رجال لن ينساهم التاريخ
محمد صالح جاف/ برلين
الفيلسوف هيغل
إن الحياة هبة الطبيعة ….ولكن الحياة الجميلة هبة الحكمة …. مثل يوناني
ولادته ونشأته
جورج فيلهلم فريدريش هيغل الذي رأى نور الحياة في مدينة شتوتجارت الألمانية سنة 1770م من والد يكسب لقمة العيش كموظف صغير في وزارة المالية في ولاية فيرتمبيرج ومنذ صغره ونعومة أظافره تأثر بالحضارة اليونانية بعد أن انكب على دراساته للأدب اليوناني وكان يقول “أن الألماني المثقف يجد نفسه في بيته عندما يطلع على حضارة اليونان.
تأثره بالدين اليوناني:
ولقد استأثر فترة من الزمن دين اليونان على المسيحية وأصدر كتابا أنكر فيه معجزات المسيح وألوهيته واعتبره ابنا لمريم من يوسف ولكنه أتلف الكتاب فيما بعد.
روحه السياسية:
وأظهر روحا للسياسة فقد دافع عن الثورة الفرنسية وقام بزرع شجرة الحرية في ساحة المدينة وتخرج من جامعة توبنكن عام 1793 بشهادة أثبتت تفوقه في اللاهوت وفقه اللغة وضعفه في الفلسفة وكان في حالة يرثى لها ماديا واضطر إلى العمل التدريسي في بيرون وفرانكفورت.
وفاة والده:
توفي والده عام 1799 م وترك له ثروة تقدر بـ 1500 دولار وكان مبلغا لا يستهان به آنذاك وشعر بالسعادة والغنى وترك التدريس واستشار صديقه “شكنك” في عمل في مكان تتوفر فيه بساط العيش ووفرة الكتب ونصحه بالسفر إلى “بينا” وهي مدينة جامعية يحكمها دوق “نيمار” وكان العالم “شيلو” أستاذ التاريخ في هذه المدينة، أما فختة وشكنك في دور اعداد فلسفتهما ووصل المدينة عام 1801 وعين استاذا في الجامعة المذكورة عام 1803م.
انتصار بابليون:
وعندما انتصر بابليون على الجيش الروسي عام 1806 كان ذلك كارثة وعاشت المدينة جو رعب وفوضى وأغار الجنود الفرنسيون على بيت هيغل وسرقوا محتوياته فما كان منه إلا أن فر هاربا خوفا من بطشهم ومعه نسخة من أول كتاب له بعنوان “علم تجسيد الروح” وأصبح يعاني العوز والفقر مما دفع صديقه “كوتة” أن يستدرجه وطلب من صديقه “كينبال” مد يد العون إليه ماليا ثم قام بتحرير صحيفة في “نامبيرج”، وفي عام 1813 ترأس مدرسة ثانوية في “نورمبيرج” ثم أصدر كتاب “المنطق” بين عامي 1812-1816 واشتهر به وأصبح أستاذ الفلسفة في جامعة “هايدلبيرج”.
موسوعة العلوم الفلسفية:
وكتب في هذه الفترة كتابه “موسوعة العلوم الفلسفية” وعلى أثر انتشار هذا العمل العظيم عين أستاذا في جامعة “برلين” وأصبح عالم فلسفة منذ ذلك الحين حتى وفاته بلا منازع، ومن جميل الصدف أنه ولد بعد “جوتة” بيوم واحد وتفتخر ألمانيا بعيد مولدهما كل عام.
تعريفه للمسيحية:
وكان مولعا بالمساهمة والاشتراك في كثير من المناظرات والمحاضرات وفي إحدى هذه المناسبات سأله راهب عن تعريفه للمسيحية فقال “أن تحب لجارك كما تحب لنفسك” وعلى أثر هذا السؤال والجواب ألّف عشر مجلدات وقال بعد نشرها عبارته المشهورة “لم يفهمني سوى رجل واحد وحتى ذلك الرجل لم يفهمني جيدا”.
يقلد الفيلسوف أرسطو:
وكان معظم كتبه مثل “أرسطو” وهي عبارة عن محاضرات أو مذكرات تلاميذه التي دونوها أثناء سماعهم لتلك المحاضرات والمذكرات عدا كتابيه “المنطق” و” علم تجسيد الروح” ويقول في فلسفته “أننا لا نستطيع التفكير بالشيء إلا إذا قارناه بشيء آخر وأدركت أوجه الشبه والخلاف فيه، والفكرة تكون فكرة فارغة اذا تجردت عن العلامات ولا يمكن لشيء أن يوجد أو يكون له معنى إذا كان مجرد عن العلاقات والصلات وأكثر هذه الصلات هي صلة التعارض والتناقض مثلما قال “أرسطو” لمعرفة الأضداد أمر واحد هذا وأن حركة التطور هي حركة دائمة للتطور بين الأضداد والتوفيق بينها ودمجها ويقول فختة أن الموضوع وضده وتوحيدها معا يشكل سر التطور وكل الحقيقة فمثلا الرأسمالية نظام والشيوعية نظام آخر مضاد للرأسمالية وللتوحيد بين هذين النظامين أو الفلسفتين يؤدي إلى التطور بهما ومن هذا التطور ينبثق نظام ثالث أرقى منهما.
مهمة الدين في نظره:
وتطرق بالإضافة إلى الفلسفة والسياسة إلى الدين وها هو يقول وبصراحته المعهودة أن مهمة الدين هي البلوغ المطلق أنه هو الله والشعور به بأنه ذلك الذي تحللت فيه جميع المتناقضات في وحدة “إن الله هو نظام الصلاة التي تتحرك به جميع الأشياء وتعيش وتجد فيه أهميتها” ويقول في عبارة أخرى “إن الحياة لم توجد للسعادة بل لتحقيق الأعمال وإنجازها”.
رأيه في التاريخ:
ومن إعجابه للتأريخ فيقول أن تأريخ العالم ليس مسرحا للسعادة وفترات السعادة صفحات بيضاء فيه لأنها فترات انسجام خالية من الصراع” ويقول بهذا الصدد مرة أخرى “إن للتأريخ حركة منطقية وهو في الغالب سلسلة من الثورات وأن أعاظم الرجال ليسوا الخالقين للمستقبل ولكنهم وسطاء في تحقيق هذا المستقبل العبقري لا يضع سوى حجرا آخر في كوم البناء كما يفعله وفعله آخرون”.
ثورة 1830:
وانكب على فلسفته في السنوات الأخيرة في حياته وإلى وجهة النظر المحافظة بدلا من التوريطات المتطرفة في فلسفته فقد كتب بعد ثورة 1830 ما يلي “أخيرا بعد حروب واضطرابات استمرت أربعين سنة يسر الآن أن يرى نهاية هذا الصراع ويرى بداية سلام يسوده الرضى”.
أتباعه إلى اليمين واليسار:
وانقسم أتباعه ومؤيدوه من بعده إلى اليمين واليسار فلقد طور “كارل ماركس” فلسفة التأريخ “الهيغلية” إلى نظرية صراع الطبقات التي تؤدي إلى الاشتراكية التي لا مفر منها واتخذ ماركس الحركات الجماهيرية والقوى الاقتصادية كأسباب أساسية لكل تغيير أساسي سواء في عالم الأشياء أو في حياة الفكر ولهذا يقال “لقد وضع هيغل بيض الاشتراكية ونقشها كارل ماركس”
الحكومة البروسية وموقفه منها:
أيد “هيغل” الحكومة البروسية وحالفها وربط نفسه بها وبهذا التأييد والولاء عرض عليه مركز علمي كأستاذ في الجامعة وأطلق عليه أعداؤه ومعارضوه ومخالفوه “الفيلسوف الموظف”.
شروده في الذهن:
وقد أثر عليه تقدمه في العمر والكبر والهرم وبدا شروده في الذهن حتى أنه دخل مرة إلى غرفة المحاضرات بفردة حذاء واحدة في قدمه حيث ترك الفردة الأخرى من غير أن يشعر بها في الطين وهو في طريقه إلى الجامعة.
إصابته بالكوليرا:
وفي عام 1831 تفشى مرض الكوليرا في برلين ومات كثيرون وكان هو يشكو الضعف البدني والعقلي وأصيب بهذا المرض الخبيث ويعد مرض استمر يوما واحدا فقط وخرجت روحه وهو في منامه.
عصر ألمانيا الذهبي:
وما يجدر ذكره أن أوروبا شهدت ولادة ثلاثة من العباقرة في سنة واحدة وهم نابليون وبيتهوفن وهيغل وقد فقدت ألمانيا بين عامي 1827-1832 ثلاثة من كبار فلاسفتها وهم جوتة وهيغل وبتهوفن وبذلك كان عصر ألمانيا الذهبي ورحيل الفلاسفة.
المصدر كتاب “قصة الفلسفة” تأليف “ويل ديورانت”
مكتبة المعارف ـ بيروت ـ ترجمة الدكتور “فتح الله محمد المشعشع
الطبعة الخامسة 1405هـ ـ 1985 م