الأدبُ والرّبيعُ العربيّ

موسى الزعيم

عنوان الندوة الأدبية التي أقامها بيت الثّقافة والأدب في برلين بتاريخ 15 حزيران لهذا العام، حيث استضاف البيت عدداً من الأدباء العرب، من سبع دولٍ عربية، يمثلّون مذاهب فكريّة وأدبيّة متنوّعة تجمعهم سمة واحدةٌ وهي المنفى، وقد شكلت الرواية نقطة المُشترك بينهم، وكان الحديث عنها على أنّها المتأثر الأوّل بين الفنون السرديّة على أرض الواقع، وارتداداته على أدب المنفى أو بشكل عام ،وقد قسّمت الندوة إلى محورين أساسيين  

 بداية كان الحوار مع ثلاثة روائيين وهم (عبد العزيز بركة ساكن ، وعلي المقري ونجوى بن شتوان)  لكلّ منهم تجربته في عالم الرّواية، ولكلٍّ خصوصيته، وأشجانه مع الرقيب، والمساحة المُتاحة له من هامش الحريّة في بلده، والتي يتمّ التكرم عليه بها من قِبل السلطات السياسيّة المسؤولة عن الحقل الإبداعي، في الندوة اجتمع السياسي بمكوناته الكبرى مع الأدب ومدى التداخل بينهما بعد ثورات الربيع العربي.

الربيع العربي انعطافة جديدة في الأدب:

أجمع المحاورون على أنّ مما لاشكّ فيه أنّ الأحداث التي انطلقت منذ بداية عام 2011 كان لها الأثر الأكبر على المستوى الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ، إذ أنّ تلك الأحداث فتّحت شهيّة المبدعين العرب على الكتابة، في هذا المناخ الجديد “المُفترض” المشحون بالحريّة الإبداعية، الحريّة التي كانوا يواربون حيناً و يماهون أحياناً أخرى في استجلاء صورتها، وخاصة من كان تحت ظلّ السلطات القمعية في الوطن، لا بل حتّى من كان في الخارج، وتربطه علاقات اجتماعية هناك، فقد كان يتهيّب الخوض في موضوعات تعود عليه أو على أسرته بردّة فعل تلك الأنظمة.

 جاءت أحداث الربيع العربي، مهّدت الطريق وفتحت الأبواب أمام طرح قضايا، وإشكاليات فكريّة كُبرى تتعلّق بالعروبة، والإسلام، والحرية، والديمقراطية ومفهوم السّلطة، والعقد الاجتماعي والطائفي والمذهبي والإثنيّ، قضايا القومية الكبرى ، كلّ ذلك خرج للنور وأصبح العمل به بجرأة أكبر، هذه القضايا سابقاً إن طُرحت كان التهمة جاهزة لدى الرقيب، فالوهن من عزيمة الأمة، التشكيك بالعروبة وغيرها ..هذه التهم جاهزة، وحصّة الكاتب الاعتقال أو التكفير والإخراج من الملّة أو ربما القتل، والمثير للسخرية أن التقارير وملفات القضايا تلك يفوق عدد صفحاتها أضعاف صفحات الكِتاب أو المادة الأدبية المصادرة.

هذه المُنعطفات الزوايا الحادّة المُعتمة، مع ظهور الربيع العربي تمّ فتحها وتسليط الضوء عليها.. كلّ ذلك استدعى أساليب جديدة  للكتابة، والنظر إليها من زوايا و نقاط مختلفة عن السائد، من قبل و التساؤل هنا إلى أي مدى كان هناك تحوّل في أساليب السرّد بعدما تبيّن جلياً التّغيري الحاصل على صعيد الموضوع والفكرة، ومن هنا يغدو السؤال ملحاً هل وجد المواطن العربي ذاته في ذلك الأدب؟ هل عبّر عنه؟ وكان صورة أمينه لنهوضه وثورته، في وجه الأنظمة القمعية أم أنّ الأدب راح يشغله التّغني بالحريّة عن موضوعه الأساسيّ، الذي حرّك الرّاكد في الواقع العربيّ، ألا وهو المواطن المقموع .

  الروائي اليمنيّ علي المقري في ردّه على سؤال المُحاورة  فيما إذا كان هناك نِزاع دينيّ مذهبيّ في اليمن، وانعكاسه على مكونه السرديّ في الرواية.

 يتساءل المقري لماذا هذه الحرب؟ أو لماذا هذه الإشكالية الدينية في اليمن لصالح مَن ؟  يقول: لديّ رواية جديدة ستصدر قريباً تتحدّث عن ” القائد ” الدكتاتور، سيجد كلّ فردٍ منكم دكتاتوره الخاصّ فيها، هذا الدكتاتور بنكهةٍ عربيةٍ، تدور الفكرة حول روائي يُطلب منه أن يكتبَ سيرة هذا القائد فالروائي شاهدُ على الشهور الأخيرة من حكم هذا الدكتاتور.

 في نهاية الرواية يشهد الروائي خروج الناس من السجون، وهنا تبدأ المقارنة أو الحيرة بين السجن المعنوي والسجن العام، إذ لم يتوقعوا أن يخرجوا يوماً ، يخرجون متوحّشين يقتل بعضهم بعضاً، حتّى أنّهم على صعيد الدكتاتور لا يرون أنّهم انتصروا فعلاً، يعيشون كأنّهم موتى في حياةٍ جديدةٍ،  البيئة الجديدة بعد زوال الدكتاتور بالنسبة لهم هي أقرب إلى الموت من الحياة .

المَوروث الفكريّ بين ضفّتين

الروائيّة الليبية نجوى بن شتوان: وفي معَرض إجابتها عن سؤال المُوازنة بين الموروث الفكريّ الأدبي العربيّ، والمُكتسب الغربيّ وهل تكتب اليوم عن العالم العربيّ ضمن السياقات التي تثير الرواية؟

تقول في الحالتين أكتبُ لنفسي، سواء عندما كنتُ في ليبيا أو عندما أتيتُ إلى ايطاليا، الكتابة عندي ممارسة روحيّة ذاتيّة، أشعر من خلالها بالارتياح، ماذا أكتب؟ هو يعبّر عن نفسهِ.. مسرحيّة قصّة ليس مهماً المُهم أنّي عندما أفرغ الفكرة على الورق أشعر بالراحة.

بالطبع لديّ موروثٌ عربيٌ بالدّرجة الأولى، شمال إفريقي فوجئ فيه العرب في ( زرايب العبيد) هذا الموروث ا الإنساني ربّما يتقاسمه معي شخصٌ آخر في أيّة بقعةٍ من أوربا أو العالم، بالإضافة إلى إقامتي في ايطاليا ودراستي فيها شكّلت لديّ موروث متوسطيّ أيضاً، وهناك الكثير من القواسم التراثيّة، أو المُشترك بين الضفتين بين أوربا، الشرقية والشّمال الإفريقي، ربّما عملي الروائي القادم يتحدث عن ايطاليا بوجهة نظرٍ أوربيّة

هناك موروث أوربي متعدد أيضاً،عندما أكتب أكون متحرراً من كلّ شيء لا يكون الشّرق أو الغرب معي في بيتي تلازمني الفكرة التي اشتغل عليها فقط ،على العموم لم أقرأ كتاباً لكاتب عربيّ كتب عن الآخر بعينِ الآخر وليس بعينه هو.

وطنٌ يمنحكَ جائزةً بيدٍ، ويصادر كتابكَ بيدٍ أخرى…

 الروائيّ السّوداني الذي يكتب بالعربية ” هو يصرّ على تسمية نفسه كذلك ” عبد العزيز ساكن بركة صاحب رواية “مسيح دارفور”

 ورواية “الجنقو مسامير الأرض” وردّاً عن سؤال عن ظروف الكتابة في السودان قبل الربيع العربي، وعن منع روايته من النشر مع أنّها حصلت على أهمّ جائزة عربيّة وهي جائزة الطيّب صالح، مما شكّل له اغتراباّ مزدوجاً. 

تحدّث بركة ساكن عن الحريّة الإبداعيّة في السّودان وعن الهوامش الخضراء الممنوحة للكتاب

 يقول: الكتابة في السودان مُقننة بشكلٍ كبيرٍ جداً، طبقاً لقانون المُصنفات الفنيّة والأدبيّة، وكتابي وفقاً لهذا القانون من حقّ الدولة أن تصادره، نظام الحكم وضع قيماً للشعب السّوداني ” الشعوب السّودانية ” حسب تسمية الكاتب” !!

هناك مادّة في القانون السّوداني تنصّ متى تصادر الكتب؟ جاء فيها إذا طُبعت في بلد معادٍ للسودان، أو إذا كانت مُخالفة للسياسة السودانيّة، مخالفة للعادات والتقاليد، ومعلوم أنّ لدينا في السودان مئة وعشرين قبيلة و مئة وعشرين لغة ، الأهمّ من ذلك أنّ هذه اللجنة إذا ارتأت أنّ تصادر كتاباً فتصادره، في عام 2015 صودرت أوّل مجموعة قصصيّة لي اسمها “على هامش الأرصفة” في 2010 صادروا روايتي ” الجنقو مسامير الأرض ” علما أنّها حصلت على جائزة الطيّب صالح.

بعدها تمّ مصادرة كلّ كتبي بأمر من وزارة الثقافة والسبب بسيط جداً، السودان ينتمي للحضارة النوبية، وجاء المسلمون سيطروا على البلاد وفرضوا ثقافتهم، وأنا من خلال كتاباتي أريدُ تأكيد هويتي النوبية..؟!!

الروائيّ العربيّ في الغرب متّهم بإرضاءِ الغرب والمحاباة له.

الروائي علي المقري يرى أنك عندما تفكّر بأيّ طريق للحريّة تتهم بأنّك تُرضي الغرب في كتاباتك، هذا الغرب الذي يعتقد الأخر “العربي” أنّه الملاك أو كلّ شيء نبحثُ عنه ” الحريّة، التقدم العلمي ..” نحن نواجه إشكاليات كبرى، مازالت قائمة في مجتمعنا العربية وأهمّها ما يتعلّق بالمرأة، وحرّيتها حريّة الفكر والعقيدة كرامة الإنسان، إن وجدتْ هذه الأشياء في كتاباتنا فإننا متّهمون بإرضاء الغرب.

للأسف يعتقد بعضهم أنّ الكاتب يجلسُ وراء طاولة ويفكّر أثناء كتابته بماذا سيرضي الغرب، أنا لا أعتبر الجمهور الغربي معنيّ بالأمر، من يقرأ لغتي هو المعنيّ الأوّل بالتغيير وفهم المقاصد،وعليه لم أسعَ إلى ترجمة أحد كتبي إلى الغرب، بل إن مترجمةً هي التي اختارت روايتي ” اليهوديّ الحالي” واتصلت بي لتخبرني بذلك بينما أنا كتبتها للقارئ العربي ولم أقصد يوماً أنني أخاطب بها الغرب.

عندما نتحدّث عن الإشكاليات العربية نكتبها بلغتها، وهذه اللغة بما تحمله من ايقاع ومفاهيم تتوجه للقارئ العربي أولاً.

نحن الآن نعيش منفىً مضاعفاً، كنّا في بلداننا نعيش المنفى الداخلي واليوم في غربتنا نعيش هواجس وهموم الوطن.

 يقول المقري كتبت رواية عن رجلٍ يتغزّل بالنساء في فرنسا لم أتجرّأ أن انشرها، لأنّها لن تُقبل منّي لأن المطلوب منّي كيمنيّ أن أكتب عن اليمن ولن يُقبَل منّي غير ذلك.

إشكالية العلاقة بين الكاتب والجمهور والترجمة..

الروائية نجوى بن شتوان  تقول ربّما من حُسن الحظّ أن علاقتي سيئة بالجمهور فلا انتظر رضاه ولا غضبه.

في  فترة القذافي كانت كلّ الكتابة حسب مزاج الدولة لم أكن منتمية لأيّ وسيلة نشرٍ ليبية، كنت أطبع في الخارج على حسابي وأعطي عدداً من نسخي لأصدقاء يشاركونني الاهتمام.

الصِدام الأوّل لي مع الرقابة، عندما استدعتني نيابة الصحافة الليبية للتحقيق عام 2010 حوكمت على قصّة في خيالي

عند ذلك ظهر صوت الجمهور نتيجة الميديا، هذا الجمهور يُشبهني لكن ليس لديه الفرصة ليخرجَ وهناك جمهور أيضاً لا يُشبهني  

الآن بعد رواية “زرايب العبيد” صار لي جمهورٌ عربيّ، وأحاول أن أكوّن نفسي وأحافظ على المستوى الذي حققتهُ، ربما يتضّح ذلك في العمل الجديد الذي يتحدّث عن ايطاليا، سنرى كيف يستقبلُ الجمهور العربي هكذا عمل، رواية بقلم امرأة عربيّة مسلمة تعيش في أوربا الشرقيّة، لكنّها غير موجودة في الرواية ربما تسوء العلاقة بيني وبين الجمهور، وربّما تتحسّن،لا أعلم أنا في انتظار ذلك.

أمّا بركة ساكن في الحديث عن رؤية الجمهور له أو المحاباة للغرب يقول: تُرجم أحد كتبي وإنا أعيش في قريةٍ صغيرةٍ على الحدود  الإثيوبيّة، لم أكن موجوداً في الخرطوم، تُرجمت كتبي قبل أن أصلَ إلى أوربا وعندما جئتُ إلى أوربا جئتُ أحملُ معي السودان في ذاكرتي وأفكاري أحملُ البيتَ وكتبي، كلّ تاريخي،أكتب عن المجموعات المُهمشة التي في قاع المجتمع، وأنا من أفقر الأسر الموجودة في السودان هذه المجموعات الفقيرة جداً لا يمكن أن تنتج كاتباً بمئة سنة، لذلك أنا فرصتهم الوحيدة، ولا أريد أن أفوّت    عليهم هذه الفرصة في الحياة، ويجبُ أن أكون أميناً في التعبير عن أوجاعهم.

كتبتُ عن الطبقات الوسطى، لأنّ الفقراء لا يستطيعون القيام بثورة من يقوم بالثورة هي الطبقة الوسطى، بعد الثورات يوجد فقراء لماذا تقوم الطبقة الوسطى بالثورة لأنّها تشعر أن مصالحها تضرّرت، الفقراء بالأصل مصالحهم مضروبة.

وأنا أؤمن بنظريّة “القارئ هو مؤلف” والرواية الواحدة التي أكتبها هي بعدد القُراء..

الروائية نجوى تقول إن تجربتها في الترجمة محدودة وتعتبر الأمر شاقّ وهي ليست مسؤولية المؤلف، وإنما مسؤولية مؤسسات ولأنّها معنيّة بالنشر والتوزيع.

القسم الثاني من الندوة شهد حواراً موسّعاً مع ثلاثة أدباء

الصحفية العراقية إنعام كجه جي تحدثت عن رقابة السلطة الاجتماعية وأنها لا تقلّ قسوة عن  السلطة السياسيّة، خاصة مَن ينحدر من بيئة اجتماعية متماسكة أو قبيلة مثلاً، وعن الدافع الذي جعل منها روائية أكدّت أن الفضل “لجورج دبليو بوش” عندما غزا العراق وجدت أنّ المادّة الصحفيّة غير كافية للتعبير عن آلام العراق فكتبت رواية “الحفيدة الأميركية “

الشاعر والمترجم السّوري جولان حاجي تحدّث عن تجربته في كتاب ” إذا قامت الحرب” تجربة نساء سوريات خارجات من الحرب في سبيل توثيق يومياتهن ،جولان حاجي الذي يشتغل في الترجمة واهتمامه الأكبر بالأدب الهامشي أدب الأقليات في أوربا والعالم

أمّا نورا أمين الفنانة المصريّة التي تكتب عن العلاقة بالجسد، تحدّثت عن كتابها “تهجير المؤنث” وأنّها تفضّل الكتابة بالانكليزية لتروي الحكاية بأسلوب محايد، وخاصة قصص الاغتصاب السياسي والتحرش الجنسي

بعد ذلك قرأ كلّ منهم  نصاً إبداعياً له.

ثمة أسئلة عن علاقة بعض رموز الكتابة بالسلطة والتي بقينا زمنا طويلاً ننظر إليها على أنّها عاشت في الغرب وتشربت الفكر التحرريّ في منهجها وحياتها، لنتفاجأ بانحيازها للطاغية، ذلك كلّه يطرح التساؤل هل مازال الأديب يحتفظ بدوره الرّيادي أم أن الربيع العربي نحّاه جانباً؟ أدار جلسات الحوار الصحفيّة والشاعرة السّورية ياسمين مرعي والترجمة الفورية لغونتر أورت، رافق الندوة موسيقى عربية.

.