جوته.. والاسلام والشرق

 

 

تقديم وعرض د. حامد فضل الله \ برلين

 

نشرت صحيفة فرانكفورت الجمأينة  الواسعة الانتشار قصيدتين لشاعر المانيا الأكبر،  جوته بعنوان: ” تمائم ” و ” هجرة “. قدم وعرض القصيدتين الكاتب والباحث في الأدب ديرك فون بيترسدورف.

يكتب بيترسدورف ” قصيدة  التمائم هي ضمن المجموعة الشعرية الكبيرة  لـ “الديوان الشرقي ــ الغربي2“، واصفا فيه نفسه ” بالمسافر” ومنطلقاً الى الشرق للتعرف عليه وفي نفس الوقت تقديمه لقرائه. هذا الشرق الواسع ، والذي يشكل جوهره العالم الاسلامي العربي مع النبي محمد و الذي تغنى به في شبابه ” أغنية محمد ” وديوان حافظ الشيرازي، الذي مهد له الطريق وهو يعلم، بانه لا يزال غريبا عن الثقافة الشرقية. أن واحدة من التحديات التي واجهته ” كوسيط” بين الثقافات ، هي التعامل مع ادعاءات حقيقة الديانات السماوية ، الإسلام والمسيحية. لقد ازداد التفكير مرة أخرى منذ عصر النهضة، حول النزاعات المحتملة بين الأديان. أما في منطقة الثقافة الألمانية، جاء طرح السؤال البارز في مسرحية لسنج ” ناتان الحكيم “. لقد أعلن السلطان صلاح الدين: ان من بين جميع الأديان لن يكون الا واحدا صحيحاً فقط ،  مما استوجب على ناتان ان يجد جوابا لذلك. في هذا الأفق يقف ايضا ديوان جوته”. قصيدة تمائم تتكون من خمسة مقاطع شعرية مفصولة عن بعضها البعض، كل منها يمثل تعويذة، لها وقع سحري وتأثير شافٍ على القارئ أو السامع. “لله المشرق \ لله المغرب”: انها ترجمة للآية الكريمة من سورة البقرة (2 ، 142) ويكتب كلمة إله بدلا من الله، ليخاطب في نفس الوقت المسيحيين.  ومقطع أخر مقترن بالأمل والدعوة للسلام ” الأرضُ شمالاً، والأرضُ جنوباَ ” تًرْقدُ آمنةً \ ما بين يديه”. وهي اشارة الى الحروب التي اجتاحت أوروبا، أثناء بداية كتابة “ديوانه” والكفاح في سبيل التحرر من قبضة نابليون وطغيانه، ومنها ايضا حملته على الشرق الأوسط . وأكثر جاذبية، هي التعويذة الأخيرة، التي تتعلق بعمليات جسدية بيولوجية أساسية غالبا لا ينتبه لها المرء، مثل التنفس. فجوته يربط تجربة التنفس كحركة مزدوجة من الشهيق (القبض) والزفير (البسط) بتجارب المعاناة والفرج في حياة الانسان، مما يعني قوله، ان مسار الحياة بالكامل يحدث من ايقاع النفس الاِلهي. ان هذه القصيدة تعبر بإيجاز شديد وشعرية أنيقة عن جوهر الاِسلام”.

هنا مقاطع أخرى من القصيدة:

*****                                                                               

هو ، لا أحدَ سواهٌ ، العدل

ويُريدُ لكل الناس العَدْل.

من أسمائِه المائة أجمعين.

سبحُوا بهذا الاسمِ المَكين

آمين !

*****              

يريُد الضلالُ أن يُرْبكَني ويُغْوِيني،

لكنك تَعْرفُ كيف تَهديني.

فإن قمتُ بعملٍ أو نَظمْتٌ الأشعارَ،

فأهدِني أنتَ سواءَ السبيل.

 

 ويكتب بيترسدورف عن قصيدة هجرة ــ Hegire وعنوانها مكتوب بنطقه العربي ورسمه الفرنسي

” من الذي يمكن أن يتحدث اليوم بصفاء وفرح عن اللقاء بين الشرق والغرب ويتصرف بحرية في معالجة صور الثقافة الاِسلامية؟ أكثر من مئتي عام تفصل بين القصيدة والحاضر، قادت الى فقدان هذا الحماس. قصيدة الهجرة وهي مفتتح للمجموعة الشعرية، الذي يجعل فيها جوته ثقافتين تتحدثان بعضهما لبعض و تحكي خروج أو هجرة النبي محمد من مكة الى المدينة في 1 هجرية 622 وايضا الهجرة من أوروبا هروبا من حروب نابليون وتدمير نظام الدولة القديم”.

“العروشُ  تتصدع ، والممالك ترتجف”. ويصوغ فيها ايضا أفكاره حول رحلته للشرق الواسع، ببطاركة العهد القديم والشخصية الاسطورية ” الخضر” الذي يشرب من نبع الحياة وشاعره الفارسي المفضل حافظ الشيرازي، الذي الهمه كتابة هذا الديوان، والحياة بين البدو والبازارات وحُور الجنة، الذي يقول عنهم القرآن الكريم: ” مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ” (سُورَةُ الرَحمنِ، الآية ، 76)

أن الصورة المرسومة للشرق تُظهره كعَالم مختلف عن الحداثة الأوروبية. فهو لا يخضع للتأمل، كما عرفه جوته: “فيتسع الايمانُ، وتضيقُ الفكرة”. أن هذا الايمان منذ نشأته لا يفصل بين الأرضي والسماوي.  فالقصيدة بالطبع دينية في المقام الأول، بالرغم ما تحفل به من تفاصيل حسية ــ الجو البطريركي، البرمكي، الغناء والحب والشراب وحراك الناس ــ لا تخدش الحياء، فالسخرية محببة والتهكم يدفع للابتسام.”

لقد كٌتبت القصيدة في اليوم الرابع والعشرين من شهر ديسمبر عام 1814 ، فهي إشارة إضافية لطابعها الديني والاحتفالي.

هنا ابيات مختارة من القصيدة الطويلة:

******                                                                             

الشمالُ والغربُ والجنوبُ تتناثر،

العروشُ تتصدع، والممالكُ ترتجف،

فهاجرْ أنتَ إلى الشرقِ الطاهر

              *****

إلى هناكَ. حيث الحقُ والطهْرُ والنقاء

حيث كانتْ لا تزالُ تتلقى من الله

وحى السماء بلُغَات الأرض

دون أن تُصدعَ رؤوسها بالتفكير.

*****                                                                                 

فيتسع الايمانُ، وتضيقُ الفكرة،

إذْ كان للكلمةِ عندهم شأنٌ أي شأن،

لأنها كانت كلمة تَنْطِق بها الشفاه.

 

يتكون الديوان من اثنى عشر كتاب، وهى على الترتيب كتب المغنى، وحافظ، والعشق، والتفكير، والضيق، والحكمة، وتيمور، وزليخا، والساقي، والأمثال، والبارسي، والفردوس. والديوان يكشف عن معرفة جوته بالحضارة العربية والقرآن الكريم والسيرة النبوية والشعر الجاهلي عن طريق الترجمات وعن معرفته بالأدب الفارسي ومصاحبته الحميمة لشاعره المفضل حافظ. وقصائد ذات المضمون الكوني والصوفي، مثل قصيدة “حنين مبارك”، التي تعتبر من أجمل قصائد الديوان، بل درته.

وهنا ايضا ابيات مختارة منها.

 

لا تقل هذا لغير الحُكَماء،

ربما يَسْخرُ منكَ الجُهلاء،

وأنا أثني على الحي الذى

حَن للموت بأحضانِ اللهيب.

في ليالي الحب والشوق الرطيب،

*****                                                                       

سوف تعرُوكَ منَ السحِر ارتعاشه

ثم لا تجفل من بُعْد الطريق،

وستأتي مثلما رَفَّتْ فراشة.

تعشق النور فتهوى في الحريق.

*****                                                                             

وإذا لم تصغ للصوت القديم

داعيا إياكَ: مُتْ كَيْما تكون!

فستَبقَى دائماً ضيفا يهيم

في ظلامِ الأرضِ كالطيفِ الحزين.

 

أين الآن، ونحن نعيش زمن التطرف الديني والعنصري ورفض الأخر والعنف  واستبداد الحكام وعبثهم والفقر والجوع والدمار، من رؤية جوته الدينية والكونية وإقامة الجسور من الحب والتسامح والآخاء والعدل وتعايش الأديان.

وهو القائل:

 

ــ أفعل الخيرَ لأجل الخير وحده !

*****                                                                                

ــ ماذا يفيدُ المتَفَقه في الدين ،

  أن يسد على الطريق ؟

  إن ما لم يُدْرَكِ الاِدراك الصحيح المستقيم ،

  لن يُعْرَف أيضا بشكل ملتوٍ سقيم.

*****                                                                                   

ــ سأظلُ أغني

  وأُرَددُ لَحنى

  وأهَدْهدُ نفسى

  بين الشرقِ

 وبين الغَرب

وليصبح جهدي

هو غاية مجدي !

*****                                                                                               

ــ من الحماقة أن يتحيزَ كلَ إنسانٍ

  لما يراهُ وأن يثني عليه !

 وإذا الاِسلام كان معناهُ أن للهِ التَسْلِيم ،

فإننا أجمعين ، نحيا ونموتُ مسلمين5 .

    

  

اعتمد كاتب هذه السطور، اثناء الاِعداد لهذه الورقة على ديوان الشاعر وبعض الدراسات عنه بالألمانية، وبشكل أساس على كتاب3 الأستاذ الجليل الراحل عبد الغفار مكاوي4، بمقدمته الضافية وشروحاته المفصلة. فمعرفته الواسعة باللغة الاِلمانية وجذور شعرية كامنة في النفس كبحها مبكرا وانفجرت مؤخرا، لتتجلى في ترجمته الرائعة لغالبية القصائد، عاكسا فيها روح ونفس الشاعر.   

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

1 ــ يوهان فلفجانج جوته (1749  ــ 1832)

2 ــ Johan Wolfgang von Goethe, West – östlicher Divan. Deutscher Taschenbuch Verlag, München 1997

صدرت الطبعة الأولى للديوان عام 1819

3 ــ  عبد الغفار مكاوي ، النور والفراشة، مع النص الكامل للديوان الشرقي لـ جوته. ( طبعة أولى، دار المعارف ــ القاهرة 1979) . (طبعة ثانية ــ أبو للو ــ القاهرة 1997)

كما توجد دراسة أخرى للديوان قدمها الأستاذ الكبير عبد الرحمن بدوي، شابها الكثير من الأخطاء (كما يقال). وثالثة للشاعر عبد الرحمن صدقي، يقول عنها مكاوي ” تُرجمت القصائد جميعها ترجمة رصينة بليغة ولكنها كلفت صاحبها البعد عن الأصل”. معتذراً له بصعوبة ترجمة الشعر ومستشهداً بعبارة الجاحظ ” ولا يجوز عليه النقل . ومتى حُول تقطع نظمه، وبطل وزنه وذهب حسنه، وسقط موضع العجب”.

4 ــ د. عبد الغفار مكاوي، درسَ في المانيا واستاذ الفلسفة في جامعتي القاهرة و الكويت سابقا.

5 ــ  الأبيات الأربعة الأخيرة ترجمة عبد الرحمن صدقي.