً على كل رغبة شعبية حقيقية في التحرّر والتطهّر من أية نزعة كولونيالية أو رغبة تسلطية استبدادية.

 

لكن “النظام” في هذه الرواية، تحديدًا، لا يحضر بمعناه السياسي المباشر فحسب الذي يعني السلطة الحاكمة أو من يشكّلون المرجعية السياسية والسلطة التنفيذية في أية دولة، بل يتشكّل في متن الرواية معجونًا بمحمولاته الثقافية والاجتماعية والأيديولوجية التي تصله بعالم فانتازي أو أسطوري يغلّف وعي الشخوص الذين هم بسطاء ومهمّشون يحيون على الخرافة ويقتاتون على بصيص الأمل الذي قد تزرعه فيهم مقولات أرباب الخرافة وعُبّاد الميتافيزيقا. “نقطة نظام” رواية تسعى إلى تفكيك “النظام”، أو تقويض النسق الذي يحكم قلب النظام، سواء كان نظامًا سياسيًا باطشًا، أو نظامًا ميتافيزيقيًا يبثً روح الجهالة والخرافة ويسعى إلى تغييب العلم، أو غيرها من أنظمة وأنساق (عالمثالثية) استبدادية تهيمن على العقول وتكبّل الحناجر قبل الأيدي والأقدام.

 

اللافت للنظر أن رواية “نقطة نظام” التي تتغيّا تفكيك هذه المقولة الثقافية/ الشعار إنما تستعين بالفانتازيا Fantasy بوصفها استراتيجية سردية تتمثّل عالماً متخيّلًا يبئِّر على قرية مصرية مجهولة الاسم والموقع، دون أن تفقد هويتها الثقافية أو الجغرافية؛ الأمر الذي يجعل من هذه القرية الصغيرة أنموذجًا دالًا على “قرية كونية صغيرة”، لا بمعنى “العولمة”، بل بوصفها المعادل الموضوعي لقرى ومدن مصر كلها، وما مرّت به من تحولات سوسيوثقافية مأزومة كان من نتائجها ذلك الفساد “الممؤسَس” الذي لم يُنتج إلى الآن سوى الهزيمة تلو الهزيمة في أزمنة الميتافيزيقا وتغييب الواقع وتهميش العلم ووأد المعرفة التي هي سبيل كل حضارة مدنية.

 

يعمل الراوي محيي الدين – الذي يتضمّن اسمه حمولة عرفانية تصله بمحيي الدين بن عربي- صحفيا بإحدى الصحف العربية في القاهرة، كما ينتسب إلى عائلة لها تاريخها  المعروف في القرية بخفّة العقل والطيش. يقرّر محيي الدين العودة إلى القرية لكتابة رواية عن قريته البائسة، مستعيدًا فيها ذكريات الطفولة والصبا، ومستدعيًا في الوقت ذاته ذاكرة القرية من خلال عمّه زايد الذي يكتسب حضوره الفاعلية الكبرى في إمداد الراوي بكل ما يحتاجه من معلومات وأحداث.

 

تمثّل “نقطة نظام” مرويّة تسعى إلى قلب الأدوار وزعزعة الفوارق الطبقية، سواء بين الأفراد أو العائلات أو بين البلدان المتجاوة داخل الدولة ذاتها. هكذا، تلتهم القرية المدينة التهامًا سرديًا في هذه المدوّنة الروائية، بوصف ذلك تعويضًا ثقافيا عن وضعية التهميش والتجريف اللذين تعرّضت لهما القرية المصرية منذ سنوات عدّة، بحيث تغدو الكتابة أو الحكي، هنا، نسقًا ثقافيًا يؤكّد رغبة الراوي، ومن ورائه المؤلف المضمر، في محو تاريخ القرية المدنّس بالفساد والخرافة والجهل، والذي يعادل رغبته المضمرة في محو تاريخ الدولة (المصرية) المهيمن والزائف. فضلًا عن ذلك، تنهض ثيمة الرواية على اختفاء قطاع كبير يمثّل ثلث بيوت القرية وقصورها إثر انفجار مفاجئ مجهول المصدر، وهي منطقة تابعة للأثرياء منهم؛ أولئك الذين ارتقوا في درجات السلّم الطبقي بفعل أموال البترودولار، دون تعزيزٍ من منظومة قيم أصيلة أو معرفة رصينة؛ الأمر الذي تعود معه هذه المنطقة من القرية إلى سابق عهدها، عندما كانت مسرحًا مهجورًا لا يسكنه إلا الغرباء أو الغجر أو المهمّشون، وكل من ليس لهم الحق في أن تطأ أقدامهم أرض القرية الخضراء.

 

ورغبةً في التخفيف من حدّة مثل هذه المعالجة التخييلية الثقافية للجملة الثقافية “الشعب يريد إسقاط النظام”، يستعين الراوي الصحفي، ومن ورائه بالفعل المؤلف الضمني ثم المؤلف الحقيقي، بلغة ساخرة، محمّلة بالباروديا، تنهض على إحداث المفارقات الكوميدية التي تتسق في جوهرها وطبيعة نص فانتازي يمدّ الخيوط إلى نهاياتها، ويتأمّل إرهاصات الثورة المصرية قبل بزوغها في هدوء وتؤدة. فالنظام (السياسي) لا يسقط استجابةً لرغبات الشعوب الثائرة، المتعطّشة للحرية والعدل؛ لأن ثمة أنظمة أخرى (اقتصادية، تعليمية، دينية، ..) كامنة في البنية العميقة لهذه المجتمعات، ينبغي التعامل معها أولا، حتى يكون مقبولًا تفكيك أنساق الفساد المستشري في أجساد الشعوب المهزومة والمأزومة.

اترك تعليقاً