“أيزات”

 رواية  توثيق ليوميّات الحجر الصحّي في زمن كورونا

موسى الزعيم

يبدو أنّ هاجس الأمكنة يشغل الكاتب الدكتورعبد الحكيم شباط، إذ يسعى من خلال أعماله الروائية إلى توثيق وتسجيل تفاصيل حياتية لها علاقتها بالتغيير الديمغرافي الذي  يطرأ على أمكنة لها خصوصيتها في حياة الكاتب، وقد أصدرمن روايته ” شارع بودين”  التي تحدثت عن التغير الحاصل في البنية السكانيّة والاجتماعيّة لمدينة برلين بعد تزايد أعداد العرب فيها، ومن جديد ينقل عدسته بطريقة احترافية إلى مدينة الدّوحة، ففيها تدور أحداث روايته الجديدة “أيزات” والتي صدرت مؤخراً عن دار الدليل للطباعة والنشر في برلين، تقع الرواية في مئتين وخمس عشرة صفحة من القطع المتوسط.

 تبدأ الرواية  بتفسير معنى الاسم “أيزات” لنكشف خلال الصفحات الأولى أنّ بطلة الرواية فتاة قرغيزية تعمل في أحد مطاعم الدّوحة مطعم “برج الحمام” يفسر الراوي معنى اسمها، ويغرق في وصف جمالها، وما يعكسه ظهورها في حياته فجأة حسب أو كلمة في الرواية ” بلا موعد التقينا..

يعكس اسمها الغريب تمازج المؤثرات الفارسية التركية، فالمقطع الأول من اسمها (أي) يعني بالتركية القمر، في حين أن المقطع الثاني “زات” يكون تحريفًا لكلمة “زاد” الفارسية، وهي تأتي بمعنى البنت، فيصبح معنى الاسم “بنت القمر” وربما هذا يذكرنا باسم شهرزاد، فكلمة “شهر” تشير إلى البلد أو المدينة، فيصبح الاسم بنت البلد أو بنت الأمراء كما يرى البعض، ويستعمل اسم “أيزات” فقط للإناث في قرغيزستان، ويفهمه بعض الأتراك على أنّه يعني “البنت الحلوة العذبة” في حين يستعمل للإناث وللذكور في مناطق أخرى مثل كازاخستان وأوزبكستان”

بدايةً: فإنّ الراوي “وهو بطل الرواية”  يسوقه حظّه  في رحلة عملٍ  إلى الدوحة، ونتيجة الحظر المفروض، واجراءات منع السفر حيث يبقى لعدّة أشهر في الدوحة..

“.. ولكن مع انتشار هذا الوباء اللعين توقّف كلّ شيء واجبرنا حظر التجوال، وتفشّي العدوى على أن نعتصم ببيوتنا، صرنا مثل سكان طِروادة إبان الحرب الضروس، لا يخرجُ أحدنا إلاّ لقضاء حاجة ملحّة، فصار الوقت كلّه أمامك يجثم كالجثة الهامدة ..”

 يُغرق بطل الرواية في وصف الأمكنة، بعين رحّالة  تشغله تفاصيل الجغرافيا، والتاريخ وحياة البشر، وتعيد إليه ذكرياته، وعلاقته مع الماضي  المكانيّ وعلاقته بالناس في تلك الفترة، و يبدو أنّ أصغر تفصيلة في الحاضر، تستطيع إثارة مكنوناته واسترجاع، مخزون ذاكرته السردي.. ففي رواية أيزات  تبدو تداخلات الزمن من خلال ثلاث مُسستويات.. 

 المستوى الأول مستوى الحاضر وهو الفضاء الذي يتحرّك فيه البطل زمانياً، زمن حَبك الأحداث ولقائه بأيزات و التعرّف إليها، وهو الأقرب إلى لغة الحاضر، وغالباً ما يتحدّث فيه الراوي بلغة شاعريّة تصويريّة بسيطة، تدخل في دقائق الحياة البسيطة لأيزات ولمَن حولها، يشتغل الكاتب فيه على وصف  واقع الحياة المعاصرة  وتطورها في الدوحة من خلال الطّفرة النفطية والمالية، وأثرها على حياة الناس وارتفاع مستوى الغنى، وأثر ذلك في التحولات الاجتماعية في المنطقة.  

“..وحين تقل الواردات على النفس من العالم فإنّها تستدعى مخزونها المَطمور في داخلها من الذكريات” وهنا يبدو المُستوى الثاني للزمن الماضوي، وفيه يركن الراوي إلى ذاكرته البِكر ينضح منها، يتنقل عبر الأمكنة التي عاش فيها، أمكنةً شكّلت المكون المعرفيّ الأول له، لنكشف فيما بعد أنّ خيطاً روحيّاً يربط هذا الحاضر المتمثّل بظهور أيزات على مسرح حياته، “بوفاء” حبّه الأول والذي عاش  خيبته  بسب الفقر “إذ لا ستائر لنوافذ بيتهم على حدّ زعم أمّ وفاء التي رفضت زواجهما”.

من جهة ثانية: نقف عند ملمح له خصوصيته في كتابات الدكتور شباط وهو القادم من خلفية علمية لها اهتمامها بالفلسفة وعلم الاجتماع، فالمقولات الاجتماعية لكبار الفلاسفة و دارسي علم الاجتماع  وعلم النّفس وتأويلاتها حاضرة في الرواية  لـ (غوته ونيتشه وماكس فيبر) وغيرهم، استطاع توظيفها في المُتون  بشكلٍ متناسقٍ مع الواقع الاجتماعي للمكان الذي كان يعتني بدرسه وتحليله في أيزات.  

ومن خلال ذلك، يمكن تصنيف رواية أيزات على أنّها رواية تسجيلية، إذ غالباً ما يهتمّ هذا النوع من الكتابة بتوثيق الأخبار والنقل الواقعي للحدث، ومعاينة الراهن مما هو شخصي ّأو اجتماعي أو سياسي وتوثيق ذلك، وهنا يبدو أن تدخل العامل الطبي أوالوبائي ” كورونا” على خط ّ الحدث المعاصرووانعكاسه على الحالة النفسية والاجتماعية لأبطال الرواية، ومَن حولهم، على عدّة أصعدة  مكانية  بين الدوحة وبرلين وسوريا وقرغيزيا وغيرها.

 في البنية المكانية للرواية

في أيزات أربعة أمكنة تشكّل الفضاء الروائي العام.. تتحرّك فيه الشخصيات التي كانت في الغالب حاملة للأفكار والمشاريع الفكريّة والحياتية.   

هذه الأمكنة يمكن التوقّف عندها فمن خلالها تتشكّل الخلفية السرديّة  للرواية، وقد ارتبطت بشكل وثيق بالمُعطى الزماني للراوي، فهو قطب الدائرة في الفضاء السردي العام في الرواية، ومن خلال ذلك ينقل عدسة السّرد بين هذه الفضاءات.

فالفضاء الأول: مدينة الدّوحة التي سافر إليها واضطر إلى البقاء فيها  بسبب جائحة كورنا، وهي الفضاء الحاضر في لغة السرد، فيها تعرّف الراوي إلى أيزات وفيها يغدو الحديث عن الواقع “المُودرن” وما تتّصف به هذه المدينة من مُعاصَرة وحداثة ماديّة وحضارية، من خلال النهوض والتخطيط الدائم نحو المستقبل، بالمقابل يكشف حالة العَمالة الآسوية الوافدة، ومآسيها من الحرّ الشديد والاهمال وتعاسة ظروف السكن، ومعاناتها في الوقت الحالي إبان وباء كورونا.

” بالمقابل كان  لابد من السفر عبر الذاكرة” باعتبار أنّ الفعل الحالي للحياة شبه متعطّل بسبب “كورنا” فالفضاء الثاني أو الحديقة الخلفية للراوي محفوظ في مستودع الذاكرته ومرابع صِباه في الجنوب السّوري، حين ولد بطل الرواية ونشأَ هناك.. يغرق في وصف ذلك المكان وتلك الخرائب الرومانية، لما تحمل من روح الأسطورة، وعمق المشهديّة الموغلة بالدّهشة والغرابة والأسئلة الطفوليّة الأولى للحياة وعلاقته بالمكان تغدو في أشدّها مع ” شجرة التوت” المزروعة في أرض الدار، والتي له معها حكايات لاتنسى، حكايا الطفولة ودهشتها وطرافتها، حاضرة في لغة السّرد، من جهة أخرى لا يفوّت الفرصة فينتقل فجاة إلى حاضر شبابه ليمرر قضيّة من قضايا الفساد الاجتماعي أوالأخلاقي، ورصد تغيّر بعض المفاهيم والعادات والتقاليد، بروح لا تخلو أحياناً و من الطرافة ” كقضيّة الهدية للناجح، أو العروسين والتي تتمثل عادةً في ساعة حائط، في مجتمع لايقيم للوقت وزناً أو هو آخر اهتماماته..”

الفضاء الثالث قرغيزستان وهو المكان الذي ولدت فيه أيزات، الفتاة التي كانت محطّ اهتمام الراوي البطل على كامل مساحة الرواية..

ينقل فيه الراوي فضاء الوصف إلى هناك، حيث يُسهب في وصف القرية التي ولدت فيها أيزات “شيت نورا” التابعة لقضاء “نارين” والعاصمة “بشكيك” والتي هي بالأساس من أعمال الاتحاد السوفييتي السابق، حيث الجبال والأنهار والحياة الريفية، لتتخيل أنّ البطل انحدر من هناك، أو أنّه يعيش الآن في تلك المنطقة أثناء حديثه عن دقائق وتفاصيل تلك الأمكنة، يصفها بشكل جغرافي بل أحياناً

يحلل أسماء القرى والأنهار والجبال، ويدخل تفاصيل حياة الناس، ونمط معيشتهم وعاداتهم وتقاليدهم.

كلّ ذلك من منطلق اهتمامه بأيزات ومحاولته الدوران في فَلكها، ومعرفة كلّ شيء عنها أو محاولة ايهام القارئ بهذه المعرفة، ولم يقتصر على ذلك، بل نقل عدسة الوصف عبر الزمن ورصدَ التحولات الجيوسياسية التي أصابت المنطقة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ..

الفضاء الرابع برلين خاصة وألمانيا عامة، برلين التي ينتقل إليها الراوي، ويصف فيها هدوءه واشتياقه لها بعد أن عاش فترة الحجر الصحي في الدوحة، ولمدّة سبعة أشهر تقريباً؛ برلين غدت بالنسبة له الوطن البديل فلم يعد غريباً فيها.

فحين وصل إليها قبل ثلاثين سنة، راهنه أصدقاءه، وكذلك راهن هو نفسه على أنّه لن يطول المقام به فيها، لكنه سرعان ما يجد نفسه يألفها، ويعتاد كلّ شيء فيها، بل ويحبّه، فالنظام العام الدقيق فيها وصدق الناس واحترامهم لخصوصية الآخر وللزمن والعمل، تراه يحبّ  قهوتها” فأول شيء فعله عندما عاد إليها تناول كوب قهوة في محطتها الرئيسة على نهر شبريه” واعتاد طعم خبزها الذي نفر منه في البداية حتى صار لا يستغني عنه، وشوارعها ومقاهيها التي تعكس ثقافات مختلفة؛ برلين التي أصبحت مستودع ذكرياته المعاصر وفيها نمطّ حياته الجديد، ومقرّعمله، رغم  قصص الاحتيال والخيبات التي تعرّض لها على يد مجموعات لها خصوصيتها.

 في شخصيات الرواية

 في الرواية  شخصيتان رئيسيتان هما أيزات وشخصية الراوي الذي كان على متن الرواية كاملة لا يحمل اسماً، مما يسوق التلميحات حول أنّ الراوي – بطل الرواية- هو ذاته الكاتب، أعتقد لو أن الكاتب أعطاه اسماً لأبعد عنه هذه الحيثية ..

بالعودة إلى أيزات الفتاة القرغيزية الجميلة الطموحة اليتيمة، والتي تحلم أن تعمل مضيفة طيران تمتلك الجمال والطموح والإرادة القوية في تعلم اللغات، فهي تتحدث العربية والروسية  والانكليزية والتركية بالاضافة إلى لغتها القرغيزية، أيضاً تجهد في المحافظة على عفتها وكرامتها في مجتمع تحاول فيه الأنياب البشرية النيل منها.. 

بالمقابل بطل الرواية الذي تتوضح شخصيته أنّه قادم من ألمانيا ومن برلين تحديداً، في مهمة عمل في الدوحة  يمتلك خبرة وثقافة عالية.

الراوي البطل الذي يمتلك العلم والمعرفة والمال، يحاول أن يقايض ما يملك بحبّ يبدو من الصفحات الأولى أنّ خطواته متعثرة، هل يقايض ذلك بحبّ أيزات التي هي أيضاً تبحث عن الحبّ والمال ومفاتيح المستقبل؟ يقول: ..” ولكن من جهة ثانية هي تملكُ الجمال والشباب، وأنا أملك المال والخبرة والمكانة، فهل يحقّ لي أن أقايض هذا بذاك…؟” يحاول الراوي اقناع نفسه بأن ذلك ما هو إلاّ ارهاصات ورجع حبّ مرّ به في صباه مع “وفاء” يحاول أن يخرج من هذه الدائرة بأن يحوّل ذلك كلّه إلى صداقة نقيّة ممزوجة بالمحبة الأبوية، ففي السنة التي ولدت فيها أيزات كان الراوي آنذاك يعيش قصة حبّه مع وفاء أي قبل ما يقارب ثلاثين عاماً…

يحاول البطل عبر مقاربة زمانيّة بين طفولته في الجنوب السوري “حوران” وطفولة أيزات في قرغيزيا ومعاناتها بعد وفاة والدتها ومن بعدها والدها في ظروف مأساوية دراميّة، هذان الخطان الدراميان في الرواية يلتقيان في الدوحة بفارق زمني كبير، يجعل الراوي يعيد حساباته ويحوّل هذه العلاقة إلى حالة من التّصعيد النقي ليقنع نفسه بأنّه خارج دائرة زمان أيزات، فيحاول أن يكون سامياً نقياً “طيباً” يقتصر دوره على التوجيه والمساعدة رغم عوائق “كورونا” التي تجتاح العالم” يقول: “أنا نفسي شعرت بأني أترك ابنتي الوحيدة في مدينة ينخرها الوباء كما ينخر السوس قطعة الخشب البالية” .

لا تخلو الرواية من شخصيات ثانوية تدور في فلك الشخصيات الرئيسة، من مثل زينب وايمان ووفاء وغيرها، والتي كانت دورها يقتصر على بث الأفكار ودعم الشخصيات الرئيسة، ومشاركتها في الآراء لم تكن فاعلة إلى حدّ كبير في دفع الأحداث أو تحريكها أحياناً، كانت هذه الشخصيات تدفع الراوي للتعبير عن فكرة ما، كانت تشغله، كما في موقفه من قضية التقمص مثلا والتي ناقشها مع الفتاة الدرزيّة أيمان.

 لعلّ ذلك كلّه من أهم سمات الرواية التسجيلية التي تبتعد قليلاً عن المتخيّل وتتحصن في  في ذات الراوي، تجنح لتسجيل الأحداث وتوثيقها، إن كان على الصعيد الداخلي أو على صعيد الأفق المُشاهد والمُعاش.

في الختام أتساءل لماذا تعمّد الكاتب أن تكون روايته حالة سردٍ واحدةٍ من الصفحة الأولى حتى الأخيرة دون تقسيمها إلى مقاطع يلتقط القارئ فيها أنفاسه، ومن جهة أخرى أيضاً أتساءل عن تدخّل الكاتب في بعض المقولات في توجيه القارئ أو التبرير له  كمثل قوله ” اسمح لي أيّها القارئ العزيز”أو “يبدو أنّي ابتعدت بكم عن أحداث قصتنا” وهذا ما يعتبر دخيلاً على النص الروائي المعاصر، إذ أن هذا الخطاب شهدته بواكير الرواية العربية حين كانت تمرّ في مرحلة الوعظ والارشاد. أيزات رواية تحمل الكثير من البوح الداخلي والأفكار الناقدة والمعاني الانسانية الطيبة واللغة البسيطة البعيدة عن التعقيد بحيث تكون قريبة إلى القارئ يجد نفسه أحياناً بين متونها وتؤكد أنه مازال للطيبين مكان واسعٌ في هذا العالم.

.