هاربون من الموت .. الطريق إلى أوروبا

 

“أستطيع القول، وعن تجربة شخصية، من بين كل معارفي ليس هناك أي شخص لم يكن أجداده لاجئين في زمن ما”.

 

قراءة: محمد عبد المنعم

 

تلك الكلمات جزء من مقدمة رواية “هاربون من الموت”، التي تسرد تفاصيل قصة واقعية، للصحفي الألماني فولفجانج باور، التي ترجمها جمال خليل صبح.

كانت هذه المقدمة إجابة عن أول تساؤل قد يخطر على ذهن ألقارئ حول السبب الذي يدفع صحفياً ألماني الجنسية، ومعه المصور الفوتوغرافي التشيكي ستانيسلاف كروبر أن يخوضا تجربة الهجرة النظامية إلى أوروبا، في قارب يحمل مجموعة من اللاجئين السوريين الهاربين من ويلات الحرب إلى مصر، ومنها إلى أوروبا، بطرق غير شرعية، في قوارب الموت.

بهذه المغامرة الفريدة، أو قُل المخاطرة استطاع الرجلان معايشة تجربة الهروب واللجوء على أرض الواقع، بعد أن أدعيا أنهما لاجئان من منطقة القوقاز.

يقول باور في مقدمة الرواية “تجربة اللجوء في حد ذاتها هي تجربة إنسانية عامة وشاملة، لم تفلت منها قارة على وجه الأرض، ولا ثقافة من الثقافات أبداً.

لم ترحم ظاهرة اللجوء أيَّ مجتمع على وجه البسيطة، من آسيا إلى أوروبا، انتهاءً بأميركا، بل أستطيع القول، عن تجربة شخصية، من بين كل معارفي ليس هناك أي شخص لم يكن أجداده لاجئين في زمن ما”.

 

الإسكندرية: البحث عن سفينة تُبحر إلى الشمال

الكاتب كشف في المقدمة أن الأحداث حقيقية، بما فيها المواصفات الشكلية للشخصيات، وأنه قرر أن يوثقها في رواية مصحوبة بمجموعة من الصور، لكن أسماء الأبطال فضَّل أن تكون مستعارة للحفاظ على خصوصية أصحاب التجربة.

من مدينة الإسكندرية يبدأ الجزء الأول من الرواية، مع انطلاق الرحلة المأساوية حين يلتقي الكاتب بالمجموعة التي سيكون بصحبتها، ومن هنا نتعرَّف إلى ثلاثة أبطال رئيسيين في الرحلة بالترتيب.

نلتقي عمار عبيد، أكبر المجموعة سناً، لديه زوجة وأولاد، هرب من سوريا عقب قيام الثورة 2011، أخذ كل مدخراته وأسَّس شركة استيراد صغيرة، حتى تبدَّلت أحواله مرة أخرى عقب قيام الثورة المصرية، فقرَّر الرحيل والهروب عن طريق قوارب الهجرة غير النظامية لكي يصل إلى أوروبا، أرض أحلامه التي ينوي أن يستهل فيها بدايته الجديدة.

ثم نقابل علاء وحسان، أخوين من أسرة ثرية في سوريا، تغيَّرت حياتهما حين تم استدعاء حسان للخدمة في الجيش النظامي السوري، الذي يوصف من قبل البعض بأنه “خدمة حتى الموت”، فقرَّر الأخوان الهجرةَ إلى مصر بشكل مؤقت، ثم محاولة اللجوء إلى دولة السويد، كي يلحقا برفيق، الأخ الأصغر لهما.

 

قد يتساءل القارئ مرةً أخرى، حول حال الأبطال قبل الخروج من سوريا، إذ يبدو أن الكاتب تعمَّد تجاهلها، كما تجاهل موقف أسرهم من هذه الهجرة وتجربة اللجوء للمرة الثانية.

فالكاتب اهتمَّ بحاضر هؤلاء اللاجئين، الذين انقلبت أحوالهم منذ بداية الحرب، أما عن الماضي وحركة الحرب في سوريا، فقد تحدَّث الكاتب بإيجاز عن الجهات المتنازعة في سوريا، ودول الشرق الأوسط أيضاً؛ لكي يضع القارئ في العالم العربي والأوروبي في الصورة، لكن كان التركيز الأكبر على تجربة الهروب والهجرة غير النظامية، بما فيها من مآسٍ.

 

البحر المتوسط: الاختطاف والعودة إلى سجن الإسكندرية

بدأت متاعب الرحلة من مدينة الإسكندرية، حين تعرَّض أبطال الرواية لمحاولة اختطاف، ناتجة من الصراع الدائم بين العصابات المسؤولة عن الهجرة غير النظامية، الأمر الذي اضطرَّ الأبطال وباقي المرافقين لدفع أموال إضافية، للخلاص من الموت المؤكد، بموت محتمل خلال الهروب.

لم تنجح محاولة أبطال الرواية للهجرة، وانتهت بهم الحال على شواطئ الإسكندرية مرة أخرى، لتتعرَّض المجموعة بالكامل للسجن.

هنا يبدأ الجزء الثاني من الرواية، ويستمر الكاتب في سرد الأحداث بأسلوب يعبر عن شخصيته الصحفية؛ فهو لم يكتفِ بوصف ما يرى ويعايش؛ بل يُرفقه بالتحليل والشرح، والبحث وراء كل ظاهرة يتعرَّض لها أو يشاهدها، الأمر الذي جعل سرد الأحداث بالرغم من حِدّتها يتَّسم بسرعة وسلاسة، يشعر معهما القارئ أنه بصدد تحقيق صحفي طويل، وليست روايةً عدد صفحاتها 214.

تفترق المجموعة بعد الخروج من السجن، وتكفَّلت السلطات المصرية بذلك، حين تم ترحيل الكاتب إلى بلده ألمانيا، والمصور الفوتوغرافي إلى التشيك، وعمار عبيد إلى تركيا، وأطلقت السلطات سراح علاء وحسان مرة أخرى، إلى مدينة الإسكندرية.

 

 

تركيا: مع عصابات التهريب إلى جنة السويد

وصل عمار تركيا ولَم تثنه تجربته المأساوية، ليبدأ مجدداً محاولات عديدة للهجرة إلى أوروبا، الأمر الذي يوقعه في شرك عصابات التهريب مرة أخرى، حتى ينجح في تحقيق حلمه في الوصول إلى ألمانيا في نهاية الأمر، عن طريق إفريقيا.

المحاولة ذاتها تكرَّرت من قبل كل من علاء وحسان، ولكن انطلاقاً من مصر، ليقبض عليهما من قبل شرطة السواحل في إيطاليا، التي أطلقت سراحهما فيما بعد.

وكانت هذه فرصة عظيمة لهجرتهما بَراً عبر أوروبا، إلى مدينة السويد.

 

أما عن الكاتب وصديقه المصور، فقد عاد كل منهما إلى بلاده، وعكف باور على تسجيل ما عايشه من أحداث في مدينة الإسكندرية، ومتابعة الموقف الأوروبي من اللاجئين، مع نقده، والتنديد بالإجراءات الصارمة التي تفرضها الدول الأوروبية على حدودها، مطالباً تلك الدول بفتح الحدود، وقد سجَّل موقفه داخل الرواية، تحت عنوان خاتمة ورجاء.

 

أبطال الرواية: كيف تتبع الكاتب أخبار رفقاء الرحلة؟

قد يتساءل القارئ: من أين للكاتب بأحداث الرواية بعد أن افترق عن المجموعة؟ يجيب الكاتب من خلال الأحداث، موضحاً أنه كشف عن هويته الحقيقية لعمار عبيد، خلال محاولة الهجرة الأولى، واتفقا على طريقة للاتصال في حال نجاح الأخير في الوصول إلى ألمانيا.

كما أعطى الكاتب رقم هاتفه الخلوي للأخوين علاء وحسان، ليستطيع الاتصال بهما حال نجاحهما في الهرب من مصر. وبالفعل التقى أعضاء المجموعة للمرة الثانية وفق اتفاقهم، كما التقى علاء وحسان في مدينة “ميلانو” الإيطالية، بعد أن تلقَّى اتصالاً تليفونياً من علاء يخبره بمكانهم.

 

انتهت الأحداث بوصول كل الأبطال إلى هدفه، ولكن كان هناك العديد من الأسماء والشخصيات التي التقاها الكاتب، ترك نهايتها غير محددة، ولم يتبعها ليظهر من هنا هدف آخر للرواية؛ أن في كل يوم نسمع عن اللاجئين وضحايا الحروب، فمأساتهم واحدة ومتكررة في مرارتها، تتكفل بها نشرات الأخبار، وبرامج التوك شو، وشبكات التواصل الاجتماعي، يومياً، ولكن في الحقيقة هم أهم من مجرد أخبار وأرقام، عن لاجئين يقبض عليهم، أو يموتون غرقاً، أو ينجحون في الوصول لهدفهم، إنها حياة بشر من لحم ودم ومشاعر.

 

اكتشاف الرواية: كلهم مجرمون في حق الإنسانية

أهم ما يميز تلك الرواية، أو بمعنى أدق التجربة، هو إلقاء الضوء على عصابات التهريب والهجرة غير المشروعة، فقد رصد الكاتب تعاملاتهم بالتفصيل فيما بينهم كأفراد تنظيم، وفيما بينهم وبين اللاجئين، الأمر الذي يكشف معه الكاتب عن خبايا مافيا تجارة البشر.

إنهم تجار بقايا الحياة، الناتجة عن الدمار الذي خلّفه المجرمون الأشهر؛ الحكام والجماعات الإرهابية، التي سبَّبت هذا الدمار، كما يرى الكاتب.

وتؤكد الرواية أنه لا يوجد تشابه في العالم بقدر ذلك التشابه، بل التطابق في القرارات والأفعال بين مجرمي الحرب وتجارها، فهم وجهان لعملة واحدة.

 

عن الكاتب:

هو الصحفي الألماني فولفجانج باور، وُلد عام 1970، يعمل في صحيفة “دي تسايت” الشهيرة في ألمانيا، وقد حصل على جائزة وسائل الإعلام الكاثوليكية، وجائزة “بريكس بايو_ كالفادو” الصادرة عن صحيفة “دي جيرو”، وذلك تقديراً لتقاريره المتميزة.

عن المصور رفيق الرحلة:

هو “ستانيسلاف كروبر”، ولد عام 1972، ويعمل في عدة مجلات واسعة الانتشار مثل “جيو”، “شتيرن”، و”ناشيونال جيوغرافي”.