شظايا امرأة شرقيّة

انكسارات المرأة في رواية

موسى الزعيم

عن دار الدليل للطباعة والنشر في برلين صدرت رواية (شظايا امرأة شرقيّة) للكاتبة الفلسطينية باسلة الصبيحي وتقع الرواية في ثلاثمئة وأربع صفحات من القطع المتوسط.

شظايا امرأة شرقيّة رواية تعالج في محتواها، حالات صراع المرأة من أجل وجودها وكينونتها، من أجل فوزها بحبٍّ صادقٍ صافٍ، بعيداً عن تلوث الخيانات بمختلف مسمياتها. تصر الكاتبة على تسمية كلّ واحدةٍ من شخصيّات روايتها النسائيّة باسم شظيّة، دليل على حالة التشظيّ والضياع ، وأن هذه المرأة ضحيّة مواقف الآخرين أو ضحية الحالة الذكورية حسب سياق الرواية.

في الرواية تؤكد الكاتبة من خلال بطلة الرواية “أحلام” أنّ هناك الكثير من البشر يتعاملون مع الحب ّوفق المزاج الذكوريّ، ومصلحته الذاتيّة التي تدور غالباً في فضاء أنانيته وذاتيته والركض وراء رغباته، هذا الحبّ يُقولبه الرجل حسبَ مصلحتهِ ومشيئتهِ، في حين ترى بعض الشخصيات على مساحة الرواية أنّ الحبّ قوت حياتهم، وإن توالت النكسات، على العموم على مساحة الرواية لم أشهد حالة حبّ صحيّة أو حقيقية، كلّ القصص كانتْ مفعمةً بالانكسار والوجع عدا قصّة “ايستر” مع زوجها وقد مرّت في إشارة عابرة ليس أكثر.

ترى الكاتبة في روايتها أنّ الكثير ممن يجلسون على مأدبة الأدب، لكن أيضاً قلّة منهم يفهمون معانيه، هم فنانون مجتهدون فقط في تبديل الأقنعة.

من جهة أخرى لعل اختيار الكاتبة  الطبيبة أحلام بطلة لروايتها يحمل دلالات معينة .. أحلام التي كانت تدور في فلك الطبّ الجراحي ومن ثم طبّ الأعصاب والطبّ النفسيّ والتي عملت في مركز رعاية النساء المُضّطهدات حيث أنّها في البداية عوّلت على اختصاصها في الطبّ الجراحيّ  كمنافسة للرجل وفي إثبات ذاتها، وهذا ما ظهر أيضاً في مشكلة والدها الذي تعرّض لخطأ طبيّ من طبيبٍ “ذكر” هذا الخطأ جعله يفقد ثقتهُ بكلّ الأطباء، فحسب مقولته ليس كلّ طبيب طبيباً بينما، أحلام تقنعه أنّ ما حصل خطأ فرديّ لا ينسحب على البقيّة، من جهة ثانية فالطبيبة أحلام في لحظة تعرّضها للخيانة من قبل عادل الذي أحبّته وعاندت أسرتها من أجله، وخاصة الأب فاقد الثقة بالأطباء، فعند أوّل صدمة تعرّضت لها، حاولتْ وبصمتٍ تغيير اختصاصها الطبي فتلجأ الى دراسة الأعصاب وطبّ الدماغ علّها تفهم الآليّة التي تنطوي عليها نفوس البشر، وربّما تفهم هذا السلوك وتجد حلا ًعقلانياً طبياً لمشكلتها ومشكلة بقيّة “الشظايا” اللواتي تتعاملُ معهنّ ومن حولها والتي ربطتها بهنّ علاقة المُشكلة ذاتها، إذ أنهنّ توحدن في ذات الوجع وهدف الانتقام بشتّى الوسائل، لكن أحلام تحاول توحيد آلية الردّ وتقنعهن باللجوء الى المواجهة لأنّ الانتقام كما قالت (آلاء) في حدّ ذاته جريمة، مقابل جريمة وهو ما ترفضه أحلام أيضا.

أحلام التي اتخذت من أسلوب الصمت آليةً وطريقةً  لها في التحدّي، قد اعتمدت طريقة “غاندي” في صبرها وصمتها على عادل إلى أن تفجّرت الحقيقة على مسرح المُكاشفة، ظهرت نساء مركز الأمراض النفسية ولكلّ واحدة من النساء المُحبطات المُتعرضات للخيانة دورها في كشف هذه السلسة من الانكسارات على الساحة الذكورية، وقد تعددت الخيانات والضحيّة امرأة، ولكلّ شظيّة أسبابها التي تختلف عن الأخرى.

فشيماء التي صدمت من الرجل الذي أحبته نتيجة عدة مواقف متشابهة، وأمّ مجهول “هكذا تسميها” الكاتبة هي مدرّسة اللغة العربية والتي فقدت والديها في حادث سير، بعد ذلك خطف الموت الرجل الوحيد الذي أحبته، هكذا وجدته فجأة ومات فجأة، خطف الموت الفرحة الوحيدة التي لمعت في سماء حياتها، فقررت الاعتزال في مستشفى الأمراض النفسيّة ليضاف اسمها كشظية بين مثيلاتها

وكذلك زهراء التي تعرفت إلى شاب ثمّ لا تعرف لماذا تركها وهرب، لنتكشف بعد ذلك أنّه التحق بصفوف المجاهدين في إحدى جبهات الشرق، في حين ظلّت هي تبحثُ عنهُ وقلبها معلّق به، لكن ذلك شكلّ لديها صدمةً نفسيّةً أودت بها الى أن تكون شظيّة.

على الصعيد الذكوريّ تظهر شخصيّة أبو محمود في الرواية حارس المبنى، أو مُستخدم مركز الأمراض النفسيّة تظهر على أنّها شخصيّة عميلة، تعمل لصالح عادل زوج أحلام، في حين نعرف فيما بعد أنّ أبا محمود كان يعمل في الأصل مدرس رياضيات، وهو يحمل إجازة جامعيّة، لكن الظروف ألجأته إلى هذا العمل، تريد الكاتبة أن تلمّح إلى أن مستوى الثقافة أو الشهادة الجامعيّة لن تكون رادعاً أو مانعاً من دناءة الفعل، ووضاعة التفكير لدى البعض.. من جهة ثانية أرى في اقحام شخصيّة المُقدم رؤوف بتسميتها المعروفة في الداراما السورية جاءت في غير سياقها الروائي وكأنّها اقحمت اقحاما ًعلى الرواية .

أمّا روز والتي تعرفت إلى شابّ فلسطينيّ ربطتها به علاقة حبّ، ولأنّه من غير ديانتها فقد رفض الأهل زواجهما فهربتْ معه إلى ليبيا وبعدها تحدث لها انكسارات عاطفيّة وحياتية فتلجأ إلى ألمانيا، ولم تجد مأوى فيسوقها قدرها إلى مركز الأمراض النفسيّة لتروي حكاية عذابها، و لتصير شظيّة أخرى بين مثيلاتها.

من حيث البناء الفني قسمت الكاتبة روايتها إلى سبعةٍ وأربعين مقطعاً منفصلاً أو عنواناً فرعياً، تراوحت هذه المقاطع في عدد صفحاتها بين الصفحة الواحدة لكلّ مقطعٍ، وعشرات الصفحات، ومن العناوين الفرعيّة لهذه المقاطع، نقرأ على سبيل المثال ” حياة أحلام ، مقهى الحياة، زيارة أحلام إلى الجامعة، اعتزال شيماء الحياة، صباحات أيلول العابسة، مي صفوان وخليل جبران، انتقام المُغتصبة ،أبو محمود والمسدس، ساعة التخلّي، الجلسة المنسيّة، والستارة..” وغيرها من المقاطع  التي كانت تحمل أحياناً عناوين سياقيّة تحرّك الأحداث وتدفعها إلى الأمام، من خلال هذه العناوين يمكن توقّع الحدث أحياناً، كما في زيارة أحلام إلى الجامعة مثلاً، أو لقاء روز و سلوم  وغيرها.. الرواية تسير في خطّ تتابع الأحداث وإن كانت الكاتبة أحياناً تعمد في حبكتها إلى اخفاء بعض الحقائق أو إيهام القارئ بأمر لم يحدث، كما في حالة موت فيحاء مثلاً، الرواية سارت وفق المنطق التقليدي من بداية وعقدة وحل، فقد تجمعت كلّ الأحداث في بوتقة واحدةٍ وانصهرت تباعاً لتصل إلى النهاية حيثُ محاكمة سارقي القلوب وخائني العِشرة وإن كانت تلوثت يد بعضهم بالدم فالرواية أحياناً كانت لا تخلو من الحبكة البوليسية في فكّ بعض عُقد الأحداث والتشويق والتسويف والإيهام في بعض الأحيان لتختفي بعض الحقائق أو تتأجّل لتظهر على مدى صفحاتٍ بعيدةٍ وغالباً ما كانت تنهجُ بعض المقاطع أسلوب الخطف خلفاً ففي كثير من الأحيان كانت ترجع بالأحداث الى زمن مضى على طريقة التداعي.

من حيث الفكرة العامّة بطلة الرواية “تينا” غادرت دمشق بسبب الأحداث الأخيرة فيها، لتتجه إلى ألمانيا وإلى برلين تحديداً، يمتدّ المكان في الرواية بين دمشق وبرلين واسطنبول والجولان والعراق وليبيا و شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية، إلاّ أنّ المكان الرئيس ومسرح الأحداث على مساحة الرواية كان مركزاً للعلاج النفسيّ أو مركز الأمراض العقليّة، تجتمع فيه مجموعة من النساء المصابات بالإحباط  والعُقد النفسيّة و الأمراض، هنّ يلجأن إلى هذا المكان منكسرات، يعانين من العُقد النفسيّة فقد خضن تجارب حياتيّة مؤلمة، لهنّ خبرات فاشلة في الحبّ مع ذكور سببوا لهنّ هذه الصدمة النفسيّة ” تصرّ الكاتبة على تسمية كلّ واحدةٍ منهنّ شظيّة”  كما أنّها تصرّ على تسمية طرفيّ الصراع  في الرواية وبكلّ وضوح (ذكور وإناث) أو على تسليط الضوء على قضيّة الذكوريّة الطاغية التي تسبب الكثير من القهر والحُزن للطرف الآخر ” بحجّة أنّه الذكر ومن حقّه التصرّف بمشاعره كيفما يشاء و ما عليها سوى، الدوران في فُلك الذكر والخضوع لرغباته وما يسترعي الانتباه أن الطبيبة المعالجة في المركز هي أيضا ضحية أو شظيّة.

من جهة ثانية تصوّر الرّواية مجموعة من الشباب والذين تربطهم بها علاقة الشلّة وزمالة الدّراسة  تصوّرهم في حالة من عدم المسؤولية واللامبالاة، فهي التي يقتلها اضطرابها وقلقها على نتيجة امتحان عادل والتي سيحدد من خلالها موعد زواجها به، تجد أن عادل مع مجموعة من أصدقائه في حالة من اللهو والمرح، بينما هي تحترق أعصابها انتظاراً، فالروائية تعوّل على مسألة حساسية المرأة، وطغيان عواطفها، في حين إن حققّ أحدهم نجاحاً ما يلجأ إلى تضخيم هذا النجاح.   

تبدأ الرواية بالمقولة التالية” فجعتُ أنا بكِ يا دمشقُ وكأنّك الشيء الذي قصم ظهري في هذه الحياة، ما جرى لم يكن في الحسبان، لماذا لم تلّوحي لنا عبر أنفاس عشقنا لك . قبل خمسة أعوام أتيت إليك يا دمشق شعرت بالدفء بالحنان الروحي، تلعثمت خجلاً مما وهبتنا إياه” تفتتح الرواية بالانكسار الأوّل وهو مغادرة دمشق، المدينة التي أحبتها “تينا” وعشقت ترابها ووجوه ناسها وطيبتهم تُغادرُ مرغمةً بحثاً عمن تُحب فقد سبقها بالهجرة إلى بلدها الأصلي ألمانيا.

من جهة أخرى تتطرّق رواية  شظايا امرأة شرقيّة إلى قضيّة في غاية الحساسيّة، لعلّ النصوص العربية الأدبيّة تجنبت إلى حدّ ما  الخوضَ في تلك الموضوعات، فحتّى اليوم لم أقرأ عملاً روائياً عربياً تطرّق لمثل هكذا  قضيّة وهي حبّ أو (علاقة المحارم)، فأصل مشكلة أحلام مع زوجها وحبيبها عادل هي دخول عمتها فاديا على الخطّ، و إقامتها علاقة غير شرعيّة مع عادل، مسرحها سرير أحلام، وغرفة نومها، وليس بسريّة، بل علاقة يشوبها الكثير من الوقاحة والتحدّي غير المُعلن لكلا الطرفين، فاديا “الحبّ الخطيئة” تنتهي نهاية مأساوية، تُقتل ويُغلق ملفّ موتها بصمت على مسرح الرواية، ولعل الكاتبة أجابتْ على سؤال مُبهم هنا هل تُفضح هكذا علاقات؟ أم تبقى في إطار الكتمان والسريّة حرصا ًعلى سُمعة الأسرة والعائلة بشكلٍ عام، فاديا ماتت بصمت وطويت معها صفحتها كما طُويت أحداث غيرها في الرواية  بأسلوب الصمت البارد.

تسوق الكاتبة أحداث روايتها بهدوء، دون صخب أو مفاجآت ضخمة، بلغةٍ حياتيّة بسيطة، بعيدة عن التكلّف، إلاّ أنّها تشكو أحياناً من قلّة الصور، والحفر في عمقِ المعنى، ففي لغة السرد، تلحظ أنّك تستمع إلى أحاديث نساء عاديات، قلّما تميّز فيهن هذا لانكسار على صعيد اللغة وكأنّ الكاتبة أرادت أن تُظهرهنّ بمظهر القوّة رغم ما مررن به من فواجع، الشخصيّات في الرواية، تتحدّث بعفويتها الحياتيّة دونما تكلّف، مما يجعلها قريبة من المُتلقي، يسهل التعاطف معها إلاّ أنّه وحسب قناعتي كان السرد في بعض الأحيان فضفاضا ً يدخل في تفاصيل كثيرة، تدخل ضمن سياق البديهي الحياتي بعيداً عن اللغة الأدبيّة، في حين أنّ الاشتغال على التكثيف في لغة النص الأدبي يمنحه متعة مشاركة المُتلقي في تفكيك حوامل اللغة المعنويّة والسياقيّة.. في شظايا امرأة شرقيّة كان الانحياز الى اللغة الحكائيّة اليوميّة الخالية من متون الحفر والتدقيق في جدور المعنى، وتشظّي الفكرة معنوياً، ما أقصده هنا بالتشظي أنّ تكون اللغة حمّالة للأفكار والتأويلات المتعددة والرموز.

على الصعيد العام استطاعت الرواية أن تلامس بعض جراحات المرأة الشرقيّة، وأوجاعها، ولعل ما زاد في هذا التشظّي فكرة الهجرة والنزوح الأخيرة من الشرق، مما جعل الأمور تبدوا أكثر تفسّخاً في بعض الأحيان، وخاصّة عندما بدأت المرأة العربيّة المُهاجرة أو النازحة الى أوربا بدأت ترى مساحة الحريّة المُعطاة لها، والتي تصون كرامتها حسب رأيها، مما جعلها تتلمس جراحها وأوجاعها القديمة في شرقنا العربي، وتعيد ترتيب أولياتها الحياتية تحاول كسر النمط المألوف.

في الرواية تقول أحلام “الأسماء ليست كما يقولون لأصحابها نصيب منها” لكل امرىء من اسمه نصيب” فلو كان ذلك صحيحاً لما كان عادل ظالماً”

تنتهي الرواية أن تجتمع الأحداث وتتفكك على مسرح الحياة، هذا المسرح الافتراضي الذي تتمّ المكاشفة عليه، ويأخذ كلّ واحدٍ جزاءه المفترض، دونما دم أو رصاص، الانتقام بالصيغة الباردة يحقق نتيجته حسب رأي الكاتبة. 

يُذكر أنّه العمل الأدبيّ الأوّل للكاتبة الصبيحي فقد سبق لها أن كتبتَ القصة القصيرة والشعر المحكي.

.